كانت الناقة «محورا» لثلاث قصص ومواقف فى التاريخ الإسلامى والعربى، فقد بعثها الله «آية» لقوم ثمود حتى يؤمنوا بما جاءهم نبى الله.. أخوهم صالح.. وهى القصة التى نحن بصددها الآن. ثم كانت سببا فى حرب «البسوس» بين أبناء العمومة.. قبيلتى تغلب وبكر فى العصر الجاهلى، استمرت أربعين عاما، والتى اشتعلت بسبب قيام «كليب» زعيم قبيلة تغلب بقتل ناقة كانت ترعى فى أرضه وهى لسيدة تدعى «البسوس».. وكانت مقيمة عند ابن أختها «جساس» فارس قبيلة بكر، والذى انتقم لناقة خالته بقتل كليب، ومن ثم بدأت الحرب التى أتت على الأخضر واليابس بين القبيلتين. أما المرة الثالثة.. فقد كانت ناقة رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. والتى دخل على ظهرها إلى المدينة بعد الهجرة من مكة، وعندما أراد البعض الإمساك بعقالها.. قال لهم الرسول «اتركوها فإنها مأمورة».. فأناخت فى مكان معين أقيم عليه المسجد النبوى بالمدينةالمنورة.. والذى تهفو إليه قلوب الحجاج والمعتمرين من المسلمين.والناقة.. التى نحن بصددها الآن.. اشتهرت بناقة صالح.. ولكنها فى الحقيقة هى «ناقة الله» كما وُصفت بسورة الأعراف (هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً). فلم تكن من أملاك سيدنا صالح عليه السلام من قبل أن يبعثه الله نبيا لقومه «ثمود».. كما كانت «عصا موسى» التى يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى. فهذه «الناقة».. خلقها الله بأمر منه من صخرة، حيث أمر الصخرة أن تنفلق فخرجت الناقة وكانت تلك الصخرة فى جبل مجاور لمنطقة الحجر التى كان يقطنها قوم ثمود وهم قبيلة عربية شهيرة.. ورثوا قوم عاد «العمالقة» الذين كذبوا نبى الله «هود» واتهموه بالسفاهة والكذب.. فقطع الله دابرهم من على الأرض.. (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) «الأعراف 74»، ومازالت آثارهم موجودة حتى الآن فى منطقة الحجر بشمال المدينةالمنورة، ويطلق عليها مدائن صالح أو «فج الناقة». والطريف أن قصة سيدنا صالح والناقة وقوم ثمود قد وردت فى «11» سورة من سور القرآن الكريم، والله يذكر عباده.. لعل الذكرى تنفع المؤمنين.. وقد حبا الله قوم ثمود بالرزق الوفير والصحة الجيدة.. حيث اتخذوا من الوديان قصورًا بها نخيل وزرع لكل الثمرات.. ومن الجبال بيوتا.. فقد كانوا ينحتون بيوتهم فى الجبال.. مما يدل على قدرتهم وحسن صنعتهم.. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام.. فيبعث الله إليهم نبيًا منهم.. هو أخاهم صالح وكان معروفا بينهم بالصلاح والاستقامة.. وعندما أتاه «التكليف» الربانى بدأ فى إبلاغ قومه.. (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بينما هم صم لا يسمعون واستمر فى دعوتهم (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ).. ولكنهم لم يتعظوا ولم يقتنعوا وقالوا له كما قال قوم عاد لهود،.. وكذلك قوم إبراهيم (.. نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) (...... بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). ياصالح.. كنا نعتبرك عاقلا قبل ذلك ثم نحن نشك فيما تقول ونظن أنك من الساحرين (يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). لكن نبى الله يستمر فى مجادلتهم وتحذيرهم.. حيث هداه الله وأتاه منه رحمة.. وهو صادق فيما يقول.. فكيف يعصى ربه؟.. ومن منهم ينصره عنده إذا عصاه.. وحذرهم أن يخسروا الدنيا والآخرة بقولهم هذا، يا قوم إنى رسول أمين أنقل لكم ما أمرنى الله به، فاتقوه وأطيعون تنجوا من عذابه، ثم أنا لا أسألكم على مهمتى أجرا، فما جزائى إلا عند الله رب العالمين.. وأخذ يعدد لهم نعم الله عليهم حيث أسكنهم آمنين فى جنات وعيون وزروع ونخل ثمرها طيب يتدلى من كثرته. فما كان قولهم سوى.. إنك بشر مثلنا وما أنت إلا ساحر، وإذا كنت رسولا حقا فأتنا بآية.. إن كنت من الصادقين.. قالوا (إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) «الشعراء» ولم يكتفوا بالتحدى.. بل أساءوا القول فى حقه (أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)، ولكن الله- سبحانه وتعالى- يعدهم بكشف حقيقتهم (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ)، ويطمئن نبيه.. ويعده بشد أزره.. حيث يرسل له الناقة «آية» لتكون لهم «فتنة» وتكشف نواياهم.. وطلب منه أن يراقبهم وينتظر ماذا سيفعلون (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ). ومع ذلك يستمر النبى صالح فى تحذير قومه (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).. ولكن هيهات.. هيهات.. فلا حياة لمن تنادى! فقام سيدنا صالح للصلاة.. وأخذ يدعو ربه أن يأتيه بما وعده فانفلقت الصخرة فى الجبل.. وخرجت منها ناقة عشراء، كما حدد القوم مواصفاتها من قبل. فنطق نبى الله بالحق (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). ولم يكتف صالح بالبشرى والتحذير.. ولكنه أعلمهم كيف ستجرى الأمور.. حيث عليهم أن يشربوا من بئر المياه يوما ويتركوا اليوم التالى للناقة.. وهكذا.. (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ). ولكنهم كانوا قومًا غلاظًا استحبوا العمى على الهدى ولم يؤمنوا بما أمرهم نبيهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) وادعوا أنها تشرب ماءهم، فتآمروا عليها.. ولكنهم انقسموا فيما بينهم، فالأغلبية منهم استكبروا وقالوا للذين آمنوا بصالح إننا نعلم أن صالح نبيا- بعد أن رأوا آية الناقة- ولكننا لا نصدقه، ونكفر بما آمنت به الأقلية التى صدقته. حدث الخلاف بين قوم ثمود.. بينما كان هناك مجموعة «رهط» بالمدينة قد نوى ذبح الناقة.. وكلفوا مجموعة منهم بالتنفيذ..ويقال إنهم ذبحوا ابنها أيضا.. ويقال إنه جرى منهم واختفى فى الصخرة مرة أخرى. وعندما علم صالح بما حدث وعدهم بعذاب عظيم من الله، بعد ثلاثة أيام.. ولكنهم تبجحوا وقالوا (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ).. ثم جلسوا فى بيوتهم ينتظرون.. وكانوا عندما ينتهى اليوم.. يهنوا أنفسهم بأنه لم يحدث شىء، إلى أن جاء أمر الله فأخذتهم الرجفة والصاعقة فتحولوا إلى جثث هامدة، فانصرف عنهم النبى صالح وهو يقول (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). نعم.. لقد كذب أصحاب الحجر المرسلين، وأتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. لقد نجى الله نبيه والذين معه برحمته الواسعة.. وبدأت قصتهم تروى.. ويكفى أن يقول الله فى حقهم (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا). لقد كانت فى قصص الأنبياء عبرة لأصحاب العقول وتصديق لنبينا الكريم وتفصيل لكل شىء. لعلنا جميعا نقرأ ونفهم ونتعظ.. فهل من مدكر؟..