رغم أن اللحظة التاريخية المناسبة للفكاك من علاقات التبعية وبناء الأسس اللازمة للاعتماد على الذات قد توافرت لأول مرة مع ثورة 25 يناير ، إلا أنه من الواضح أن تلك اللحظة لم تستغل حتى الآن لغياب القوى الاجتماعية القادرة على إحداث التغيير.إن استراتيجية الاعتماد على الذات تعني نفيا للتبعية وبناء التنمية المستقلة وما يتطلب من سيطرة وطنية على مقدرات الاقتصاد القومي ،كذلك هى في الأساس تعني صياغة مشروع حضاري شامل ، يهدف إلى استغلال كل الموارد المتاحة والممكنة ،المالية والبشرية والطبيعية ، وتتوزع فيه ثمار العمل الاقتصادي بعدالة فيما بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية التي يضمها الاقتصاد القومي ? هذه الاستراتيجية التي نادينا بها مرارا تختلف تماما عن عمليات التكيف والاصلاح التي نسير عليها?وتحقيق تلك الاستراتيجية يتطلب أولا السيطرة الوطنية على الموارد والثروات الطبيعية والحرص على تصنيعها بدلا من تصديرها في شكل خام ? والنظر إلى أن مشكلة تمويل التنمية لا تعود إلى نقص الفائض الاقتصادي وإنما تعود إلى تبديد هذا الفائض في أوجه متعددة ? ولكن الشرط الأهم لتحقيق التنمية المعتمدة على الذات يكمن في مواجهة المديونية الخارجية ، وفي توجيه سياسة التصنيع لاشباع الحاجات الأساسية للسكان ، وضرورة المشاركة الشعبية التي تكفل تحقيق التنمية المستقلة ، ولن تتحقق إلا إذا اعتقد الناس عن إيمان حقيقي بأن ثمار التنمية سوف تعود عليهم ?والعنصر الأخير في التنمية المستقلة يكمن في اختيار التكنولوجيا الملائمة ، ليس بالضرورة أن تكون آخر صيحة في عالم التحديث والمخترعات بل يجب أن تكون ذات كفاءة اقتصادية ترتبط بالموارد الاقتصادية المتوفرة ?ولقد خرجت تصريحات من حزب الحرية والعدالة تصب في هذا الاتجاه من خلال إعادة النظر في عدد من مشروعات القوانين لتواكب مرحلة التغيير من بينها مشروع الشراكة بين القطاعين العام والخاص خاصة أننا نواجه الكثير من الاحتياجات غير الملباة من الاستثمارات المهمة في مجالات وأنشطة لها طابع المنفعة العامة، مثل البنية التحتية والزراعة والصحة، فهناك حاجة إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص بوصفها وسيلة فعالة محتملة لتشجيع الاستثمار العام الرامي إلى حشد الخبرات والأموال المطلوبة من القطاع الخاص?وقد أظهرت الأحداث التي عشناها بعد ثورة 25 يناير والأزمة العالمية الأخيرة أن الاستثمار الأجنبي المباشر قد يكون أيضا عرضة للتقلب، فقد يؤدي إلى إرجاء الاستثمارات الجديدة أو إلغاء المشاريع خلال مهلة قصيرة، أو زيادة تحويل الأرباح إلى الخارج? لهذا لابد من العودة إلى ضرورة غرس الاستثمار العام في إطار إنمائي وطني متسق، يراعي التقدم الاجتماعي والاستحقاق العام، لا مجرد الربحية الاقتصادية، ومن ثم يجب اتخاذ القرار بطريقة ديمقراطية وشاملة من أجل تحقيق رؤية إنمائية وطنية يشارك فيها كافة تيارات المجتمع في إطار استراتيجية نمو متسقة، تؤدي دورا بالغ الأهمية ? وتعتبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص وسيلة لسد الفجوة بين الاحتياجات الاستثمارية وبين الموارد العامة المتاحة ? وأثبتت الشراكات التي تقوم على علاقة تعاقدية وتقاسم للمخاطر أنها وسيلة تعاونية ناجحة لتوفير الخدمات والهياكل الأساسية العامة ? وهناك تأثيرات إيجابية للاستثمار العام فهى تحسن الإنتاج، وتزيد من معدل العائد من الاستثمار الخاص، وتقلِل من تكاليف المشاركة الاقتصادية ?