125 عامًا تمر هذا العام على نشأة دار المعارف، أعرق دور النشر العربية على الإطلاق، وأثراها تراثا وأغناها تاريخا، 125 عامًا من نشر المعرفة وإشاعة التنوير وإضاءة العقول، مئات من المبدعين والكتاب والأعلام احتضنتهم وشهدت مولد أعمالهم الأولى، آلاف من الكتب، عشرات من السلاسل، تاريخ مشرق وماض زاخر لم يسجل بعد ولم يتم توثيقه على كافة جوانبه حتى اللحظة.. هنا نستعيد بعضًا من مشاهد وفصول دار المعارف، ننعش بها الذاكرة، ونقلب فى الدفاتر القديمة، نتحدث عن كتّاب كبار، نروى قصص مولد أعمال خالدة، شخصيات عظيمة، بعضًا مما ندين به لهذا الصرح العظيم.لم يكن لدار المعارف أن تشهد الازدهار والنجاح الكبير الذى وصلت إليه فى فترة الأربعينيات والخمسينيات، تحديدًا، ثم الستينيات، بفضل شفيق مترى وحده (1904-1994) صاحب الدار وبانى نهضتها العظيمة (أعتبر شفيق مترى لدار المعارف كمحمد على باشا فى تاريخ مصر الحديثة)، بل كان معه ورفقته رجل عظيم، كان يقف وراء هذا المشروع الضخم ويعاون شفيق مترى، ويخلص للكيان الذى رسخ ونما وبات من كبريات دور النشر والطباعة فى العالم العربى، كان بالضبط مثل المخرج الفذ القدير الذى يقف وراء الستار يوجه حركة الممثلين، ويضبط الإيقاع ويصل بالنص المراد إلى غايته المرتجاة، دون أن يراه أحد أو يدرى بالأدوار الجليلة التى أداها أحد، إنه الكاتب والشاعر السورى عادل الغضبان (1908-1972) الساعد الأيمن، والمعاون المخلص الأمين لشفيق مترى، طيلة ثلاثة عقود متصلة، شهدت خلالها دار المعارف ذروة مجدها، وقمة نجاحها، واحتلت مكانتها كأكبر وأهم دار نشر فى العالم العربى. كان عادل الغضبان واحدا من المثقفين الكبار الذين أدوا خدمات جليلة للثقافة العربية بشكل عام، وفى مجال نشر الكتب وأدب الأطفال بشكل خاص، فضلا عن تأسيسه لتقاليد مهنة "المحرر الأدبى" لدور النشر بشكل احترافى، وذلك خلال الفترة التى عمل بها محررًا ومشرفًا عامًا على نشر الكتب والإصدارات فى دار المعارف لأكثر من ثلاثة عقود متصلة. كان الغضبان جزءًا لا يتجزأ من تاريخ دار المعارف فى عصرها الذهبى، وركنا أصيلا من سيرتها وفضلها وإنجازها، ورغم ذلك الدور الهائل الذى أداه الرجل، فإن مما يؤسف له عدم توافر أى مادة تؤرخ وتوثق لهذا الرجل ومجهوده العظيم وإنجازه الضخم، فعلى كثرة ما بحثت ونقبت عن سيرة الرجل وأعماله وتاريخه فوجئت بأن لا شىء على الإطلاق يليق بحجم وإنجاز الرجل باستثناءات لا تذكر ولا تشكل خرقا للقاعدة بل تثبيتا لها وتأكيدا. كان كل ما وجدته عن الغضبان لا يتجاوز فصلين قصيرين فى كتابين اثنين؛ هما «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره» للكاتب والمؤرخ الأدبى القدير وديع فلسطين، و«وجوه عربية على ضفاف النيل» للمرحومة وداد سكاكينى فى ما لا يتجاوز عدة صفحات ركزت خلالها على جانبه الشعرى والأدبى ولم تتعرض تقريبا لعمله فى دار المعارف إلا بأسطر قليلة، ثم بضع مقالات هنا أو هناك لا تشفى غليلا ولا تقدم زادًا. اسمه بالكامل "عادل حكمت الغضبان"، من أعلام الأدب والصحافة فى الوطن العربى بلا جدال، من مواليد الحادى عشر من نوفمبر عام 1905 بالتقويم الرومى الذى يقابل العام 1908 بالتقويم الميلادى، وُلد بمدينة مرسين التابعة لمحافظة حلب قبل أن يستولى عليها الأتراك، من أسرة حلبية الأصل، فهو سورى الأصل، مسيحى الديانة، وكان والده