شهد المجتمع المصرى تحولًا جذريًّا فى الوعى الجمعى للشباب، حيث أصبحت مصطلحات مثل «دعم» و«تكبيس» جزءًا من لغتهم اليومية، وترتبط تلك المصطلحات ارتباطًا وثيقًا بمنصات التواصل الاجتماعى، وعلى رأسها «تيك توك» التى تحولت إلى وسيلة سهلة ومربحة للباحثين عن الشهرة والثراء السريع، ولو كان ذلك على حساب القيم الأخلاقية والمحتوى الهادف. انتشار عالمى كاسح وفقًا لإحصائيات موقع «ستاتيستا» العالمى، وصل عدد مستخدمى «تيك توك» فى فبراير 2025 إلى 1.59 مليار مستخدم حول العالم. وتتصدر إندونيسيا قائمة المستخدمين ب127.5 مليون مستخدم، تليها الولاياتالمتحدة (121.52 مليون)، ثم البرازيل (101.8 مليون). وفى مصر، يحتل التطبيق المركز الثالث عشر ب35.31 مليون مستخدم، ما يعنى أن واحدًا من كل ثلاثة مصريين يستخدمه. ويعود هذا الانتشار إلى استراتيجية المنصة فى الدفع للمشاهير وتشجيع «التحديات» الرائجة. يعود الانتشار الواسع لمنصة «تيك توك» إلى استراتيجيتها فى الدفع لمشاهير للتسويق لها من خلال فيديوهات قصيرة، مما شجع متابعيهم على الاشتراك. كانت طريقة «التحديات» هى الأداة الأولى لجذب الجمهور، وما زالت رائجة حتى اليوم على المنصة. شهدت فترة انتشار فيروس كورونا نقطة تحول كبرى للتطبيق، حيث أصبح وسيلة للتواصل وقضاء الوقت، مما زاد من عدد المتابعين. طرق الربح السريع لكن طرق الربح السريع، سواء من خلال المشاهدات، أو الرعاية المدفوعة، أو الهدايا والتبرعات خلال البث المباشر، هى التى أسهمت بشكل كبير فى جذب المستخدمين من جميع الأعمار، بدءًا من صغار السن وحتى المسنين. برزت الرعاية المدفوعة من العلامات التجارية كأحد مصادر الدخل الكبرى للمؤثرين، حيث يتقاضون مبالغ مالية مقابل الترويج للمنتجات. بالإضافة إلى ذلك، تُعد البثوث المباشرة الوسيلة الأسرع لتحقيق الربح، إذ يحصل المؤثرون على أموال من متابعيهم عبر الهدايا والتبرعات. هذا الوضع دفع الكثيرين من مختلف الأعمار، من الصغار وحتى كبار السن، إلى اعتبار «تيك توك» مصدر دخلهم الأساسى. الفراغ الاجتماعى وتأثيره على المحتوى فى ظل السعى لتحقيق دخل إضافى وشهرة سريعة، ظهرت فئة من صانعى المحتوى من الطبقات البسيطة، الذين قدموا محتوى خاليًا من القيمة، يفتقر إلى المعلومة الهادفة أو الترفيه الراقى. هذا المحتوى بدأ بتداول نكات سطحية، وتطور إلى استخدام ألفاظ خادشة للحياء، والتراشق بالكلمات المسيئة. ومع الوقت، تسربت هذه المصطلحات إلى الأعمال الفنية، لتصبح جزءًا من الثقافة العامة. وهكذا، تحولت البثوث المباشرة على «تيك توك» إلى بيئة خصبة لنشر «الترندات» الهابطة والألفاظ الخارجة، التى تدر أموالًا طائلة على صانعيها من خلال الهدايا والتبرعات. هذا التوجه أدى إلى تغيير معايير النجاح، حيث أصبح «تيك توك» صانعًا لنمط تفكير جديد يتبناه عدد كبير من الشباب الباحث عن الثراء السريع. هذا الواقع دفع أعدادًا كبيرة من الشباب والأطفال إلى البحث عن الثراء السريع عبر هذه المنصة. وفى الوقت الذى يثير فيه البعض شبهات حول مشروعية هذه