وبذلك يمكن للاستثمار العام أن يحشد استثمارات إضافية من القطاع الخاص، وان يواصل تنشيط النمو الاقتصادي لاسيما عند ضعف توظيف الموارد الاقتصادية خاصة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية ? مثل النقل والاتصالات والتعليم والصحة? ، وهي المجالات التي يمكن أن تزيد الإنتاجية وأن تهيئ ظروفا مواتية للاستثمار الخاص ? ويمكن وصف الشراكة بين القطاعين العام والخاص على أنها مشروع مشترك بين هيئة حكومية وشركة واحدة أو أكثر من القطاع الخاص تقوم بتقديم خدمة عامة أو تنفيذ مشروع عام وتتحمل المخاطر المالية والتقنية والتشغيلية المتصلة بالمشروع ? وتعكس مختلف أنماط الشراكات بين القطاعين العام والخاص مدى تشعب العلاقات التعاقدية المحتملة وقوانين الشراكة تعتبر من أعقد القوانين ومن ثم فهي في حاجة إلى صياغات فنية وقانونية معقدة جدا ولا يمكن صياغتها بسهولة إلا بعد الرجوع إلى تجارب دول أمريكا اللاتينية للوقوف على أسباب فشلها والرجوع عنها بعد مضي عقدين على إقرارها ? وقد تشمل هذه العلاقات عقود الخدمات القصيرة الأجل، وعقود التفويض الإداري طويلة الأجل، والإيجارات، والامتيازات أو ما يسمى نموذج ?الإنشاء التشغيل التحويل? وكثيرا ما كانت تمنح الامتيازات وهي شكل خاص من الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتوفير خدمات الهياكل الأساسية وتشغيل الأصول العامة ? وغالبا ما تكون القطاعات المناسبة للشراكات بين القطاعين العام والخاص، في مشاريع البنية التحتية الرئيسية مثل النقل والطاقة والماء، والمشاريع المرتكزة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبحث والتطوير، وكلها تقع ضمن المشاريع الواعدة? ويعني مصطلح ? امتياز ?? منح شركة خاصة الحق في تشغيل خدمة محددة من خدمات الهياكل الأساسية وتلقي الإيرادات المتأتية منها ?ويقوم صاحب الامتياز عادة بحيازة الأصول العامة المقصودة ? لكن ملكيتها تبقى عادة للحكومة ? ويستعملها لتقديم المنتج أو الخدمة المقصودة وفقاً لأحكام العقد?وكثيرا ما تلقي الامتيازات بكثير من المخاطر التشغيلية والمالية على كاهل صاحب الامتياز? وفي كثير من الأحيان، يمول المستثمر الخاص إما جزئيا أو كليا الهياكل الأساسية، التي يخوله الامتياز استخدامها وتحصيل رسوم من استخدامها بعد ذلك?وتكمن الأسباب المنطقية لمنح امتياز في ? تغيير الهياكل السوقية التي تعوزها الكفاءة ، وزيادة كفاءة المشغّلين ، فكثيرا ما تمنح الامتيازات لأن ثمة توقعا بأن يدير مشغل من القطاع الخاص العمل التجاري بطريقة أكثر كفاءة من حيث التكلفة من الدولة?