125 عاما تمر هذا العام على نشأة دار المعارف، أعرق دور النشر العربية على الإطلاق، وأثراها تراثا وأغناها تاريخا، 125 عاما من نشر المعرفة وإشاعة التنوير وإضاءة العقول، مئات من المبدعين والكتاب والأعلام احتضنتهم وشهدت مولد أعمالهم الأولى، آلاف من الكتب، عشرات من السلاسل، تاريخ مشرق وماض زاخر لم يسجل بعد ولم يتم توثيقه على كافة جوانبه حتى اللحظة.. هنا نستعيد بعضا من مشاهد وفصول دار المعارف، ننعش بها الذاكرة، ونقلب فى الدفاتر القديمة، نتحدث عن كتّاب كبار، نروى قصص مولد أعمال خالدة، شخصيات عظيمة، بعضا مما ندين به لهذا الصرح العظيم.بعد وفاة نجيب مترى، الأب المؤسس، الذى رسخ اسم (مطبعة المعارف ومكتبتها) فى أوساط الكتاب والمفكرين والناشرين، وجعل منها منارة حقيقية، بقدر ما تشع نورًا وتنويرًا وثقافة، بقدر ما تجتذب من الكتاب والمؤلفين وأصحاب الفكر والرأى، لم تتوقف مسيرة (مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر) كما كانت تعرف فى ذلك الوقت، واستهلت مرحلة جديدة من تاريخها بعد أن تولى إدارتها الأخوان "إدوار" و"شفيق" ابنا نجيب مترى، والأخير كان بحق، صاحب الفضل فى النهوض بدار المعارف، وجعلها على رأس دور النشر فى العالم العربى كله. تولى شفيق إدارة مطبعة المعارف ومكتبتها، وكان أبوه قد أعده لتولى هذه المهمة بإرساله إلى فرنسا وألمانيا والنمسا لتعلم فنون الطباعة والنشر، وهو ما قام به شفيق خير قيام، ويبدو أنه كان شغوفا بهذه المهنة فتشرب أسسها وتفاصيلها من والده، وحذق دقائقها وأسرارها ببراعة متناهية، فضلا عما أضافته تجربة السفر إلى أوروبا وزودته إياه بأحدث ما وصلت إليه تطورات صناعة النشر فى العالم آنذاك. وبدأت المطبعة تطبع العديد من الأعمال، بالألوان، طبعا دقيقا محكما، وكان ذلك تمهيدا للطفرة التى ستشهدها المطبعة فى إخراج كتب الأطفال. كانت مطبعة المعارف ومكتبتها بالفجالة قد آلت إلى الأخوين شفيق وإدوار مترى (توفى إدوار عام 1935)، وكل شىء فى هذه المطبعة يشير أبلغ إشارة إلى الجهود العظيمة التى بذلها مؤسسها (نجيب مترى) وإلى قوة العزيمة التى كان يتحلى بها فى إدارة العمل، "فقد كان سبّاقا فى حلبة الإتقان مفطورا على الميل الصحيح إلى هذا الفن العظيم معروفا بسلامة الذوق ورقة الجانب وكرم الأخلاق. وقد غادر هذه الحياة قرير العين بما تركه من الآثار التى خلَّدت ذكره فى تاريخ فن الطباعة فى الشرق". هذا ما كتبه حضرة الأستاذ الكبير محمد أمين بك لطفى، السكرتير العام لوزارة المعارف المصرية سابقا، سنة 1931، ينعى مؤسس المطبعة ويقرظ دوره وفى الوقت ذاته يشير إلى ولديه شفيق وإدوار معبرا عن ثقته وأمله فى استكمالهما مسيرة والدهما، والإضافة إلى ما حققه من إنجازات ونجاحات. يقول "ولا تزال هذه المطبعة الشهيرة تسرع الخطى صاعدة فى معارج الرقى والحياة المقرونة بالأثر الصالح والذكرى الجميل بهمه صاحبيها الأديبين الناهضين شفيق أفندى مترى وإدوار أفندى مترى اللذين يتباريان فى حلبة العمل بنزاهة وإخلاص وأمانة ويعملان بما أوتياه من المهارة فى سبيل التجديد والتحسين، ويتسابقان إلى توثيق عرى الصداقة والولاء مع كرام الكتاب والشعراء والمؤلفين الذين خدموا العلم بأقلامهم وأفكارهم ولا يزالون يجدُّون فى نشر التعليم فى أرجاء البلاد". مثلت الفترة التى تولى فيها "شفيق نجيب مترى" إدارة دار المعارف (1928-1963) انقلابًا مذهلًا بكل ما تعنيه الكلمة، شكلا ومضمونا، وكانت إضافاته وتطويراته من السعة والضخامة والإنجاز بما يفوق قدرة أى شخص على تصور هذا النجاح الكبير، بل الساحق، مما جعل دار المعارف كعبة المثقفين فى العالم