125 عاما تمر هذا العام على نشأة دار المعارف، أعرق دور النشر العربية على الإطلاق، وأثراها تراثا وأغناها تاريخا، 125 عاما من نشر المعرفة وإشاعة التنوير وإضاءة العقول، مئات من المبدعين والكتاب والأعلام احتضنتهم وشهدت مولد أعمالهم الأولى، آلاف من الكتب، عشرات من السلاسل، تاريخ مشرق وماض زاخر لم يسجل بعد ولم يتم توثيقه على كافة جوانبه حتى اللحظة.. هنا نستعيد بعضا من مشاهد وفصول دار المعارف، ننعش بها الذاكرة، ونقلب فى الدفاتر القديمة، نتحدث عن كتّاب كبار، نروى قصص مولد أعمال خالدة، وشخصيات عظيمة، بعضا مما ندين به لهذا الصرح العظيم.. فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى ظهرت أعظم مشروعات دار المعارف وأخلدها التى قدمتها للثقافة العربية عبر تاريخها، وهى السلاسل الذهبية، الفريدة التى اضطلعت بنشرها طيلة العقود الماضية، سلاسل من ذهب، اقترح إنشاءها عمالقةُ الفكر والأدب، واضطلع بتنفيذها خيرة رجال دار المعارف، وما زالت هى الأبقى والأنضر من بين كل ما أخرجته مطابع دور النشر العربية مجتمعة، من هذه السلاسل: «اقرأ»، و«ذخائر العرب»، وشقيقتها «تراث الإسلام»، و«نوابغ الفكر العربي»، وتوأمها «نوابغ الفكر الغربى».. وظهرت «إقرأ» إلى النور [بهذا الفعل الجميل (اقرأ) تدعوك دار المعارف إلى قراءة تراث هذه السلسلة العريقة بأقلام كبار كتابنا لتعيش معهم كما عاش الآباء والأجداد وتكون فى مكتبتك موسوعة متفرقة فى فروع المعرفة المختلفة..] (من مقدمة السلسلة على أغلفة كتبها الأولى) فى شهادته التى كتبها عقب وفاة طه حسين فى آخر أكتوبر من عام 1973، كتب المرحوم شفيق نجيب مترى صاحب دار المعارف آنذاك، تحت عنوان (أيام مع طه حسين): "ومن أيَّامه معى يومٌ طرَحت فيه أمامه فكرةَ سلسلةٍ من الكتيِّبات تصدرُ مرةً كل شهر، زهيدة الثمن رفيعة المستوى، مؤلَّفة غير مترجمة، بأقلام كتَّاب من كل طرف من أطراف الوطن العربى، يقرؤها العرب فى كل رجًا من أرجاء الوطن العربى. كان ذلك فى يوم من أيام عام 1942، فانطلق، رحمه الله، بما معناه: إنّ العرب الذين نراهم اليوم منقسمين، ونرى أهواءَهم شتَّى، لن يجمع كلمتهم - يوم تجتمع - إلا نسيجٌ فكرى متجانس، تنسج خيوطه أقلام كتَّابهم جميعًا، فيشترك فى قراءة آثار أقلامهم قراء العربية قاطبة.. بمثل هذا ستجتمع كلمتهم يوما بفضل الله. أصدر سلسلتك يا شفيق، وسمها «اقرأ».. وقد أتحفها بكتابه الأول «أحلام شهر زاد» فكان فاتحة الخير العميم والبركة الشاملة".. هكذا ولدت سلسلة «اقرأ»، أقدم وأعرق بل أول سلسلة كتب جماهيرية، فى مصر والعالم العربي، ويقدر لها أن تكون أهم سلسلة من الكتب الثقافية الرفيعة ويكتب لها الانتشار والذيوع لا فى مصر وحدها بل فى أنحاء العالم العربى كله. ومنذ كانت فكرة تجول فى خاطر صاحب الدار شفيق مترى عام 1942، وحتى ظهر أول كتبها فى 1943، عمل صاحب الدار بمعاونة محررها الأول عادل الغضبان، وبتشجيع ودعم هائل من العميد طه حسين، على التحضر والاستعداد الجيد لتنفيذ المشروع. وفى فبراير من عام 1943، أخرجت دار المعارف سلسلة كتبها الشهيرة «اقرأ»، وانتقت من بين ألمع نجوم الفكر والثقافة فى العالم العربى آنذاك؛ طه حسين وأحمد أمين والعقاد وعلى الجارم وآخرين، لجنة مُكرَّسة لقراء الكتب المرشحة واختيار ما يصلح منها للنشر، وتكون مسئولة عن السلسلة وكتبها. واستهلت السلسلة بكتاب «أحلام شهر زاد» لطه حسين، الذى كتب فى مقدمته للكتاب "عنوان هذه السلسلة خير ما