وتشكل خدمات الهياكل الأساسية مدخلات حاسمة الأهمية في إنتاج وتقديم السلع والخدمات، وتؤثر تأثيرا كبيرا على إنتاجية الاقتصاد وتكاليفه وقدرته التنافسية ?وقد بينت الدراسات التجريبية أن وجود هياكل أساسية أفضل يؤدي إلى تحسن إنتاجية اقتصاد البلد?والتخفيف عن الميزانية العامة ، قد تمنح الامتيازات بغية الحد من النفقات الحكومية على الهياكل الأساسية وصيانتها، ويمكن للامتيازات أن تقلص تكاليف التمويل وتتيح تحمّل التزامات طويلة الأجل ، بالإضافة إلى كفالة إمكانية وصول أوسع نطاقا، ويمكن للامتيازات أن تحسن إمكانية الحصول على خدمات الهياكل الأساسية ?وتشمل طرائق منح الامتيازات المفاوضات ، والأشكال المختلفة لطلبات العروض أو المزادات العامة وما يسمى ? مسابقات الجمال ??وتعتبر المزادات العامة عادة أكثر طرق منح الامتيازات فعالية ? لكن المزادات العلنية لا تتيح قيام منافسة على السوق إلا إذا احترمت مبادئ المساواة في المعاملة والشفافية والتناسب? وتصميم المزادات أمر معقد، حيث تؤدي اختلافات تافهة ظاهريا إلى مستويات منافسة مختلفة كثيرا في الظروف المحددة التي تُستخدم فيها ? وينبغي أن يشارك في المزاد عدد كاف من مقدمي العطاءات الجادين ? وقد لا يقوم مقدمو العطاءات المحتملون بتقديم عرض لأسباب مختلفة ? أحدها الإطار الزمني القصير لتقديم عرض بسبب قلة المعلومات? ول?مسابقة الجمال ? كثير من الخصائص نفسها التي تتسم بها المفاوضات?ففي ? مسابقة الجمال ?، يجري تقييم المتنافسين بناء على معايير محددة مسبقا، مثل الخبرة التقنية والسلامة المالية وتغطية الشبكة ?وقد انتقدت ? مسابقات الجمال ? لأنها تعوزها الشفافية ولأنها عرضة لممارسة الضغوط المؤثرة وللتدخل السياسي? وينبغي أن تكون معايير اختيار مقدم العطاءات الفائز بالمزاد محددة مسبقا? ولهذه المعايير تأثير حاسم على مضمون العروض وعلى المنافسة فيما بين مقدمي العطاءات? والمعايير المتعددة حتى تلك الموضوعة بصيغة محددة جيدا لوضع درجات لها غير مرغوب فيها بالنظر إلى أنها كثيرا ما تعوزها الشفافية وتكون عرضة للتلاعب والفساد? لكن ينبغي اختيار المحددات الاقتصادية بعناية? والمعايير الاقتصادية المعتادة لمنح امتيازات الهياكل الأساسية هي ? مستوى التسعيرة التي سيدفعها المستخدِمون أو المبلغ الذي سيدفعه صاحب الامتياز للسلطة المانحة للامتياز? وثمة خطر في العطاءات القائمة على التسعيرة من أن تكون التسعيرة الفائزة دون التكلفة الحدية الطويلة الأجل لتقديم الخدمة، وهي عرضة للتغير بسرعة في معظم الأحيان عن طريق إعادة التفاوض أو المراجعة ? ومن جهة أخرى، فإن استخدام مبلغ رسوم الامتياز التي تدفع إلى الحكومة كمعيار لمنح الامتياز هو أمر لا يحفز الكفاءة ولا يحسن رفاهية المستهلك، نظرا إلى أن صاحب الامتياز سيضطر إلى تمرير تكاليف رسوم الامتياز المرتفعة إلى المستخدِمين?وتظهر التجربة وجوب مراقبة تنفيذ صاحب الامتيازات لالتزاماته التعاقدية?وفي بعض البلدان، تعود هذه المراقبة إلى الهيئة المانحة للامتياز، بينما تسند بلدان أخرى هذه المهمة إلى هيئات إشرافية متخصصة?