125 عاما تمر هذا العام على نشأة دار المعارف، أعرق دور النشر العربية على الإطلاق، وأثراها تراثا وأغناها تاريخا، 125 عاما من نشر المعرفة وإشاعة التنوير وإضاءة العقول، مئات من المبدعين والكتاب والإعلام احتضنتهم وشهدت مولد أعمالهم الأولى، آلاف من الكتب، عشرات من السلاسل، تاريخ مشرق وماض زاخر لم يسجل بعد ولم يتم توثيقه على كافة جوانبه حتى اللحظة.. هنا نستعيد بعضا من مشاهد وفصول دار المعارف، ننعش بها الذاكرة، ونقلب فى الدفاتر القديمة، نتحدث عن كتّاب كبار، نروى قصص مولد أعمال خالدة، شخصيات عظيمة، بعضا مما ندين به لهذا الصرح العظيم..كانت إحدى السمات البارزة للمجتمع المصرى منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين حيويته الكبيرة والتى كان أحد أهم أسبابها انفتاح مصر وتوافد الكثيرين عليها مهاجرين لأغراض شتى، ومن بين كل الهجرات، كانت هجرة الشوام أهمها وأكثرها تأثيرًا حيث بثت دماءً جديدة فى شرايين الثقافة والاقتصاد والاجتماع المصرى، وهو تأثير لا زلنا نلاحظ بقاياه الآن. لقد كانت مصر وقتها قاعدة كبرى لمشروع تحديثى قائد للمنطقة، يحاول الأخذ بكل أسباب التحديث والنهضة ولا يعانى الخوف من الآخرين، بل يجد فى نفسه الثقة على استيعابه والاستفادة منه. ومن يتأمل الصفحات الطويلة التى تؤرخ لمئات المفكرين والكتاب والصحفيين والفنانين والمبدعين الشوام الذين احتضنتهم مصر واستوعبت طاقاتهم المبدعة سيشعر بالحسرة والخجل من المعارك الوهمية باسم الدفاع عن مصر من اختراق المبدعين أو الفنانين الشوام، يشعلها فاشلون يتسترون بها على الضعف وانعدام الموهبة! تدريجيا، ومثلما فعلت مع كل الوافدين عليها، قامت مصر بتمصير هؤلاء المهاجرين حتى أصبحت الأجيال الثالثة والرابعة منهم من المصريين تماما كما هو الحال مع أسرة «الرافعى» القادمة من طرابلس (منهم المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، والأديب مصطفى صادق الرافعى)، وأسرة شلهوب (ومنهم عمر الشريف)، وأسرة شاهين (ومنها يوسف شاهين)، وأسرة صيدناوى الشهيرة أصحاب المتاجر المعروفة، وأسرة السيدة فاطمة اليوسف (ابنها الروائى والصحفى إحسان عبد القدوس)، وهناك من ولد وعاش فى مصر ثم عاد إلى لبنان مثل بيير الجميل الذى ولد وعاش بمدينة المنصورة عام 1905، ثم عاد إلى لبنان ليؤسس حزب الكتائب، وولداه بشير وأمين كانا من رؤساء لبنان. من بين أبرز اللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر، واستقروا بها، وعاشوا فيها، آل مترى، نجيب مترى، وولداه إدوار وشفيق مترى، وهى الأسرة التى اشتغل مؤسسها بمهنة الطباعة والنشر، وتوارثها من بعده ابنه شفيق، ويرتبط الاسمان «نجيب» و»شفيق» بصرح كبير، باهر، باذخ، اسمه دار المعارف. الأب المؤسس.. نجيب مترى (1865-1928) فى الأول من مايو من العام 1865، ولد نجيب مترى بلبنان، ببلدة الشويفات من أعمال جبل لبنان، وتعلم فى مدارسها، ثم انتقل إلى بيروت، وفيها تعلم فن الطباعة وصف الحروف، وحذق هذه المهنة وتشرب أصولها حتى صار فيها من المبرزين المحترفين. ولا نعلم كيف كانت الفترة التى قضاها فى مسقط رأسه منذ مولده وحتى هجرته إلى مصر التى كانت فى السنوات الأولى من ثمانينيات القرن التاسع عشر. فى الإسكندرية، وحيث كان يقطن أحد المهاجرين اللبنانيين أيضا «عزيز زند» مؤسس وصاحب صحيفة «المحروسة»، يبدو أنه كان على صلة ما بشفيق مترى، ليس هناك ما يشير إلى طبيعة هذه العلاقة