العربى، وحلمًا كبيرًا أن ينشر فيها كاتب مهما كان اسمه وشهرته أعماله فيها. وفى ظنى أن الإعداد الذى تهيأ له شفيق مترى، بدفع من والده المؤسس، بدراسة فنون الطباعة والنشر فى أوروبا بموازاة ملكات فطرية ومواهب سخية فى الإدارة والتخطيط، فضلا عن ثقافة موسوعية وعين حساسة وذائقة رفيعة، كل ذلك لعب دوره فى ما وصل إليه شفيق مترى من نجاح كبير. بادر شفيق، عقب وفاة أخيه إدوار عام 1935، وإدارته منفردا للمطبعة، بتعيين مجموعة من أكفأ الإداريين والمشرفين المعاونين له فى الدار، فاستعان بالشامى المشهور يوسف مشاقة ليكون مديرا للمطبعة، مسئولًا عن الجوانب المالية والإدارية لها (سيتزوج مشاقة من شقيقة شفيق مترى فيما بعد)، ثم وبعينه الخبيرة المدربة بدأ يفتش عن من يكون "محررًا" للدار بالمعنى الذى نفهمه اليوم، فوقع اختياره على الكاتب الأديب عادل الغضبان ليكون مشرفًا تحريريا على إصدارات دار المعارف. وبعد أن تهيأ ما يمكن أن نعده "فريق إدارة دار المعارف"، يرأسه شفيق مترى ويعاونه فيه اثنان من أكفأ ما عرف فى هذا المجال، يبدأ فصل جديد، رائع، سُجلت سطوره بحروف من ذهب، ليس فى تاريخ دار المعارف وحدها، بل فى تاريخ الثقافة العربية فى القرن العشرين، حَلَّقت فيه دار المعارف إلى آفاق بعيدة، وجاوزت السقف الذى لم يكن أحد يتخيل أن يجاوزه أحد، كمًا ونوعًا وأرباحا، وصارت دار المعارف بلا أدنى مبالغة دار النشر الأولى مصريا وعربيا، بل وواحدة من دور النشر ذات السمعة العالمية أيضا. فى سنة 1941، وبمناسبة احتفال مطبعة المعارف ومكتبتها بعيدها الذهبى (مرور خمسين عاما على إنشائها) استهل شفيق أعماله التطويرية بافتتاح فرع جديد للمطبعة بالإسكندرية، وعلى الرغم من قلة الورق فى فترة الحرب فقد أخرجت مطبعة المعارف ومكتبتها طبعة فاخرة، غاية فى الفخامة والتميز وجمال الشكل، طبعة تذكارية من الكتاب التراثى الخالد «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، بتحقيق الدكتور عبد الوهاب عزام بك، وتصدير الدكتور طه حسين بك، بمناسبة العيد الذهبى للدار. وفى سنة 1944، قام شفيق مترى بتغيير اسم (مطبعة المعارف ومكتبتها بالفجالة) إلى الاسم الذى ستعرف وتشهر به وسيبقى حتى وقتنا هذا، وهو «دار المعارف بمصر»، وهنا قرر شفيق أن يبدأ إضافاته الجذرية وتطويراته غير المسبوقة للدار بتغيير شكل الحرف الذى صممه الأجانب لطبع الكتب العربية، وتحويله إلى شكل جديد أقرب إلى الذوق العربي، فسافر خصيصا إلى بريطانيا حاملا معه التصميم الجديد، ونجح فى إقناع شركة "المونوتيب" بأن تصنع هذه الحروف خصيصا لدار المعارف! وفى عام 1945، حصلت الدار على أول ماكينة جمع "مونوتيب" عربية خالصة بالحروف الجديدة، وكانت هذه الآلة الأولى من نوعها فى مصر والعالم العربى فى ذلك الزمن البعيد! وكانت ثورة فى عالم الطباعة والنشر بكل المقاييس، بات هذا الحرف العربى الجديد علامة مميزة وأيقونة من المستحيل تقليدها وَسَمَت إصدارات دار المعارف، وظلت ملازمة لها وعلامة عليها لما يقرب لأكثر من خمسة عقود كاملة قبل أن يتغير الحال، وتختلف الأمور! وبسبب من هذه الطفرة الهائلة التى أحدثها شفيق مترى بإدخاله هذا الحرف العربى الجديد المعد للطباعة، شهر الرجل من حينها بالريادة فى مجال الخطوط العربية والحرف العربى المعد للطباعة، وصار من خبراء هذا المجال، مما دعا الهيئات والمؤسسات القائمة آنذاك إلى الاستعانة به وضمه إلى اللجان المشكلة لبحث تطوير الحرف العربى فى مطابعها. وربما كان هذا هو السبب فى ضم شفيق مترى إلى واحدة من اللجان المهمة التى أوكل لها تيسير الكتابة العربية فى ضوء المستجدات