كما ينبغي أن تؤدي الهيئة المعنية بالمنافسة دورا هاما خلال تصميم الامتياز ومنحه، بما أنهما أمران هامان لتعزيز المنافسة? ويعني هذا أنه ينبغي اشتراك الهيئة المعنية بالمنافسة في وقت مبكر في العملية ? وتختلف قضايا المنافسة في امتيازات الهياكل الأساسية عنها في امتيازات استغلال الموارد الطبيعية ? فالأسواق لها نطاقات جغرافية مختلفة ? فسوق خدمات الهياكل الأساسية محلي أو إقليمي النطاق، بينما أسواق السلع الأساسية عالمية في معظمها? ونتيجة لذلك، يُستشعر محليًا أثر امتيازات الهياكل الأساسية على التوريد، بينما لا يُستشعر أثر امتيازات الموارد الطبيعية محليًا إلا إذا كانت السلع الأساسية المقصودة تُستخدم أيضًا في الاقتصاد المحلي وكانت المنافسة القادمة من الخارج عديمة الفعالية قد يتخذ الإطار القانوني للامتيازات مجموعة متنوعة من الأشكال ? ويتمثل أحد الخيارات في وضع قانون للامتيازات يسري على الامتيازات في جميع قطاعات الصناعة ? وتوجد قوانين امتيازات عامة لدى الكثير من بلدان أوروبا الشرقية والبلدان الآسيوية? وثمة خيار ثانٍ هو عدم وجود قانون امتيازات محدد، وإنما إدراج أحكام تنظم الامتيازات في قوانين أخرى، مثل قانون المنافسة، أو قانون المشتريات العامة، أو قانون الخصخصة ، أو لوائح خاصة بقطاعات محددة?وليس للجماعة الأوروبية، مثلا ، إطار تشريعي شامل محدد بشأن الامتيازات كما أنه ليس هناك نظام منفصل بشأن منح امتيازات الخدمات ، وإنما تسري مبادئ عامة من ? قانون الجماعة مثل الشفافية، والمساواة في المعاملة، والتناسب، والاعتراف المتباد. وفي غياب قانون محدد بشأن الامتيازات وأحكام خاصة بقطاعات محددة تنظم الامتيازات، فإن الامتيازات قد تنظمها السياسات الصناعية. والمشكلة التى تواجهنا باستمرار هى الافتقار إلى سياسات واضحة فيما يتعلق بالشراكات بين القطاعين العام والخاص وهى تمثل عائقا كبيرا أمام تشجيع إقامة هذه الشراكات ? لكن علينا أن نضع صيغ مختلفة لمشاريع الشراكة، بين القطاعين، بما يسمح بإظهار مختلف مستويات المشاركة المحتملة من مستثمري القطاع الخاص على نحو أفضل غير أن هذه الشراكات، وغيرها، تطلبت لوائح قانونية ومهارات تفاوضية قوية، وهناك حاجة أيضا إلى العمل على تعزيز فهم الأسباب التي تكمن وراء انتشار الشراكات بين القطاعين العام والخاص في البلدان المتقدمة مما يدعونا إلى التركيز عليها في المرحلة الحالية وتكرارها في بيئتنا المصرية كما أن تدني نوعية بعض العقود التي يعدها المسئولون الحكوميون يمثل عاملا معطلا ، وأن المستثمرين الأجانب يلتزمون الحذر عند الدخول في مشاريع ضخمة قائمة على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وأن أي غموض في وثائق المشروع قد يقوض المشاريع المبشرة بالنجاح وعلى الحكومة أن تبدأ بمشروعين أو ثلاثة ، لأن النجاح يشجع مزيدا من المقرضين والمستثمرين على المشاركة، في حين أن فشل أي مشروع قائم على الشراكة بين القطاعين بسبب عوامل سياسية عادة ما يقوِّض بشدة من مصداقية الحكومة .