أصبح علي المصريين بعد الثورة ، مواجهة تغيرات بعيدة المدي، حيث يتعين عليهم ألا ينصرفوا إلي مناقشات عقيمة حول ما جري من نهب للثروات عبر أكثر من ثلاثة عقود وحول النمط المناسب من الدعم الحكومي للمواطنين عبر فتح الأبواب علي مصاريعها للتوظيف. بل إن الأمر يتطلب تحولا جذريا لكل ما يتصل بالكيفية التي سوف يدار بها النشاط الاقتصادي. لقد تمكن المسئولون الحكوميون قبل الثورة من خلال الإشراف والتنظيمات الحكومية التي تبدو حميدة في ظاهرها وبتوجيه من المؤسسات الدولية الرئيسية من إدارة قطاعات كاملة من الاقتصاد وكأنها إقطاعيات شخصية مما أدي إلي تدمير إنتاجية الاقتصاد. لقد سعي المسئولون في أعقاب الثورة إلي تهدئة الشارع المصري من خلال توفير تركيبة تتألف من إعانات الدعم وفرص العمل المضمونة في مختلف الوزارات والهيئات الحكومية. إن هذا السخاء نم عن سوء فهم جوهري للأسباب التي أدت إلي هذه الثورة، فخلق فرص عمل لا تخلق بقرار حكومي بل تأتي من الوظائف المنتجة التي تخلق السلع والخدمات ذات القيمة لدي الناس. وحينما يبدأ المواطنون في الاعتماد علي الحكومة في التوظيف، تبدأ المعوقات في عرقلة العمل المنتج ويبدأ التفسخ الاقتصادي مع نمو صفوف المواطنين المعتمدين علي الحكومة، في حين تتضاءل أعداد المواطنين المنتجين. إن شباب مصر الآن بحاجة إلي خلق فرص عمل منتجة خاصة بهم حتي يتجنبوا انتظار الصدقات والهبات من جانب القائمين علي السلطة. والحاجة ملحة إلي نهج نشط يعترف بتغير دور الحكومة والاستثمار العام بمرور الوقت بما في ذلك علي مسار التنمية والدورة الاقتصادية، وقد اجتزنا خطوة هامة في إرساء أساس قانوني قوي للشراكات بين القطاعين العام والخاص. فإقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص وسيلة لسد الفجوة بين الاحتياجات الاستثمارية وبين الموارد العامة المتاحة. كما أن هناك تأثيرات إيجابية للاستثمار العام فهي تحسن الإنتاج، وتزيد من معدل العائد من الاستثمار الخاص، وتقلل من تكاليف المشاركة الاقتصادية. وبذلك يمكن للاستثمار العام أن يحشد استثمارات إضافية من القطاع الخاص، وان يواصل تنشيط النمو الاقتصادي لاسيما عند ضعف توظيف الموارد الاقتصادية. لا أحد ينكر أهمية الاستثمار العام بالنسبة للتنمية والنمو الطويل الأجل، ذلك لأنه يؤدي دورا هاما في توسيع القدرات الإنتاجية، والمساعدة في حفز الطلب الكلي وتخصيص الموارد علي امتداد الاقتصاد وتنشيط القدرة التنافسية، وتوفير فرص العمل. كما لا يمكن إنكار دوره في النهضة الآسيوية، ولقد ظل الاستثمار العام يتزايد نظرا لاستخدامه من قِبل حكومات كثيرة كأداة لمواجهة التقلبات الدورية والتصدي لتراجع النشاط الاقتصادي. وتزايدت حصة الاستثمار العام من الاستثمار العام العالمي علي مدي السنوات الخمس عشرة الماضية من 37 % في عام 1995 إلي قرابة الثلثين في عام 2009. ورغم أنه من الواضح أن الاستثمارات العامة الضخمة خلال فترة الأزمة الحالية قد ساعدت العديد من الاقتصادات علي تجنب التعرض لمزيد من الركود، فإن تأثير الاستثمار العام علي النمو لا يكون دائما تأثيرا كبيرا أو سريعا. وهذا يرجع إلي أن الاستثمارات العامة كثيرا ما تدعم الوظائف العامة للحكومة، وهذه لا تسهم إلا بصورة غير مباشرة في دعم العوامل المؤثرة في نمو الإنتاجية. وفي مجال البني التحتية، لا تؤثر الاستثمارات العامة الكبيرة علي الإنتاجية إلا علي مدي فترة طويلة من الزمن. وهناك عدة أحداث كبيرة أدت إلي حدوث تحولات رئيسية في الفكر الإنمائي أثرت في الدور الذي يؤديه الاستثمار منها الأزمة الآسيوية عام 1997، والأزمة المالية العالمية 2008، وتوافق واشنطن الجديد الذي ركز علي خصوصية البلد التنموية ثم أخيرا ثورة يناير 2011 وما فجرته من فتح ملفات الفساد وغياب الدولة عن دورها الحقيقي في عملية التنمية. إن الدفة تحوّلت من نماذج التنمية الآسيوية، المرتكزة أساسا علي السياسات الصناعية التي توجهها الدولة، وهي السياسات التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلي استراتيجيات تنمية تتسم بتوافق آراء واشنطن، في تسعينيات القرن الماضي. وقد أدت الأزمة المالية الأخيرة إلي تكثيف التركيز علي الاستثمار العام كأداة محتملة لمواجهة التقلبات الدورية، وإلي قيام العديد من الحكومات في البلدان النامية والمتقدمة علي السواء بإطلاق برامج للاستثمار العام والنهوض بالمزيد منها من أجل توفير وتعزيز فرص العمل وإرساء أسس النمو المتجدد. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية، اتخذ التفكير في مجال السياسات الإنمائية مكانا وسطا بين هذين القطبين. ويعني ذلك منح القطاعين العام والخاص مزيدا من فرص التعاون الوثيق من أجل تعزيز التنمية. كما أظهرت الأزمة أيضا أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد يكون أيضا عرضة للتقلب، فقد يؤدي إلي إرجاء الاستثمارات الجديدة أو إلغاء المشاريع خلال مهلة قصيرة، أو زيادة تحويل الأرباح إلي الخارج. لهذا لابد من العودة إلي ضرورة غرس الاستثمار العام في إطار إنمائي وطني متسق، يراعي التقدم الاجتماعي والاستحقاق العام، لا مجرد الربحية الاقتصادية، ومن ثم يجب اتخاذ القرار بطريقة ديمقراطية وشاملة من أجل تحقيق رؤية إنمائية وطنية يشارك فيها كافة تيارات المجتمع في إطار إستراتيجية نمو متسقة، تؤدي دوراً بالغ الأهمية. ويمكن حصر الفوائد الأساسية للشراكات بين القطاعين العام والخاص، في حشد الموارد المالية والخبرات التقنية لتقديم الخدمات العامة التي تقدمها عادة الهيئات الحكومية، علي أن تحدد الأسعار وفقاً لآليات السوق. وغالبا ما تكون القطاعات المناسبة للشراكات بين القطاعين العام والخاص، في مشاريع البنية التحتية الرئيسية مثل النقل والطاقة والماء، والمشاريع المرتكزة علي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبحث والتطوير، وكلها تقع ضمن المشاريع الواعدة، وهي المجالات التي يمكن أن تزيد الإنتاجية وأن تهيئ ظروفا مواتية للاستثمار الخاص. وكلما زادت مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في بلد ما، ارتفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، ذلك لأن هذه المشاريع عادة ما تكون كبيرة وطويلة الأجل. كما أن الاستثمار الخاص الذي يتسم بهذه الطبيعة يجتذب إلي السوق أيضا مستثمرين آخرين من القطاع الخاص، مما يُنشئ حلقة إيجابية تعزز النمو الاقتصادي. وهناك حاجة إلي مشاركة المؤسسات المالية المحلية في الداخل حيث توقفت المصارف الدولية الكبيرة في أعقاب الأزمة المالية، عن إقراض مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص تجنبا للمخاطرة. كما أن الاقتراض من الجهات المقرضة الخارجية بالعملات الأجنبية ينطوي علي مخاطر تغير سعر الصرف. ورغم توافق الآراء بصورة واسعة علي نهج الشراكة، فإن توزيع المخاطر كثيرا ما يجد