حين تكون كتابة الدستور رهينة للظرف المتقلب، فهو حينئذ لن يقوى على المسير طويلا، ولسوف تبدو منه نذر الصدام مع المتغيرات الجديدة، وتبدأ الأصوات تعلو بتعديله أو بإسقاطه، بعد أن صار وثيقة من الماضى القريب، وذلك فى حالة جموده وانعدام مرونته فى التعامل مع طموحات قد طرأت، حينما وقف منها موقف العجز عن تلبيتها.. ولقد صار الجدل عنيفًا حادًا، ذاك الذى طال دستورى 2012 و2013، ففى غضون سنوات قليلة لم يلبيا هذان الدستوران، ما من أجله قامت اللجنتان بالصياغة.. لجنة المائة، ولجنة الخمسين، فالدستور الأول لم يبرح مكانه وسقط بسقوط نظام حكم واضعيه، وجاء الدستور الثانى مصححًا ومصوبًا إعوجاجًا ألم به.. فقد كان كل منهما رهينين لأحداث كانت لها كبير الأثر فيما بداخلهما من مواد.. فالأول كان دستورًا يتسم بالنزعة الطائفية، والثانى لازال الجدل يتواصل فى شأن بعض مواده.. وقد بدا ذلك واضحًا حين أتت الإشارة إلى الحاجة الملحة لتعديل الدستور فى معرض كلام السيد الرئيس السيسى، أمام شباب الجامعات بجامعة قناة السويس 13/9/2015 فى جملة كانت ذات دلالة عميقة إذ قال: «الدستور المصرى كُتِبَ بنوايا حسنة، والدول لا تُبنى بالنوايا الحسنة فقط»، وفيها من الإيحاء المهذب لغربة متزايدة فى تعديل الدستور، وتأتى العبارة لتتواصل مع اتجاه الكثيرين من رجال القانون الدستورى، الذى رأوا فى بعض مواد دستور 2013 عدم التوازن فيما يخص تحديدًا باب نظام الحكم الذى يتناول اختصاصات وصلاحيات مجلس النواب والحكومة، والعلاقة بين سلطات الدولة.. فهل المشكلة تكمن فيما هو داخل الدستور من مضمون ومحتوى؟ أم أن أصل المشكلة يتمثل فى التوقيت الملائم لصياغة الدستور؟ وتكمن الإجابة على ذلك، فيما لو وقفنا على النقاط التالية: فالدستور هو الوثيقة القانونية الأساسية التى تنبثق من نصوصها ووفقا لوجهتها، سائر القوانين الفرعية والتشريعات المنظمة لها وفق قواعد الدستور ومعاييره الأساسية، تلك التى تضبط إيقاع شئون الدولة والمجتمع. وكم كانت الأخطاء جسيمة، حين اندفعنا فى كتابة الدستور على غير السُنّة المعمول بها فى كتابة الدساتير فى العالم، وهذا حدث حينما كتبنا الدستور كما لو أننا نضع برنامجًا حزبيًا، يتوافق مع رؤاى وتصورات الساسة، فكان فصل القول فيه لتيارات ذات خلفيات سياسية، وفئوية، وحقوقية.. وذلك لا يخدم محتوى الدستور الذى هو وثيقة المجتمع والتى تكفل الحقوق والحريات لجميع المواطنين، من دون تمييز أو استثناء.. وقد بعدنا عن الأصل فى ذلك حين يكون الأصل فى كتابته منوط بلجنة أعضائها من الفقهاء الدستوريين ممن لا علاقة لهم بالسياسة والأحزاب، فتقوم تلك اللجنة بسماع طموحات وأحلام جميع فئات المجتمع، ومن ثم وتترجمها فى شكل دستورى. ويأتى التوقيت الملائم لكتابة الدستور إذ لا يجوز أن يكون الدستور متأثرًا تأثرًا بالغًا بأحداث جسام، فيها الشعب أطاح فى ثورة طالت أنحاء البلاد، وأطاحت بنظام حكم، فاستدعت الحاجة تعديل دستور سابق، فيكفينا هنا فى تلك الحالة أن تكون هى النداء لأوان كتابة الدستور أو تعديله، من دون أن تكون تلك الحالة باضطرابها وقلقها هى المهيمنة أو هى الخلفية التى من خلالها حتمًا ستبث سمومها فى مفاصل مهمة ومحورية فى الدستور، كما حدث فى دستور 2013 حين كانت الدولة تجابه حملة خارجية تصف الوضع الداخلى بأنه انقلاب وما فى ذلك من الابتزاز، فى الوقت الذى كانت لابلاد تحتاج دستورًا أيًا كان محتواه، لتقف أمام العالم وقد أثبتت أن هناك مسارًا ديمقراطيًا وخارطة طريق فى أعقاب ثورة شعبية، وانتهز نفر ممن كانت أصواتهم عالية داخل لجنة الخمسين تلك الظروف، التى فيها عنوان المرحلة يقول: إن الحريات والحقوق والمطالب تكون على حساب انتقاص السيادة العليا للبلاد، لا أن تكون متناغمة مع السيادة العليا، وكان العنوان أيضًا ذاك الذى فيه الدولة فى حالة الدفاع، على اعتبار أن بعض التوجهات فى تلك اللجنة كانت تضع الدولة فى خانة التوجس والشك بل والاتهام، فخرج الدستور وبه من المحتوى ما يضع الرئيس الذى هو فى يده مفاتيح الأمن وسلامة البلاد، يضعه تحت رحمة برلمان قادم يعج بالتنازعات السياسية وما فى ذلك من خطر يهدد الأمن القومى.. وما الدساتير إلا وسيلة لهدف منشود، فيها الحفاظ على الحقوق والحريات وتنظيم وضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فيما يصب صوب الحفاظ على هيبة الدولة والقيام بوظائفها، وأن تيسر الوصول لهذا الهدف من دون تلك الوسيلة، التى هى الدساتير، فلن تكون الحاجة ملحة من الأصل فى بذل الجهد لوضع الدساتير، وهذا ما يُعرف بالدستور غير المدون، فلا توجد فى إنجلترا (كما هو الحال بقية دول العالم) وثيقة مكتوبة تسمى بالدستور الإنكليزى.. لأن الغالبية العظمى من القواعد الدستورية المطبقة فى هذا البلد، نشأت وتطورت استنادًا إلى التقاليد والأعراف والسوابق القضائية. من هنا نلخص إلى أننا الآن بحاجة لإعادة النظر فى هذا الدستور، ليكون ليس فقط ملبيا لحاجتنا فى نهوض مصر من كبوتها الآنية الظرفية المحدودة، بل يكون دستورًا لا يصيغه صدى الأحداث المتداعية على الأرض الآن، والتى ستكون فيما بعد من الماضى وليست ذى بال، بعد أن نكون قد حشونا الدستور بمواد لم تعد صالحة بعد تجاوز تلك المرحلة.. فرؤيتنا للمستقبل البعيد القادم هو وحده الروح والخلفية التى ننطلق منها ونحن نجرى ما يلزم من التعديل على الدستور، دستور نرى فيه مستقبل أجيال قادمة تكون فيه البداية لحياة أفضل لهم، تبدأ من تلك النقطة التى شرعنا فيها بتعديل مسار الدستور على أسس سليمة.