ولا أسباب انعقادها، كل ما نعلمه أنه قرر استدعاءه من لبنان ليشتغل معه فى صحيفته المحروسة، ويكون مديرا لمطبعتها، وبالفعل استجاب مترى لنداء عزيز زند ووفد إلى الإسكندرية فى العام 1884، وتولى إدارة مطبعة المحروسة. ست سنوات قضاها مترى مديرا لمطبعة المحروسة بالإسكندرية، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة فى عام 1890، مُزمعًا إنشاء مطبعة خاصة ومكتبة تكون نواة لمشروع كبير فى عالم الطباعة والنشر. ويبدو أن إمكانيات نجيب مترى المادية لم تكن تساعده لإنشاء هذه المطبعة بشكل مستقل أو منفرد، فعقد شراكة مع رائد شامى كبير بدوره هو العلم البارز جورجى زيدان، وأسسا معًا «مطبعة التأليف». لم تستمر هذه الشراكة سوى عاما واحدا، ولا نعلم الأسباب التى كانت وراء فضها، لكن وبصورة عامة انتهت هذه التجربة باحتفاظ جورجى زيدان بالمطبعة وأسماها «مطبعة الهلال» التى ستكون بعد عام واحد فقط نواة دار الهلال العريقة. بينما أسس نجيب مترى مطبعة جديدة مستقلة أطلق عليها اسم «مطبعة المعارف». من هذه اللحظة سيشهد تاريخ النشر فى العالم العربى تدشين واحدة من أروع تجاربها، ويستهل نجيب مترى عميد عائلة مترى فى مصر رحلته مع مهنة الطباعة والنشر. كان مقر المطبعة فى بدايتها الأولى فى الطابق الأرضى من عمارة الدمرداش بشارع الفجالة، ثم سيشهد العقار رقم (70) من الشارع ذاته أو «شارع المطابع»، من جهة باب الحديد، مولد مطبعة المعارف فى الطابق الأرضى الذى كان عبارة عن فناء وثلاث حجرات بسيطة، وكان هذا المبنى ملكا للسيد خليل الزهار واشتراه منه السيد عبد الرحيم الدمرداشى باشا. كانت المطبعة فى أول عهدها عبارة عن آلةٍ صغيرة للطبع تدار باليد وآلة لطبع التجارب، وبضعة صناديق للحروف. وعرف عن نجيب مترى وعن مطبعته، منذ البداية، الاهتمام والسعى الدءوب للنهوض بفن الطباعة العربية. وتذكر الدكتورة عايدة نصير فى كتابها «حركة نشر الكتب فى مصر فى القرن التاسع عشر» أن ما نشرته (مطبعة المعارف ومكتبتها) خلال السنوات العشر التى عاشتها فى القرن التاسع عشر بلغ 17 كتابا. فى العام 1910 حينما يكون فى مقدور نجيب مترى أن يتوسع فى نشاط «مطبعة المعارف»، سيقوم باستئجار دكان إضافى بنفس العقار الذى تقع فيه المطبعة، وسيطلق عليها اسم «مكتبة المعارف». وتحت اسم واحد هو «مطبعة المعارف ومكتبتها» سيجمع نجيب مترى الكيانين معا تحت هذا المسمى، وهى التى ستشكل نواة ما سيعرف باسم «دار المعارف» التى قدر لها أن تلعب أعظم الأدوار وتخرج روائع الأعمال ويقرن اسمها بأعلام العصر من الأدباء والشعراء والمفكرين. لم يكن نجيب مترى مجرد صاحب مطبعة ومكتبة فقط، بل كان مثقفا واسع الثقافة، محبا للأدب، شغوفا بالمعرفة، بل إنه كان ينظم الشعر أيضًا. جعل مترى من «مطبعة المعارف» أكثر من مجرد دار نشر صغيرة تطبع الكتب، لقد حوّلها إلى «صالون ثقافى» ومنتدى أدبى دائم يضج بالزائرين من الكتاب والمؤلفين وأصحاب القلم.. زارها فى السنوات الأولى لإنشائها أحمد حشمت باشا ناظر المعارف، وتردد عليها أمير الشعراء أحمد شوقى، وشاعر القطرين خليل مطران، ومنصور فهمى باشا، وآخرون من أعلام هذه الفترة الزاهرة. وبالتأكيد، فإن الصلة الوثيقة التى ربطت نجيب مترى بأهم وأبرز رجالات عصره من الكتاب والأدباء والمفكرين والسياسيين أيضا، كان لها كبير الأثر فى نشاطه وتوسعاته التالية فى المطبعة، إذ استثمر نجيب مترى هذه الصلات كأحسن ما يكون، مما أتاح