يوجه إلى الأفراد والجماعات بل هو خير ما وجه إلى الإنسان منذ تحضر حتى الآن". تم تدشين «اقرأ» التى "تصدرها دار المعارف بمصر فى طباعة أنيقة بمعاونة حضرات الدكتور طه حسين بك والأستاذ عباس محمود العقاد، والأستاذ فؤاد صروف"، وكتب محرر الدار يُعرف بها "سلسلة كتب شهرية تعمل على تيسير المطالعة الممتعة النافعة وإدخالها إلى كل منزل فى كل مدينة وقرية، أشبه بجامعة شعبية بما تقدمه إلى الشباب والشيوخ من مختلف ألوان الثقافة وصنوف المعرفة. نواة صالحة لإنشاء مكتبة زهيدة الثمن عظيمة الفائدة فى كل منزل يستفيد منها الشباب والشيوخ على السواء". «ذخائر العرب».. عيون التراث العربى بإجماع عشاق التراث العربى ومتخصصيه، فإن سلسلة «ذخائر العرب» التى أصدرتها دار المعارف فى أواخر أربعينيات القرن الماضى، هى السلسلة الأعرق فى مصر والعالم العربى التى اهتمت بنشر التراث العربى نشرًا راقيًا، يقوم على أسسٍ علمية غاية فى الدقة والعمق، واتبعت فى إخراج الكتب أرفع ما وصل إليه علم تحقيق التراث على يد شيوخه الأفذاذ العظام، و"تولت دار المعارف بمصر إخراج كتب السلسلة فى قطع متميز وطباعة فاخرة وجودة لا تنافس"، كما كان يشار إلى صنيع الدار فى ذلك الوقت على أغلفة الكتب والمجلات. ومنذ صدر الكتاب الأول فى «ذخائر العرب»، احتلت مكانة لم تبلغها أى سلسلة أخرى أو أى إصدار آخر فى مجال نشر التراث، ولا شك أن تلك السلسلة التى أصدرتها دار المعارف تعتبر أرقى وأعظم سلسلة تراثية عربية ظهرت حتى الآن، ولا يكاد ينافسها سلسلة أخرى سوى «الذخائر» التى أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة فى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وهى قياسا بالعمر والتاريخ أحدث طبعا من «ذخائر العرب»، وإن كانت لا تقل عنها فى قيمة ونبل ما أخرجته من كتب التراث العربى خاصة خلال الفترة التى تولى رئاسة تحريرها العلامة الكبير الدكتور عبد الحكيم راضى. ويروى المرحوم شفيق متري، صاحب دار المعارف والمشرف العام على مطبوعاتها، فى معرض حديث له عن المرحوم الدكتور طه حسين، فيقول: "ومن أيام الدكتور العميد معى يوم سعيت إليه فيه لأفضى بين يديه بخاطر كثيرا ما جال فى فكرى واختلج فى صدرى، وأنا لا أزالُ أضطربُ فيه بين إقدامٍ وإحجام. "ذخائر العرب" التى خلَّفها الآباء والأجداد، ووقع بعضُها فريسةً فى بعض الأيدى، فأخرجوها للناس رخيصةً مهلهلة، فلا هى موثَّقة محقَّقة، ولا هى فى ثوبٍ قشيب. وكلُّ ما كان يُعنى به أحدهم أن يصدرَ الكتابُ منها وعليه عنوانه ذو الرنين واسم مؤلفه المجيد، فينفد الكتاب فى أيام.. أَفَلَو حققت "دار المعارف" بعض هذه الذخائر النفيسة، وأصدرتها فى الثوب الذى يتناسب مع نفاستها، فأنفقت فى سبيل ذلك ما أنفقت- ترى لو أنها فعلت ذلك، فهل تجد من القراء من يقتنيها بعد أن تعودوا الحصول عليها مقابل دُريهِمات معدوداتٍ؟ أنصتَ إلى إنصاتا جميلا، وكان رحمه الله يحسن الإنصات، ثم تدفق بما كان يسعدنى أن أنقله اليوم بنص عباراته: أهى رسالة أم تجارة؟ اسمع يا أستاذ شفيق! استقبل الرسالة استقبالك الشمسَ، وَاسْعَ فى بلوغها ما استطعتَ إلى ذلك سبيلا. حينئذٍ سيتبعُك رزقُك كما يتبعُك ظلُّك، لا يستطيع منك فكاكًا. أما من استدبر الرسالة وسعى وراء الرزق، فسيبقى حياته يلهث وراء ظله ليبلغه وما هو يوما ببالغه.. أصدر يا شفيق ذخائر العرب محققة موثقة على بركة الله".. وتلاقت خواطر شفيق مترى الصادقة وحماسة طه حسين الحارة بمقترح إنشاء سلسلة لنشر كتب التراث العربى محققة وإخراجها فى ثوب قشيب، تقدم به المحقق الكبير عبد السلام هارون سنة 1942، وذلك بعد أن اشترك مع قريبه العلّامة محمود محمد شاكر فى إخراج وتحقيق أهم وأقدم مجموعتين شعريتين عربيتين تعودان إلى العصر الجاهلي، وهما «الأصمعيات» لعبد الملك بن قريب الأصمعى، و«المفضليات» للمفضّل الضبى، وحققتا نجاحًا كبيرًا، وتخطفتها الأيدي، وطبع منها أكثر من طبعة فى فترة وجيزة. «تراث الإسلام».. رافد عن الذخائر وقد بدأت دار المعارف فى سنة 1374ه، إصدارَ سلسلة أخرى من عيون التراث، يمكن اعتبارها الشقيقة الصغرى ل «ذخائر العرب»، سمَّتها «تراث الإسلام»، كان الكتابُ الأول فيها «تفسير الطبري» أو «جامع البيان عن تأويل آى القرآن» من تحقيق شيخ العربية محمود محمد شاكر، وقد خرَّج أحاديثه المُحَدِّثُ الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر. صدر الجزءان الأول والثانى من كتاب «جامع البيان عن تأويل آى القرآن» الشهير بتفسير الطبرى سنة 1954، لصاحبه أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى (ت 310ه)، وكتب على غلافه الخارجى "حققه وعلق حواشيه محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه أحمد محمد شاكر"، وقد أصدرت دار المعارف منه ستة عشر مجلدا ضخامًا، وقفت فى أثناء تفسير سورة إبراهيم عليه السلام. وكان الكتاب الثانى فى هذه السلسة «جوامع السيرة لابن حزم» مع خمس رسائل أخرى له، وهى: رسالة فى القراءات المشهورة فى الأمصار، رسالة فى أسماء الصحابة ورواة الحديث وما لكلِّ واحدٍ من العدد، رسالة فى تسمية من روى عنهم الفتيا من الصحابة ومن بعدهم، جمل فتوح الإسلام، وأخيرا أسماء الخلفاء المهديين والأئمة أمراء المؤمنين.. وقد حقق هذا الكتاب الدكتور إحسان عباس، والدكتور ناصر الدين الأسد، وراجعه الشيخ أحمد محمد شاكر. مجموعة «نوابغ الفكر العربي» فى عام 1951، وبعد ثمانى سنوات من صدور سلسلة «اقرأ»، وثلاث سنوات من صدور «ذخائر العرب»، بدأت دار المعارف فى نشر سلسلة «نوابغ الفكر العربى» التى استهلها عباس محمود العقاد بكتاب عن «ابن رشد». جاءت هذه المجموعة الجديدة "لتقدم نوابغ الفكر العربى فى جميع العصور، فهى تُعنى بالشعراء والكتاب، كما تعنى بالفلاسفة والحكماء، وتتناول أعلام اللغة كما تتناول أعلام التاريخ. يكتب عنهم ويترجم لهم نوابغ الفكر العربى فى العصر الحاضر من كل قطر وبلد عربى. ورأت دار المعارف أن تعهد فى كل بحث من هذه البحوث إلى المختصين به وذوى الخبرة والدراية فيه، فيجولوا فيه ويتبعوه بباب واف للمختار من روائع المترجم له، مفسر المعانى مبين الأغراض"، بحسب ما سجل محرر السلسلة على ظهر أغلفتها المتتابعة. ومنذ الكتاب الأول وحتى الكتاب الأخير، جاءت كتب المجموعة كلها وفق تخطيط محدد يقوم على قسمين؛ الأول يتضمن ثلاثة فصول يعالج أولها العصر الذى ظهرت فيه الشخصية بأركانه الأساسية: الحياة السياسية، والحياة الاجتماعية، والحياة العقلية والثقافية، ويأتى الفصل الثانى ليعالج تفصيلا سيرة العلم المترجم له وأبرز المحطات التى ألمت به، والتفاصيل المهمة فى حياته، والروافد الفكرية والثقافية التى استقى منها معارفه وشكلت شخصيته ولعبت أثرها فى نتاجه الفكرى والأدبي. وأخيرا يأتى الفصل الثالث ليقدم دراسة مكثفة وعميقة، وموجزة فى الآن ذاته، لأهم إسهامات تلك الشخصية فى مجالها المعرفى أو الحقل الذى برزت فيه وتميزت من خلاله. بينما القسم الثانى، الذى يحتل