ضابطًا بالجيش التركى. وعادل الغضبان، هو ابن حكمت الغضبان شقيق إلياس وقريب حكمت زوج الأديبة المشهورة (مريانا مراش)، فهو يمتّ بصلة النسب والقرابة إلى آل المراش أيضًا (الذين خرج فيهم فرنسيس فتح الله المراش صاحب رواية «غابة الحق» التى يقال عنها إنها أول وأقدم نص روائى سردى فى تاريخ الرواية العربية). والتحق فى بادئ الأمر بمدرسة ابتدائية فى حلب، قبل أن تنزح أسرته إلى مصر، وقيل إن أسرته هاجرت من حلب إلى القاهرة وعمره شهران فقط، فأقام بها ونشأ وترعرع فى رحابها، وتلقى علومه الأولى فى معهد الآباء اليسوعيين (مدرسة العائلة المقدسة الجزويت) بالقاهرة، التى كانت قلعة للغتين العربية والفرنسية بفضل مديرها الأب "جبرائيل العقيقى"، فأظهر عادل الغضبان تفوقًا واضحًا فى اللغتين، حتى إذا ما ظفر بشهادة البكالوريا عيّنه الأب العقيقى مُدرسًا للغة العربية فى المدرسة ولا سيما لأن عادل الغضبان لم يكن يقنع طوال سنين الدراسة بمتابعة المقررات، بل كان يطالع كذلك أمهات الكتب العربية ودواوين الشعراء، وشرع فى هذه السن الصغيرة فى نظم الشعر على بحور الخليل بن أحمد. وكان التفرغ للتدريس يقتضيه بذل جهود تتصل حتى بعد انتهاء اليوم المدرسى، ولهذا ارتضى الانتقال إلى وظيفة متواضعة فى سكك حديد مصر، وأُسند إليه فيها عمل الترجمة. وكانت مصر فى ذلك الوقت خاضعة للاستعمار البريطانى الذى أنشأ محاكم مختلطة كى يحاكم أمامها الأجانب المتمتعون بامتيازات تحميهم من المثول أمام المحاكم المصرية والقضاة المصريين، وهى محاكم ألغيت فى ما بعد عند إلغاء الامتيازات الأجنبية فى عام 1936. فالتحق عادل الغضبان بهذه المحاكم مترجمًا بفضل إجادته للغتين العربية والفرنسية، وكان قد تابع دروسًا فى القانون فى مدرسة الحقوق الفرنسية للتضلع من المصطلحات القانونية. ثم اشتغل فى الصحافة، وكان يترجم لكبريات الصحف المصرية ما تكتبه صحافة الغرب من مقالات وآراء فى السياسة الدولية مما له صلة بالوطن العربى، وكان فى كل ذلك متصلا اتصالا وثيقا بدوائرها الأدبية ونشاطها الذى لا ينقطع. ويحكى الذين كتبوا عن عادل الغضبان أو تعرضوا لشىء من سيرته أنه كان نادرة النوادر فى حبه وعشقه للثقافة العربية الإسلامية ومعرفته بها ودفاعه المخلص الدائم عنها، وكانت ثقافته العربية أدبًا وشعرًا ومثلًا، وتراثًا بالجملة، مضرب الأمثال. كان شاعرًا وله قصائد عديدة منشورة بدوريات ذلك العصر، وكان يتمتع بشخصية جذابة وأسلوب ناصع وإحساس شاعرى مرهف وكان غزير الشعر وخاصة فى المناسبات الاجتماعية والوطنية. قدم لنا وديع فلسطين صورة وصفية دقيقة لعادل الغضبان (تقريبًا لم أعثر على صورة واحدة واضحة المعالم لعادل الغضبان)، فى مقاله عنه، يقول وديع فلسطين: "التقيت بعادل الغضبان للمرة الأولى فى مكتبة المعارف فى مبناها القديم فى شارع الفجالة فى القاهرة، قبل أن تنتقل إلى مبناها الجديد على كورنيش النيل فى حى ماسبيرو حيث صارت تعرف بدار المعارف، وحيث اتخذت لها شعارًا هو "اطلب المعارف من دار المعارف". كان عادل الغضبان فى مقتبل عمره شابًّا جميل الصورة، طلق المحيا، رخيم الصوت، عذب اللسان، يلقاكَ بكثيرٍ من الود، ويرحب بك فى مكتبه المتواضع قبل أن تصبح الفخامة سمة من السمات الجوهرية فى المكاتب، وقبل أن يصبح "الديكور" لازمة من لوازم الأبهة والوجاهة". وعلاقة الغضبان بأعلام عصره ومشاهير