** لم يتحرك أحد بالمرة كى يأخذ بيدنا لنستفيد مما جرى فى حادثة بورسعيد.. لم يكلف أحد نفسه بأن يعمل على أخذ العبرة، والدرس من تلك الكارثة المزلزلة، حتى تكون آخر ما سال من دماء فى ملاعبنا، لم يكن عند الكل تقريبا سوى الصراخ.. والبكاء، وأجاد الكل فن الكلام، والاستغراق فى التفاصيل، بعيدا عن الاهتمام بما ينبغى أن تكون عليه ملاعب الرياضة فى المستقبل، أخذا للدرس مما جرى. لم يكن هناك سوى الوقوف طويلا أمام الحادث.. وما جرى فيه، وغاب تماما الاهتمام بما ينبغى أن يكون عليه واقعنا من انضباط، والتزام، حتى لا تصبح حادثة بورسعيد مجرد حادثة قابلة للتكرار، بينما كان التحرك الحقيقى، الذى يمكن القول إنه كان تحركا إيجابيا، من جانب النيابة والشرطة، وهما الجهتان الوحيدتان اللتان تعاملتا كما ينبغى مع القضية، فقد صدرت مجموعة من التوصيات، أو ما توصف بأنها الوصايا العشر لتأمين الملاعب.. وهى التى وجد فيها البعض اشتراطات صعبة فى تطبيقها، مع أنها فى حقيقة الأمر، هو ما كان يتعين أن يصبح الشغل الشاغل للجميع، دونما استثناء. لم يتخذ المجلس القومى للرياضة أى خطوة حقيقية لترتيب الأوضاع، تجنبا لتكرار الكارثة، رغم أنه أى المجلس هو المظلة التى تهيمن على الرياضة فى مصر بشكل عام، وكان يتعين عليه، أن يكون سباقا فى النظر للمستقبل.. ولم تقدم الأندية أى مبادرة من جانبها.. أيا كان مضمون ما يمكن أن تطرحه من تصورات، ولم يفعلها اتحاد الكرة نفسه.. مع الأخذ فى الاعتبار أن اللجنة التى تدير الاتحاد، بعد غياب مجلس الإدارة المنتخب.. للإقالة أوالاستقالة، لا تملك أن تفعل الكثير، ولكن كان من الواجب أن تحاول.. بشكل أو آخر، على الأقل ليكفيها شرف المحاولة، لكن أن تغيب هكذا عن الفعل بأى صورة من الصورة، فى هذا الاتجاه، فهذا هو التقصير بعينه!! لقد كشفت حادثة بورسعيد.. أن ثقافة الناس فى مصر، ثقافة تدير رأسها دوما للخلف، ولا يشغلها سوى الغوص فى الماضى، وتركيز النظر إليه، دون أن يكون الهدف من ذلك، هو محاولة لصنع المستقبل.. أو الاستفادة منه أى هذا الماضى ليكون عونا للغد.. ولكن من أجل البكاء، وذرف الدموع.. فماذا ننتظر إذن؟ لا شىء سوى ضياع الفرص الواحدة تلو الأخرى.. لنبقى دوما محلك سر. ** كالعادة.. يمارس البعض خطأ النظر من جانب واحد، ويتصور أن هذا الجانب هو وحده، الذى يتعين الأخذ به عندما نسعى لمعالجة قضية "الألتراس"، وهنا يصبح التناول خاطئا.. وأقرب إلى الكارثة، لأنه حين نقرر التصدى لمثل هذا الأمر، علينا أن نتناول الموضوع كله.. بما له وما عليه. الآن هناك من يروج إعلاميا وبشكل مكثف فكرة أن هؤلاء الشباب، باتوا عبئا على الكرة والرياضة بشكل عام، وأن مسلكهم يثير المشكلات ويدفع الأحداث دوما نحو منطقة الالتهاب، وهو أمر يبدو صحيحا للوهلة الأولى، باعتبار أن التجارب والأحداث السابقة تؤكد مثل هذا المعنى، ولكن قد يكون من المهم هنا أن نتوقف عند كل جزئية على حدة.. فلو كان هناك بالفعل حالات خروج عن النص، وهو أمر لا يمكن إنكاره، ولكن هناك فى ذات الوقت جوانب إيجابية، لا يمكن إغفالها.. أو التجاوز عنها، ولذلك.. ليس من المعقول