«اسم مستعار وهاتف ذكي وباقة إنترنت، هذا كل ما يحتاجه «البلوجر» ليبدأ إنتاج محتوى على منصة التيك توك الشهيرة، ليس مهمًا ما يقدمه البلوجرز من محتوى فكل ما هو تافه وشاذ ينجح ويدر أرباحًا بالملايين، إنها «صناعة التفاهة» التي تسببت في ترك الآلاف لوظائفهم ومشاريعهم وجعلتهم يسعون وراء أرباحها الخرافية التي لا تؤثر إلا سلبًا على المجتمع وتؤخر تقدمه».. لا يحتاج الأمر أكثر من إنشاء قناة على اليوتيوب أو تيك توك، بعدها يأتي دور المحتوى الذي يتم تقديمه من أي شخص ربما ليس لديه مؤهلات أو فكر أو موهبة، المهم أن يكون المحتوى تافهًا أو شاذا هو الآخر، فإن كان كذلك فسرعان ما ترتفع عدادات أرقام المتابعين، ويتكوّن الجمهور وتتصاعد أرقامه، وعندئذ تهل بشائر «السنتات» التي سرعان ما تتحول إلى دولارات تتقافز أرقامها كلما تزايدت المشاركات والتفاعلات والتعليقات، فجأة يتحول الشخص التافه عديم القيمة أو الموهبة إلى نجم مجتمع يجني الأرباح ويشتري العقارات والسيارات الفارهة وتستضيفه القنوات الفضائية الخاصة وتجرى معه المقابلات التليفزيونية وتقدمه للمجتمع كنموذج ناجح وقدوة لغيره، وبالفعل يقتدي به آخرون طمعا أن يكونوا «مؤثرين» ويتخلصوا من إحباطات الفقر المحيط بهم بدولارات منصات السوشيال ميديا فيفعلون أي شيء لتحقيق ذلك الحلم الملعون! على صفحات مجلة أكتوبر، خلال السنوات الخمس الماضية ناقشنا مع خبراء التكنولوجيا وعلم النفس والاجتماع والقانون، مرارًا وتكرارًا، الظواهر السلبية لمنصات التواصل الاجتماعي ك فيس بوك وتويتر واليوتيوب وتيك توك وغيرها وتأثيرها الخطير على المجتمع، وأشرنا بشكل مباشر ومتكرر إلى خطورة المحتوى الشاذ الذي يقدمه بعض «المؤثرين» على هذه المنصات، وأكد العديد من الخبراء على الخطر الذي يتسلل إلى مجتمعنا بخفة ونعومة ويدس السم فى معسول المحتوى البصري والسمعي الذي يلتهمه أطفالنا وشبابنا وبناتنا بدون رقابة أو ضوابط أو محاذير، البعض طالب بالمنع والإغلاق التام، والبعض أكد أن المنع سيؤدي لمزيد من التعلق وأن الأمر يحتاج فقط لقوانين صارمة وضوابط حازمة للسيطرة على أو تنظيم المحتوى، وأخذنا ننبه ونطالب ونناشد ونحقق ونستعرض المخاطر وندق نواقيس الخطر. ومنذ أيام قليلة بدأت الجهات المعنية باتخاذ خطوات قانونية تجاه عدد من هؤلاء «البلوجرز» بدأت برصد المخالفات القانونية فى المحتوى، والتي استوجبت ضبطهم وإيقافهم والتحقيق معهم، الكثير من المتابعين والجمهور العام أيد هذه الخطوة المهمة، واعتبرها انتصارا لقيم المجتمع وتقاليده وثقافته الدينية والاجتماعية والتربوية والأخلاقية، وأن تطبيق القانون هو الحل الأمثل لتنظيم استخدام هذه المنصات، بينما يرى قطاع آخر أن الخطوة، على أهميتها، جاءت متأخرة، وأنها وإن كانت خطوة إيجابية وحاسمة إلا أنها ليست كافية وتحتاج إلى المزيد من الخطوات السريعة والمتلاحقة حتى يتم ضبط الأمور وتنظيم المحتوى الذي يقدمه «المدونون المؤثرون» وإنزال العقاب على المحتوى الذي ينتهك قيم المجتمع حتى يتم إحكام السيطرة على هذه المنصات ورسم الحدود الآمنة لمستخدميها. القانون هو الحل يؤكد د. أحمد حسنين، خبير تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، أن منصات وتطبيقات السوشيال ميديا أصبحت واقعا لا يمكن إلغاؤه من يومياتنا، فهناك قطاع كبير من الشباب وفئات عمرية متنوعة تستخدم السوشيال ميديا بشكل لحظي، وإذا قمنا بحظر منصة ما اليوم، ستظهر عشرات المنصات البديلة لها غدا، ولذلك فدائما ما نرى أن حجب أو منع المنصات ليس هو الحل، فالحل الواقعي والعقلاني هو تقنين تلك المنصات ووضع الضوابط التنظيمية التي تراها الجهات المختصة لتنظيم نشر المحتوى على تلك المنصات بما يتوافق مع قيم وأخلاقيات المجتمع، وبالفعل لدينا فى السنوات قوانين حاسمة تناولت هذا