الحديثة، ولعل فى هذه القصة ما يوضح حجم ومكانة الرجل كخبير يعتد به فى مجاله، ففى سنة 1947، أعلن مجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع القاهرة حاليا) عن مسابقة لتيسير الكتابة العربية، جائزتها ألف جنيه مصري، وهو مبلغ ضخم جدا فى ذلك الوقت، وتقدم نحو مائتى متسابق لهذه الجائزة، من بينهم فنيون وفنانون لهم قيمتهم، وهم مختلفون فى منازعهم، حتى أن مجمع فؤاد الأول للغة العربية القائم ببحث هذا الموضوع، تلقى رسائل فيه من أمريكا ومن روسيا ومن الهند وغيرها من سائر الأقطار والبلاد. ولأهمية هذا الموضوع وخطورة أثره، رأى مسئولو المجمع ألا تنفرد لجنة تيسير الكتابة العربية بالحكم على هذه المشروعات، وأن ترجئ نظرتها حتى تسمع رأى حكام فنيين فى الخط وفى الطباعة، فقد يُعجب اللجنة مشروعٌ يصعب تنفيذه فى العمل، فتبطل قيمته، وتنعدم جدواه، وقد يروق اللجنة مشروع من وجهته العامة ولكنه فى أداء مقتضيات الكتابة العربية ناقص أو عسير التحقيق، ورأت اللجنة أن أعضائها وإن كان لهم بَصَر بالكتابة العربية، وسابق نظر فى المشروعات والمقترحات التى بسطت للتيسير، فإنهم ليسو بالفنيين المتجردين لشئون الخط والطباعة. لذلك كله قرر مجلس المجمع، فى جلسته التى ختم بها دورته الماضية، تأليف لجنة من فنيين فى الخط وفى الطباعة اختار لها المدير العام لمصلحة المساحة رئيسا، ويتكون أعضاؤها من كبير الخطاطين بمصلحة المساحة، والأستاذ السيد إبراهيم الخطاط، والشيخ محمد فخر الدين بك، ومدير المطابع والتوريدات بمصلحة السكة الحديد، ورئيس مطبعة دار الكتب، والأستاذ شفيق مترى صاحب دار المعارف. وضم إليهم الأستاذ شارل كونتز مدير المعهد الفرنسى بالقاهرة باعتباره فنياً فى الخطوط السامية وأحد الذين تتبعوا تطور الكتابة العربية، ليقارن بين الخطوط المقترحة وبين الخطوط السامية. وذلك على أن تعقد هذه اللجنة بدار المجمع اجتماعات أسبوعية توالى فيها النظر فى المقترحات المقدمة. وينتظر أن تقدم تقريرها فى هذه المهمة إلى المجمع قبل انتهاء عطلة الصيف حتى يستطيع المجمع أن ينظر فيها فى مقتبل دورته القادمة. هذه القصة الطريفة التى عثرت عليها فى أحد أعداد مجلات «الرسالة» المنشورة فى يونيو 1947، تدل على رفعة المكانة التى بلغها شفيق مترى فى عالم الطباعة والنشر، ومدى ما كان يمثله فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، ليس باعتباره مالكا لأكبر دار نشر فى العالم العربى، إنما أيضا لخبراته الكبيرة ومعارفه الزاخرة فى مجال الطباعة والنشر. (نشرت بتاريخ 23 يونيو 1947، فى مجلة الرسالة). لم يكتف "شفيق مترى" بالجانب التقنى فقط، بل كان على وعى بأن التطوير الجدير بالتنفيذ وغايته النجاح لا بد أن يستند على رؤية كلية وشاملة لا ينفصل فيها عنصر عن عنصر ولا جانب عن جانب آخر، ولهذا ففى الوقت الذى كان يسعى لتجديد "الأداة" أو "الآلة" كان يفكر فى شكل المنتج الذى استجلب له هذه العدة الجديدة، وهو الكتاب، وأقصد هنا بشكل الكتاب ليس فقط إخراجه الفنى وغلافه، وما يتصل بذلك من نواح فنية وتقنية، بل أقصد محتواه أيضا، بدءا من الموضوع، والمؤلف، مرورًا بالهدف والغاية، دون أن يفصل ذلك كله عن مقتضيات السوق وآليات التسويق والتوزيع، كل ذلك كان يفكر فيه شفيق مترى، ويدور فى رأسه، وفى سبيل ذلك قرر أن يستعين بكل كفاءة متاحة لتنفيذ ما يحلم به.* هذه الحلقة والحلقة السابقة (وما يلى من حلقات أخرى).. أجزاء من كتاب كبير عن تاريخ دار المعارف بعنوان «دار المعارف 125 عاما من الثقافة والتنوير» يصدر بالتزامن مع الاحتفال بمرور 125 عاما على تأسيس الدار نهاية الشهر الحالى.