الأموال، فإن تأثير «تيك توك» يتجاوز الجانب المالى، ليصبح صانعًا لطريقة تفكير وأسلوب حياة جديد يتبناه قطاع واسع من الشباب. وقد تحول المحتوى، الذى كان وسيلة ترفيهية، إلى أداة للربح السريع والتسويق، حيث أصبح دافع «الشهرة السريعة» هو المحرك الرئيسى للعديد من المؤثرين. «الهندسة النفسية» للترندات فى سياق الحديث عن تأثير منصات التواصل الاجتماعى مثل «تيك توك» على الصحة النفسية، أوضحت الدكتورة إيمان عبدالله محمد، استشارى الصحة النفسية والإرشاد الأسرى، أن التعرض المستمر لمحتوى المؤثرين و«الترندات» له تأثير كبير على الأفراد، خاصةً المراهقين والشباب. وقد تسببت هذه الظواهر فى مشكلات أسرية وتفكك اجتماعى، حيث أصبح البعض يتمنى تقليد صانعى المحتوى الذين حققوا الثراء السريع عبر هذه المنصات، مما يعزز لديهم الرغبة فى الثروة السريعة دون النظر إلى القيم. وأضافت الدكتورة إيمان أن الإنسان بطبعه يتأثر بما يشاهده، وهو ما يُعرف ب«الهندسة النفسية». فالترندات التى تتكرر تُخزّن فى الذاكرة وتصبح جزءًا من العقل الباطن، ما يحول التفاهة إلى شيء مقبول دون عمق ثقافى أو دينى. لذلك، ترى أنه من الضرورى إنشاء منصات تحتوى على محتوى هادف وأصلى، وتعليم الأطفال الأنشطة التى تعزز القيم. وأشارت إلى أن «المحتوى الهابط، الذى يحتوى على سخرية وانحطاط أخلاقى وثقافى، يهدف لتحقيق أكبر عدد من المشاهدات. وقد يكون وراءه أنشطة مشبوهة مثل غسيل الأموال أو تجارة المخدرات». وأوضحت أن الأثر السلبى الأعمق هو تكوين صورة ذهنية مشوهة للنجاح، حيث يعتقد النشء أن الشهرة والثراء يأتيان بسهولة، دون الحاجة للقيم أو التعليم. وأكدت الدكتورة إيمان أن هذه الظاهرة تسهم فى نشر طاقة سلبية فى المجتمع، حيث تتحول المنصات إلى ساحة سخرية واستعراض هزيل، مما يزيد من مشاعر الملل والإحباط، وبالتالى تزايد نسب الاكتئاب والقلق. فالمجتمع يشهد تغييبًا للوعى الجمعى، مما يخلق أجيالًا تستهلك فقط دون أن تنتج. واختتمت بقولها: «من أجل تقليل هذا الأثر السلبى، يجب أن نقدم نماذج إيجابية للشباب، مثل تكريم الشخصيات التى تقدم محتوى هادفًا. يجب أيضًا تعزيز قوانين الإنترنت وتشجيع المحتوى الذى يعزز القيم والأخلاقيات». غياب القدوة الحقيقية من جانبها، أكدت الدكتورة سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، أن المشكلة تكمن فى «فراغ شديد يعانى منه الشباب، فى ظل غياب الأنشطة المجتمعية الهادفة». وأضافت أن المحتوى الفنى الحالى «لا يعكس أى مغزى تربوى أو ثقافى، بل يقتصر على العنف والهلس». وأشارت الدكتورة خضر إلى أن «القيم والقدوة اختفت من مجتمعاتنا»، وفى ظل غياب البديل، «يظهر البلوجرز ويقدمون محتوى يشوه الوعى الجمعى للشباب». ودعت إلى توفير فرص تفاعلية مثل زيارة الأماكن الأثرية للطلاب، وتكريم النماذج الإيجابية لتقديم قدوة حقيقية للجيل الصاعد. ختامًا، إذا كانت منصات مثل «تيك توك» قد غيرت معايير النجاح، فهل سيظل البحث عن الشهرة الزائفة هو الهدف، أم سنقرر إعادة بناء الوعى الجمعى حول قيم حقيقية؟