الشأن وتفاصيله بدقة، كما حددت الجرائم الإلكترونية ووضعت لها العقوبات المناسبة، وهذا الأمر بالفعل ساهم فى انحسار عدد تلك الجرائم، فدائما عندما يتم تطبيق القانون يخشى كل مجرم أو مخالف أن يقع تحت طائلته فيتراجع عن ارتكاب الجرم أو المخالفة ولهذا أعتقد أن القانون وتطبيقه هو الحل الأمثل لتنظيم استخدام هذه المنصات. ويشير حسنين، إلى نقطة بالغة الأهمية فيقول، أصبح من الواضح أن الأجيال الناشئة باتت تهتم أكثر بالمحتوى البصري والسمعي على حساب المحتوى المقروء، وهذا الأمر هو ما جعل منصات مثل إنستجرام وتيك توك ويوتيوب تتفوق على فيس بوك وتويتر سابقا، وهو ما دفع تلك المنصات لتطوير طريقة تفاعلها مع مستخدميها فظهرت مسميات جديدة ك «الريلز»، و ال»شورتس» والبث المباشر لكي تواكب رغبات المستخدمين وتفضيلاتهم، ونحن أيضا يمكننا أن نحتذي بهذا التصرف مع الأجيال الشابة بتقديم محتوى وطني أو ثقافي أو فني إيجابي لهم بهذه الطريقة التي يفضلونها، ويمكن أن يحمل هذا المحتوى رسائل مضادة للمحتوى التافه والشاذ الذي يرفضه المجتمع والقانون، كأن يقدم محتوى ذا طابع ثقافي وتعليمي وأخلاقي وديني وتربوي بشكل جذاب ومميز، يجذب هؤلاء المستخدمين بعيدا عن المحتوى السلبي لهذه المنصات. البديل الآمن من جانبها، ترى د. سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية جامعة عين شمس، أن هذا الجيل من الشباب الذي يتابع هذه التفاهات مظلوم ولا يمكن إلقاء اللوم عليه، لأنه نشأ فلم يجد من يقدم له القدوة والمحتوى الإيجابي البديل لهذه التفاهات، وفي غياب المحتوى الثقافي الراقي الذي يسمو بفكره وينمي عقله تنتشر هذه الفطريات السامة على شاشات هاتفه فلا يجد بديلا عنها فيتابعها بالتعود او بالتقليد، وهى سمة عامة غالبة فى هذه الفئة العمرية، ونحن كمجتمع انشغلنا أيضا عن تقديم النماذج الإيجابية من مفكرين وكتاب وأدباء وفنانين ورياضيين من قوة مصر الناعمة لهؤلاء الشباب، وللأسف لم نكتف بهذا بل ساهمت شاشات الفضائيات فى تقديم العديد من النماذج السلبية لمجرمين وبلطجية كنماذج وقدوات ناجحة تحقق الأرباح الخيالية عن طريق مخالفة القانون والتجارة غير المشروعة وكأن هذا أمر مقبول وعادي، كما أن بعض البرامج قدمت هؤلاء البلوجرز كنجوم مجتمع ووصّفت تحقيقهم لأرباح مالية من قنواتهم بأنه نجاح، وهو ما شجع آخرين الى اتخاذ ذات الطريق بهدف تحقيق الأرباح المادية وبعضهم ترك عمله أو وظيفته أو مشروعه، وسعى خلف إنتاج المحتوى الشاذ والتافه طمعا فى تحقيق الأرباح أو الوصول إلى مكانة اجتماعية عن طريق الشهرة التي يحصل عليها من متابعيه. وتستكمل خضر، أما عن خطوة المساءلة القانونية لعدد من هؤلاء البلوجرز فأرى أنها خطوة إيجابية جدا لكنها تأخرت كثيرا، لدرجة تجعلنا نتساءل؛ لماذا انتظرنا كل هذا الوقت؟ ولماذا صبرنا حتى انتقلت عدوى التقليد لهذه النماذج إلى آخرين؟ لماذا لم نبدأ منذ عامين أو خمسة أو حتى مع بداية الأمر، ورغم هذه التساؤلات إلا أنني أرى اتخاذ القرار المناسب ولو تأخر هو أفضل من عدم التحرك، ويجب على جميع فئات وطوائف المجتمع والجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني والأفراد والمؤسسات أن تتكاتف وتساند هذه الخطوة المهمة وتجعلها خطوات متلاحقة وسريعة تنتهى برسم الحدود الآمنة لاستخدام هذه المنصات وتجريم الأفعال والمحتوى الذي يؤذي المجتمع أو ينتهك قيمه الأخلاقية والثقافية والدينية، وإنزال العقاب الصارم على كل من يخالف القانون وتطبيقه بشكل عادل مع التوعية المستمرة بهذه الحدود الآمنة، حتى ينتبه شبابنا إلى هذه المخاطر ويتجنبونها ويلتزمون بما هو مسموح ويبتعدون عن كل ما هو مُجرّم، فدائما ما أرى أن صناعة التفاهة وتقديمها كمنتج جذاب هى أخطر ألف مرة من المخدرات على شبابنا الذين هم ثروتنا الحقيقية.