الكتاب والأدباء والشعراء معروفة ومتينة، فقد كان صديقًا لمعظم هؤلاء، وبسببٍ من علاقته بهم وارتباطهم به كانوا يثقون فى الرجل ثقة مطلقة ويقدرون ثقافته ومواهبه الرفيعة، وهناك صفحات كثيرة وعديدة فى سجلات وأرشيفات دار المعارف تجمع الغضبان فى عشرات المناسبات بأهم وأكبر مثقفى عصره؛ طه حسين، وعباس العقاد، وفؤاد صروف، وأنطون الجميل، وكل من ربطتهم بصورة أو أخرى علاقة ما بدار المعارف أو نشاطها الواسع فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى. وينقل وديع فلسطين عن عباس محمود العقاد (1889-1964) ما قاله عن عادل الغضبان: "إنى لأعجب لهذا الشاعر خريج الجزويت الذى يملك ديباجة عربية قل أن يملكها خريج الأزهر"، ونقل كذلك عن محمد عبد الغنى حسن (1907-1985) عن شيخ العروبة أحمد زكى باشا (1860-1934) قوله بعدما أصغى إلى محاضرة للغضبان حلّل فيها مسرحية «مجنون ليلى» للشاعر أحمد شوقى 1869-1932 "والله لو سمعت المحاضر من وراء حجاب، لما شككتُ قط فى أنه أحد شيوخ الأزهر العظام". الغضبان.. ودار المعارف لعلّ فى قصة عادل الغضبان والتحاقه بدار المعارف مغزى لكل مهتم وباحث عن عناصر النجاح والتميز التى تقوم عليها مؤسسة للنشر وطباعة الكتب؛ بل أى مؤسسة، فعندما يكون على رأس هذه المؤسسة رجل بحجم وخبرة وتفوق شفيق مترى يلحظ بعين خبيرة مدربة الكفاءة الحقيقية ويتشمم بحاسة الإدارى الناجح الموهبة الفذة، فإنه على الفور يبادر باستدعائها وإسناد المهام الجليلة إليها فتكون النتيجة ازدهار غير مسبوق ونجاح لا يُحد والوصول بالمؤسسة إلى مصاف الكيانات الاقتصادية الكبرى فى العالم العربى، فضلا عن دورها الثقافى والتنويرى الذى التزمت به وسعت إلى تحقيقه. يحكى المؤرخ الأدبى وديع فلسطين قصة اكتشاف شفيق مترى لعادل الغضبان، فيقول إنه بعد حلّ المحاكم المختلطة، التى كان يعمل بها مترجما، التحق عادل الغضبان بدار المعارف التى أصبحت كل دنياه، واقترن اسمه بها وبكل ما حققته من سمعة ضخمة على الصعيدين العربى والعالمى. كان الغضبان وقتها -فى حدود عام 1944- شابًا فى مقتبل العمر يزاول فى الدار عملًا كتابيًا مع زميل له اسمه يوسف شحاتة دفعه طموحه إلى الاستقلال بدار أطلق عليها اسم "دار العالم العربي" وأصدر عنها مجلة شهرية عنوانها (العالم العربي)، ولكن الداء العضال اقتضب عمره، وآلت ملكية الدار إلى شريك له. وسرعان ما اكتشف شفيق مترى، صاحب الدار، أن لعادل الغضبان من كفاءاته المتعددة، ومن فضائله الخلقية الكثار ما يرشحه لأكبر من هذه الوظيفة المكتبية، فاختاره مشرفًا ثقافيًا على مطبوعات الدار فى عهدها الذى أصبح بفضله عهدًا زاهرًا، وصار صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى تقرير ما تنشره الدار من الكتب بموضوعاتها المتباينة، بما فى ذلك كتب التراث الضخام بأجزائها التى تُربى أحيانًا على العشرين. كان هذا القرار الذى اتخذه شفيق مترى بإسناد مهام الإشراف على المطبوعات الثقافية لدار المعارف إلى عادل الغضبان "نقلة نوعية" واستهلالا لمرحلة جديدة فى تاريخ الدار، تزامن فيها تقسيم المهام إداريا وماليا لشفيق مترى ويوسف مشاقة، وتحريريا لعادل الغضبان فكان أن شهدت دار المعارف خلال الفترة (1945-1963) أعظم نجاحاتها، وأغزر إنتاجها، وارتبط القوام الأكبر من أهم الإصدارات فى كل المجالات وعلى كل المستويات بهذه الفترة