في زحام الحياة والأشياء ننسي أسماء وأشياء وقيمًا نبيلة! وما أكثر الأسماء التي كانت بيننا - ووسطنا - وأضاءت حياتنا بكل ما هو جميل ورائع ونبيل! أغلب هذه الأسماء - مع الأسف - نسيناه تمامًا، والبعض الآخر لا نتذكره إلا وقت المشاكل والأزمات العاصفة!! ولعل اسم الدكتور «جمال العطيفي» أحد هذه الأسماء المهمة والرائعة التي نتذكرها دائما كلما وقع حادث طائفي يهدد سلامة هذا الوطن وساعتها يتحدث الجميع - بوعي أو بجهل - عن تقرير «لجنة جمال العطيفي» عن التوتر الطائفي عام 1972 والذي يعد أكمل وأشمل وأصدق وثيقة رصدت وحللت ما يسمي بالفتنة الطائفية ولم تكتف بذلك بل وضعت الحلول وما ينبغي عمله للقضاء علي هذه الفتن الطائفية. لقد أسعدني الحظ عندما كنت أدرس بكلية الإعلام جامعة القاهرة وتتلمذت علي يديه عندما كان هذا الأستاذ العظيم يدّرس لنا مادة التشريعات الصحفية وحرية الصحافة ويشهد أبناء جيلي لهذا الرجل بأنه كان مثالا للاستقامة والنزاهة العلمية والأكاديمية وعندما أصبح وزيرًا للثقافة والإعلام ظل يواظب ويداوم علي دوره الأكاديمي معنا. ويظل كتابه «حرية الصحافة» الذي فاز بجائزة الدولة في القانون عام 1972 واحدا من أهم الكتب التي ناقشت هذا الموضوع وهو أول وزير مصري يسمح لرموز المعارضة المصرية بالظهور علي شاشة التليفزيون الحكومي ويناقشون وينتقدون رؤي وأفكار وممارسات الحزب الحاكم وقتها وهو «حزب مصر» ثم دفع ثمن ذلك كله باستبعاده من الوزارة كما سبق أن دفع ثمن نشر مقال جريء في الأهرام عام 1969 انتقد فيه عدم نشر بعض القوانين في جريدة الوقائع المصرية فتم اعتقاله لشهور وتلك قصة أخري ليس هنا مجالها. وقبل عام بالضبط من اعتقال د. العطيفي كان قد صدر له كتاب مهم جدًا عنوانه «من منصة الاتهام» - صدر عن دار المعارف 1968 واختفي الكتاب في ظروف غامضة فقد كان يتحدث عن «الحرية والعدل وأنهما لا ينفصلان الحرية حق والعدل ضمان له، والحرية والمجتمع لا يتناقضان.. الحرية للفرد مثلما هي للمجتمع.. وكيف يمكن التوفيق بين حرية الفرد وحرية المجتمع؟! هذا الكتاب الصغير الحجم - 244 صفحة- الثمين القيمة من فصوله القضاء والصحافة قتلت بريئا في ظلال المشنقة عندما كان العيب في الملك تهمة الموسم، آخر قضية عيب في الملك.. ويسبق ذلك كله مقدمة بديعة للكاتب الكبير الأستاذ توفيق الحكيم «ثم سطور العطيفي» نفسه التي يروي فيه قصة «هذه المذكرات». قراءة هذه المقدمة متعة أدبية وفكرية وهي ضرورية لفهم تجربة عريضة للدكتور جمال العطيفي في مجال العدالة والقضاء حيث يقول: حرصت منذ أول يوم بدأت فيه حياتي العملية بعد تخرجي في كلية الحقوق علي أن أسجل في يوميات منتظمة حوادث هذه الحياة، وتابعت تسجيل هذه اليوميات بعد التحاقي بالنيابة العامة فكنت أبث الورق ما ينتابني من هم وقلق وما قد تفيض به نفسي من مشاعر لا أستطيع كتمانها، ولم يكن يدور بخلدي وقتئذ أن هذه اليوميات ستصبح يوما مصدرا مهما أستخلص منه هذه المذكرات التي أنشرها اليوم. لقد شغفت بالكتابة منذ كنت يافعا بيوميات نائب في الأرياف التي كتبها أستاذنا توفيق الحكيم منذ حوالي ثلاثين عاما كنت ألاحق فصولها مع أخ يكبرني يدرس القانون وكانت مجلة «الرواية» قد بدأت في أول أعدادها عام 1937 في نشر هذه اليوميات، ومنها شاهدت صورة المجتمع قبل أن تتيح لي الظروف بعد ذلك أن أعيش هذه الصورة بكل مأساتها وأنا وكيل للنيابة كنت أدرس في هذه السن المملوءة بالآمال والأحلام وكان حلمي دائما أن أدرس القانون مثل أخي ومثل أقارب لي شغلوا مناصب مهمة في النيابة والقضاء ولم أتحول يوما في حياتي عن هذا الهدف الذي رسمته لمستقبلي. كان الاستعمار يقبض علي مصير وطني وكان الظلم والفقر يطبع حياتنا بالتعاسة ويملأ نفوسنا بالسخط وكانت دراسة القانون في مجتمع متخلف يعاني من الذل والاستعباد وهي النافذة التي تفتح مصراعيها علي الحق والخير، وكانت هذه الدراسة مفتاحا للعمل السياسي الوطني في ذلك الحين، وقد أحسست بعد أن تقدمت بي السن وعركتني التجربة أن عرض بعض الحوادث التي مرت بي وبعض المواقف التي انفعلت لها ليس مجرد تسجيل لفترة من مجتمعنا بل إنه قبل أي شيء تعبير عن الإنسان في علاقته بالمجتمع، الإنسان بضعفه وأحيانا بعقيدته التي قد تسمو به إلي القوة وتدينه من مثله العليا.. والمجتمع بما يذخر به من متناقضات وما يحفل به من قسوة أحيانا.. والقانون الذي ينظم هذه العلاقة فيعبر عن فكرة الحق والعدل، ويصبح في أحيان أخري سلاحا مصلتا في وجه حرية الإنسان، والقضاة الذين ينفخون في النصوص حياة جديرة بالإنسان وأولئك الذين تصبح النصوص في أيديهم جامدة كالحجر. ثم يختتم العطيفي مرافعته البليغة بالقول: وهذه في نظري القيمة الوحيدة التي يمكن أن تكون لهذه المذكرات. أما المذكرات نفسها فهي تستحق وقفة أخري!