له أن يجتذب هؤلاء جميعا لنشر كتبهم وأعمالهم لديه، وكل ذلك أعطى للدار الوليدة (مطبعة المعارف ومكتبتها بالفجالة) خاصة فى طور نشأتها الأولى دفعة قوية وهائلة فضلا عن ترسيخ أقدامها بثبات وقوة فى عالم النشر آنذاك. بعد خمسة وعشرين عاما من تأسيسه لمطبعة المعارف ومكتبتها بالفجالة، اتسعت تجربة نجيب مترى وامتدت وأصبحت المطبعة من أكبر مطابع القاهرة وأكثرها استعدادا وجاهزية لطباعة الكتب المدرسية وغيرها من صنوف الإصدارات، وحازت شهرة عريضة بسبب جودة طبعها وإتقان إخراجها، وهنا سيقوم نجيب مترى بإضافة قسم جديد للمطبعة مخصص لتجليد الكتب تجليدًا فاخرًا. وبمناسبة مرور ربع قرن على إنشاء مطبعة المعارف ومكتبتها، احتفى كبار الكتاب والأدباء والشعراء من المشاهير بهذه المناسبة فى احتفال كبير أقيم بفندق الكونتيننتال بالقاهرة فى 28 أبريل سنة 1916، وقدم فريق منهم كأسًا تذكاريا إلى نجيب مترى اعترافا وتقديرا للدور الكبير الذى لعبه الرجل خلال هذه الفترة من تاريخ مطبعة المعارف. وضع نجيب مترى لنشاطه فى مجال النشر وتعاملاته مع الكتاب والمؤلفين دستورا صارما التزم به وطبقه خير تطبيق، وكما يقول هو نفسه فى الاحتفال بالعيد الفضى لمطبعة المعارف إنّ «رأسمالها قوة الإرادة، وحسن الإدارة، ولا زالت سائرة على خطتها، مع ما كان هناك من المصاعب الجمة، حتى تمكنت من نشر طائفة غير يسيرة من الكتب الأدبية والعلمية والمدرسية والفكاهية، وأصبحت مطبعة المعارف ومكتبتها إحدى الجهات الكبيرة لصناعة الكتاب، فانتشرت مطبوعاتها فى العالم العربى أجمع، وعرفت فى كل مكان بمراعاة جميع أصول الطباعة الراقية، لأنها توخت منذ إنشائها ترقية الطباعة، لتضاهى الطباعة الإفرنجية وما بلغت إليه من الإتقان والتفنن».. وما كان لمطبعة المعارف ومكتبتها أن تستمر وتنمو لولا حرصها البالغ ووعى صاحبها الرهيف بضرورة مسايرة أحدث ما وصلت إليه تقنيات الطبع والنشر فى أوروبا، كان نجيب مترى واعيا ومتابعا لتطورات الصناعة فى الخارج، وكان مداوما على متابعة النشاط ورعايته فى ظل شرط ألزم به نفسه وفرضه على مطبعته الوليدة، وهو ضرورة أن تنهل باستمرار من خبرة المطابع الغربية الفائقة، واضعة فى اعتبارها كل تحسين ممكن لصناعة (الكتاب العربى). ويكتب نجيب مترى فى عام 1915 (وكان مضى على تأسيس المطبعة ربع قرن): «إن مطبعة المعارف قد أصبحت بمشيئة الله، بعدما جهزناها به من أنواع الحروف المختلفة، والآلات الحديثة، مستعدة للقيام بكل ما يطلب منها طبعه فى اللغات العربية والإفرنجية». كما نشرت المطبعة فى ذلك الوقت إعلانا فى الصحف ينوه عن أجناس الحروف الموجودة فى المطبعة وأنواعها واستخداماتها، وعلى سبيل المثال يشرح الإعلان سمات ووظائف حرف بنط 9 فيقول «يحسن استخدامه لطبع الألقاب والوظائف على بطاقات الزيارة»، وهكذا يستطرد فى تبيان وظائف الأبناط الأخيرة التى كان معمولا بها فى ذلك الوقت.. كتب أصدرتها (مطبعة المعارف ومكتبتها) خلال الفترة التى ظهرت فيها (مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر)، اضطلعت بنشر طائفة ضخمة من الكتب والإصدارات القيمة فى المجالات كافة، كان من أظهرها وأشهرها «الموجز فى علم الاقتصاد» من خمسة أجزاء، ترجمة الشاعران حافظ بك إبراهيم، وخليل أفندى مطران، وكتاب فى «التربية والأخلاق» (جزءان) لمؤلفه أيضا حافظ بك ابراهيم، بالاضافة لكتيب فى الاقتصاد من تأليف حافظ بك ابراهيم أيضا. ونشرت كتاباتٍ لرائد أدبى هو عبد الله فكرى بعنوان «الفوائد الفكرية»، وغيرها من الكتب المقررة على طلبة المدارس فى ذلك الوقت. وفى الأدب والثقافة العامة والسياسة، نشرت مطبعة المعارف كتبًا كثيرة، من أهمها «مختارات الزهور»، وهى مجموعة شعرية لأمراء الشعر فى ذلك العصر، وهم إسماعيل صبرى باشا، وأحمد شوقى بك، وخليل مطران بك، وولى الدين بك يكن، وحافظ بك ابراهيم، وأحمد محرم، وحفنى بك ناصف، وغيرهم. وهذه المختارات كانت تنشر فى مجلة «الزهور» لصاحبيها أنطون بك الجميل، والشيخ أمين تقى الدين، التى كانت تصدر أيضا عن مطبعة المعارف ومكتبتها. وكانت هذه المختارات رائجة جدا فى ذلك الوقت، واستعانت المطبعة بمجموعة مشاهير أعلام - آنذاك - أثروا المكتبة بكتب جادة ومهمة فى تخصصاتها. أيضا كانت هناك كتابات عربها وديع البستانى (مترجم عمر الخيام) منها «معنى الحياة»، و«السعادة والسلام»، و«مسرات الحياة»، و«محاسن الطبيعة»، وكلها لمؤلف واحد هو لورد أفيرى، ويكتب البستانى فى مقدمة «محاسن الطبيعة»: «هذا الكتاب كسائر مؤلفات لورد أفيرى آية من آيات السحر الحلال، وقد بحث فيه المؤلف فى عالمى الحيوان والنبات، ثم تناول وصف المناظر التى يتألف منها عالم المشاهدة كالبحور والأنهار والبراكين والجبال والأودية والأفلاك على اختلاف أنواعها». وتأتى بعد ذلك الكتب المهمة التى نقلها المرحوم أحمد فتحى باشا زغلول (شقيق سعد زغلول) والذى رحل عام 1941، وإن كان لهذا الرجل موقف سلبى فى قضية دنشواى، إلا أن كتبه المترجمة كانت مقروءة كثيرا، مثل «سر تطور الأمم» للفرنسى جوستاف لوبون، وكتاب «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» لإدموند ديمولاند، و«جوامع الكلم» لجوستاف لوبون، غير الكتب المؤلفة له مثل «شرح القانون المدنى» و«المحاماة»، وظلت هذه الكتب تطبع المرة تلو المرة، وعلى رأسها كتاب «سر تقدم الإنجليز السكسونيين»، الذى لاقى عناية ورواجا بين الجمهور المثقف فى هذه الفترة. وهناك أيضا مجموعة الدكتور شبلى شميل، وهى تشتمل على مقالات فى مذهب (داروين) فى أصل الأنواع وتحولها وشرح «بخنر»، وهذه المقالات هى أول الغيث الذى هطل فى هذا الموضوع، كما تشتمل المجموعة على مباحث دقيقة فى موضوعات شتى: عمرانية وطبيعية وعلمية وتاريخية وأدبية وسياسية وانتقادية وفكاهية.كما نشرت المطبعة ترجمات ألكسندر دوماس لواضعها نجيب الحداد، وروايات يعقوب صروف مثل «فتاة مصر» وروايات فرح أفندى أنطون «الوحش الوحش الوحش»، وجاء على غلافهما: (رواية أدبية غرامية اجتماعية، ذات مشاهد لبنانية، ومبادئ شرقية، وأفكار غريبة) وهناك الرواية الضخمة «الثورة الفرنساوية» لإسكندر ديماس، ترجمها فرح أنطون. وربما تكون المرة الأولى التى يعرف فيها القارئ الكريم أن (مطبعة المعارف ومكتبتها) هى التى أخرجت لجمهور القراء فى مستهل العقود الأولى من القرن العشرين الطبعات الأولى من كتب قاسم بك أمين التى أحدثت هزة فى المجتمع المصرى مثل «تحرير المرأة»، و«تحرير مصر»، وكتاب محمد المويلحى الشهير «حديث عيسى بن هشام»، وكتاب «دفاع المصرى عن بلاده» لمصطفى باشا كامل، كما أخرجت طبعة حديثة من الكتاب التراثى الأشهر «دلائل الإعجاز» لإمام البلاغيين عبد القاهر الجرجانى، و«الريحانيات» لأمين الريحانى، و«سر الليالى فى القلب والابدال» لأحمد فارس الشدياق. و«طبقات الأمم» لجورجى زيدان، و«الصحائف السود» لولى الدين يكن، و«المدنية والإسلام» لمحمد فريد بك وجدى.