المزدهرة الغنية المشرقة وهؤلاء العظام الذين كانوا وراء هذا الإنجاز. يقول وديع فلسطين: "أما مآثر عادل الغضبان فى دار المعارف فكثيرة، فهو صاحب فكرة إصدار السلاسل المختلفة مثل «اقرأ»، و«نوابغ الفكر العربى»، و«نوابغ الفكر الغربى»، و«ذخائر العرب»، و«أولادنا»، وكذلك فكرة إصدار مجلة (سندباد) للأطفال التى رأس تحريرها محمد سعيد العريان (1905-1964). وهو الذى رأس تحرير مجلة «الكتاب» الشهرية التى استمرت تصدر بانتظام منذ عددها الأول فى تشرين الثانى/ نوفمبر 1945 وإلى آخر أعدادها فى عام 1953. ومن المصادفات التى لا أحاول تعليلها أن جميع مجلاتنا الأدبية ك"المقتطف" و"الرسالة" و"الثقافة" و"الكاتب المصرى" و"الكتاب" و"مجلة علم النفس" كانت على موعد مع عام 1952 أو بعده بقليل، فاحتجبت جميعًا فى هذا التوقيت الملغز! وكان الإشراف على كل ما تنشره الدار يقتضيه أن يطالع بنفسه على كل نص يقدم للنشر، سواء أجيز أو لم يُجز، فجاء هذا كله على حساب الطاقة الأدبية للغضبان نفسه، إذ كان يقول لى إنه يفضل نشر كتب الآخرين على نشر كتبه الخاصة، ولهذا قلّ إنتاجه الأدبى المنشور، وبقى إنتاج كثير مخطوطا". وهذا الفصل من تاريخ دار المعارف، هو أزهى وأزهر فصولها وأغناها بالكتب والإصدارات، المؤلفين والكتاب والشعراء ومحققى التراث والمترجمين، سلاسل الكتب المتنوعة للكبار والصغار، الدوريات الثقافية العامة، وأخرى موجهة للأطفال، كل ذلك وغيره شهدته دار المعارف على مدار ثلاثين سنة متصلة، كان عادل الغضبان يقف وراء كل هذا النشاط مثل "الدينامو" لا يكل ولا يمل، فهو أولا المحرر الأول للدار تعرض عليه الأعمال المقترحة للنشر، يقرؤها ويبدى الرأى فيها، وفى حال قبول نشرها، يقوم بتحرير النص وإجراء التعديلات المطلوبة، والوصول به إلى أحسن صورة يمكن أن يظهر بها وعليها، كل ذلك بالتوازى مع جهوده الخاصة فى التأليف والترجمة والكتابة للأطفال. وقف عادل الغضبان وراء نجاح كل السلاسل التى ظهرت عن دار المعارف خلال تلك الفترة، فقد كان بحق الجندى المجهول، الذى يتولى إعداد الكتب ويختار مؤلفيها أو يسند بعض الأعمال إلى كتّاب بأعينهم (بتكليف خاص من دار المعارف)، وكان هو الذى يتولى الإعداد والتخطيط لشكل السلاسل وموضوعاتها وتحديد الإطار والمنهج العام الذى على أساسه ستخرج كتب هذه السلسلة أو تلك. وتقريبا هو الذى كان أيضا يحرر كل المواد الدعائية والترويجية لكتب دار المعارف وسلاسلها المتنوعة على ظهر أغلفة إصدارات الدار، فكان يصوغ عبارات رشيقة تعرف بالكتاب أو السلسلة، وتعرض فى إيجاز لمحتواها، ثم تعدد فى نقاط مكثفة أبرز ما تقدمه أو تتميز به، وفى مناسبات أخرى كان يورد أقوال كبار الكتاب والأدباء وتقريظاتهم فى الأعمال الصادرة عن الدار. وعندما تم تأميم دار المعارف فى سنة 1963، لم تنقطع صلة عادل الغضبان بالدار، بل استمرت رغم التغييرات التى أجريت على إدارتها وسياستها، وربما كان وجوده عاملا حاسمًا فى الحفاظ على المكانة التى احتلتها الدار بين دور النشر المصرية والعربية، وقد بذل عادل الغضبان جهدا مضاعفًا فى هذه الفترة وانكب على عمله بطاقة كبيرة وإخلاص نادر، رغم ما كان يخالط روحه ونفسه من حزن وأسى بعد التغيرات التى نالت هذا الصرح، وربما كان هذا المجهود الوافر والطاقة الجبارة التى بذلها عقب التأميم هى التى سرّعت بوفاته فى ديسمبر من العام 1972.