اعتراضا قويا من الجهات العامة والخاصة المشاركة في مشاريع قائمة علي الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لكن مسئولية توفير خدمات البنية التحتية والخدمات العامة تقع علي عاتق الحكومة، وأن عليها أن تتحمل مخاطر معينة. كذلك التأكيد علي أن التنظيم السليم لا غني عنه لنجاح مشاريع الشراكة. كما يجب التفرقة بين المراقبة والتنظيم، حيث ينفر مقاولو القطاع الخاص من المراقبات المفروضة علي عملياتهم، ولكنهم يرحبون عادة بالأنظمة الشفافة التي تحد من عناصر عدم اليقين في مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. إن التحديات الرئيسية أمامنا تظهر في تحديد الصناعات الأعلي قدرة علي تعزيز التنمية من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتخطيط الشراكات بصورة فعالة، وتهيئة بيئة مواتية تشمل أطرا مؤسسية وتنظيمية رفيعة الجودة لتعزيز التفاعل بين الاستثمارات العامة والخاصة. غير أن هذه الشراكات، وغيرها، تتطلب لوائح قانونية ومهارات تفاوضية قوية، وهناك حاجة أيضا إلي العمل علي تعزيز فهم الأسباب التي تكمن وراء انتشار الشراكات بين القطاعين العام والخاص في البلدان المتقدمة مما يدعونا إلي التركيز عليها في المرحلة الحالية والأخذ بها في بيئتنا المصرية. لكن هناك تخوفا يثار من حين لآخر في أننا قد نقع ضحية لوضع غير متكافئ للافتقار إلي المهارات التفاوضية والبيئة المؤسسية المطلوبة، لهذا يري الخبراء أن الأوضاع التي تكفل حصول المواطنين علي الخدمات ينبغي أن تكون جزءا لا يتجزأ من أي اتفاق للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وأن تراعي الحكومة العواقب البيئية والاجتماعية عند الدخول في ترتيبات الشراكة بين القطاعين العام والخاص وذلك من خلال التركيز علي أهمية دراسات الجدوي الجيدة، واختيار الشركاء عن طريق العطاءات التنافسية بطريقة شفافة، وتحديد وتحليل مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص قبل الاختيار النهائي للمشاركين من القطاع الخاص. كما يجب النظر إلي التوزيع الأمثل للمخاطر والفوائد المقترنة بالشراكات بين القطاعين العام والخاص بأنه معقد بطبيعته، وعادة ما تقع المخاطر المتعلقة بالتصميم والتشييد والتشغيل علي عاتق الشريك من القطاع الخاص، بينما تقع المخاطر السياسية والقانونية علي الشريك من القطاع العام. أما المخاطر التي يتشاطرها عادة الشريكان فهي التي تتعلق بالطلب والعائد والتصميم والتشييد والمعدل المالي وسعر الصرف. لهذا يجب تأسيس مركز للشراكة بين القطاعين العام والخاص وتحديد بعض البنوك للقيام بأداء دور رئيسي فيها، ومن خلال هذا المركز المزمع إنشاؤه يمكن وضع صيغ مختلفة لمشاريع الشراكة، بين القطاعين، بما يسمح بإظهار مختلف مستويات المشاركة المحتملة من مستثمري القطاع الخاص علي نحو أفضل. كما يمكن أن تقدم الحكومة مساعدات لتيسير إقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لتمويل أجزاء معينة من مشاريع الشراكة، فعلي سبيل المثال، يمكن استخدام المساعدة الرسمية في ربط مشروع محطة لتوليد الطاقة قائم علي الشراكة بين القطاعين العام والخاص بالشبكة الوطنية للطاقة. وقد تستخدم هذه المساعدة أيضا لإقامة مبني مدرسة يديرها القطاع الخاص نيابة عن الحكومة من خلال شراكة بين القطاعين. وبالمثل، يمكن استخدام هذه المساعدة لتمويل دراسات جدوي مشاريع شراكات معيّنة بين القطاعين