تقريبا نصف الكتاب، فمخصص بكامله لمنتخبات ومختارات من أعمال الشخصية المترجم لها، فإذا كان فيلسوفا أورد مؤلف الكتاب قطعا مختارة من نصوصه ومؤلفاته ليكشف عن لغته وأسلوبه وطبيعة أفكاره والقضايا الأساسية التى شكلت فلسفته ومجمل آرائه. وإذا كان شاعرا، أورد مؤلف الكتاب نماذج من شعره تعرض للأغراض التى تناولها وعالجها وتكشف فى الوقت ذاته عن خصائص أسلوبه الشعرى وجمالياته بشكل عام. وإذا كان مؤرخا تكون المنتخبات فى هذه الحال صورة من كتابته التاريخية ومنهجه ورؤيته للأحداث التى عالجها فى كتبه وأعماله.. إلخ. صدر من سلسلة «نوابغ الفكر العربى» واحد وأربعون كتابًا، غطت شخصيات وأعلام نبغت فى تاريخنا العربى، قديما وحديثا، فى الأدب والشعر والتاريخ والفلسفة والفكر الحديث والصحافة.. إلخ، وكان الكتاب الأول الذى صدر فى السلسلة للعملاق عباس محمود العقاد عن «ابن رشد»، وهو كتاب فريد ورائع عن أشهر فلاسفة المسلمين فى العصور الوسطى، وأبعدهم تأثيرا فى الفكر الغربى الحديث، فهو الشارح الأعظم لكتب أرسطو طاليس، وأكبر الفلاسفة الشراح أثرا فى الغرب خلال الفترة الزمنية الممتدة من القرن الثالث عشر إلى القرن العشرين. مجموعة «نوابغ الفكر الغربى» وهذه السلسلة هى التوأم لمجموعة «نوابغ الفكر الغربى»، أرادت بها دار المعارف أن تخرج للقارئ العربى وللمكتبة العربية مجموعة أخرى تقوم على نفس الأسس المنهجية والإطار العام والتخطيط الشامل الذى وضعته لإخراج مجموعة «نوابغ الفكر العربى»، لكنها فى هذه المرة عن «نوابغ الفكر الغربى» من الفلاسفة والمفكرين والأعلام الذين لعبوا أدوارا باهرة فى مسيرة الحضارة الغربية، واستكتبت لها خبرة المؤلفين والكتّاب من أساتذة الفلسفة فى الجامعات المصرية؛ مثل: زكى نجيب محمود، فؤاد زكريا، أحمد فؤاد الأهوانى، نجيب بلدى، وعزمى إسلام.. وآخرين. وكتب محرر دار المعارف "عادل الغضبان" عن هذه السلسلة يعرف بها ويقدمها إلى القارئ العربى، يقول "مَهَرت دار المعارف المكتبة العربية بهذه المجموعة النفيسة، وتوخت فيها ألمع ما بزغ فى سماء الغرب من عقول جبارة نابغة؛ لإيمانها بأن مقومات الفكر فى الشرق العربى، وإن توفرت لخلق العالم والأديب، إلا أنها لا تؤتى أطيب ثمارها وأعظم أكلها إلا إذا امتزجت فيها مقومات الفكر الغربي، وهذا ما تتوخاه هذه المجموعة من نوابغ الفكر الغربى". وكل كتابٍ من كتب هذه المجموعة "يمتاز بترجمة وافية لحياة العبقرى الذى أفرد له ذلك الكتاب، وبدراسة مفصلة عن أدبه وعلمه ومذهبه الفكري، كما يمتاز بصفوة مختارة من آثاره الموضحة لمنهج البحث منقولة إلى اللغة العربية ومنشورة إلى جانب الأصل الأفرنجى المنقولة عنه. إنها معرض فكرى حافل سوف يلتقى القراء فيه بجابرة الفكر من رجال الغرب قديمهم وحديثهم؛ أولئك الذين كانوا للعالم مصابيح هدى فأناروا له سبيل العلم والمعرفة". وعلى النهج ذاته أيضا، جاء التخطيط العام للسلسلة؛ فكل شخصيةٍ نابغة فى الفلسفة أو الاجتماع أو التاريخ أو القانون من نوابغ الفكر الغربى التى تتناولها يتم معالجتها بالتمهيد لدراسة عصرها؛ سياسيا واجتماعيا وعقليا، ثم عرض وافٍ لمعالم حياة الشخصية وأبرز ملامحها، ثم عرض لمؤلفاتها وأعمالها وما يتصل بها من أفكارها ونظرياتها أو مذهبها الفلسفى على الجملة، وهذا كله يستغرق نصف الكتاب أو ما يزيد قليلا على النصف. ويأتى النصف الآخر أو القسم الثانى من الكتاب مخصصا بكامله لنصوص مختارة أو منتخبات من أعمال الشخصية وآثارها الكبرى.