أن يصبح الحل فى طىّ الصفحة كلها، والمطالبة بحل روابط الألتراس، لأن هذا يبدو غير منطقى من جانب، وغير سهل عمليا من جانب آخر.. باعتبار أنه لا توجد روابط رسمية بالمعنى المفهوم لكلمة رسمية، فهى فى النهاية جماعات من المشجعين، ارتبطت مع بعضها بعضا، وحدث بينها نوع من الألفة والانسجام، ومن الصعب الحكم عليها بالزوال، ولكن من الممكن العمل على ضبط إيقاعها، وتوجيه طاقتها فى الاتجاه السليم، لتصبح جماعات تشجع فرقها وفق قواعد نرتضيها جميعا، وتتفق حركتها مع القوانين السائدة، والقواعد المتعارف عليها.. وهو دور أصعب كثيرا من استسهال توجيه النقد لها، والمطالبة بالتخلص منها. لست من مريدى الألتراس.. ولست راضيا عن حالات خروجهم عن النص، ولكننى أنظر إلى القضية بشكل عقلانى.. وأرى أنه ينبغى التوقف أمامهم كحالة يمكن أن تضيف الكثير للمدرجات.. وللتشجيع المثالى.. فقط لا غير. ** لست أبدا ضد أن يقود البعض مبادرة للصلح بين الأهلي والمصرى.. ومحاولة التهدئة بين الجانبين، خاصة أن من يتبادر إلى مسامعه الحديث عن صلح، فلابد أن يجد نفسه مدفوعا إلى الاستجابة، والتأييد، والمساندة.. فمن يكره أن يصلح بين طرفين؟ ومن هذا الذى يرفض أن يسود الوئام بين الجميع؟ ولكن.. ليس هذا مبررا بالمرة لأن تصل بنا الحماسة إلى منتهاها من أجل أن تتم هذه المبادرة، ولا يتعين أن نجيش الناس حتى تتم بنجاح، وهذا ليس تقليلا من شأنها، ولا انتقاصا من قدرها، ولا رفضا لها لمجرد الرفض.. إنما ما يحكمنى فى هذه المسألة، هو القناعة الدائمة والراسخة بأننا نعيش فى دولة، والدولة يحكمها قانون، وقواعد، ومعايير ثابتة تبتعد كليا عن فكرة الصلح، ففى دولة كما هو الحال فى بلدنا هناك آليات بعينها قد تكون هى الفاصلة والحاسمة عند الاختلاف بين الأشخاص، وليس من الطبيعى أن ننحيها جانبا، ونمارس نفس ما يجرى فى الخلافات بين العائلات فى الريف، أو المناطق غير الحضرية، فقد اعتاد الناس أن تقام مجالس عرفية، وتنطلق فيها دعوات الصلح بين طرفين متخاصمين، أو بين عائلتين.. وهنا يصبح هذا التصرف بمثابة تغييب صريح للقانون، ودفن علنى لكل معانى التحضر، وإلغاء كامل لحقيقة أننا نعيش فى دولة، ليحل محلها آليات لم تكن لتحدث إلا فى العصور الوسطى، أو حين كان الإنسان يعيش فى الأدغال، وقتها لم تكن هناك دولة، ولا قانون، ولا حضارة.. وبالتالى كان من الطبيعى أن يكون الحال غير الحال.. وليس من الطبيعى أن نقبل بالصلح، وهناك إجراءات قانونية تمضى فى طريقها بالفعل، وقد تحددت جلسة لمحاكمة المتهمين، وصدرت بالفعل قرارات رياضية من اتحاد الكرة المصرى، نعم هناك جدل واختلاف حولها، لكنها فى النهاية تمثل الأسلوب الذى يؤخذ به فى كل الدنيا، التى لم يعد فيها مكان غير الاحتكام للقانون، وهذا القانون وحده هو الكفيل بالقول الفصل بين الجميع.. ولو كان هناك من يريد أن يجعل الأمور تمضى فى طريق الصلح.. فهو ينادى بأن نستبدل القواعد الثابتة التى يتعين على الجميع أن يقبلها الجميع، فى مقابل تقبيل الرءوس، وترضية هذا وذاك.. فهل هذا معقول؟!! مقالات أخرى للكاتب للتواصل مع الكاتب عبر صفحته على الFacebook