استطاع «حسين شلبى عجوة» فى عام 1811 أن يخترع ماكينة تقوم بضرب الأرز وتبييضه.. وقدم نموذجا منها إلى الباشا محمد على حاكم البلاد.. ففرح بها جدًا وأغدق عليها بالهدايا والمكافآت.. وأمر على الفور بتعميم الآلة فى أنحاء القطر. لم يفعلها محمد على لكى تظهر الجرائد فى اليوم التالى وهى تحمل صورته وقد كتبوا تحتها الباشا راعى العلم والعلماء وإن كان الرجل فى وقتها فعلا وقولا وعملا رائد العلم والتعليم وقال إمام «عجوة»: «إن فى أولاد مصر نجابة أى ذكاء وقابلية للمعارف». وبدأ خطواته نحو نهضة تعليمية شاملة.. انطلق بها من الأزهر الشريف لأن حافظ القرآن الكريم هو أكثر من يدرك ويؤمن بقيمة العلم ثم بدأ فى إنشاء المدارس المتخصصة فى الطب والهندسة والعسكرية والترجمة.. وانتبه إلى أهمية المدرسة الابتدائية لأنها الحاضنة التى ترعى الفتى فى المهد وكان يصرف على الطالب فى ملبسه ومأكله ومشربه وإقامته ونفقاته.. وذلك أمام الجميع بلا استثناء أو تمييز. ثم ربط التعليم باحتياجات الدولة.. وبدأ فى إرسال البعثات إلى الخارج.. وجاء بالأجانب الخبراء إلى مصر.. وحتى يسهل التفاهم بينهم وبين الطلاب أنشأ مدرسة الألسن واهتم بالترجمة وظهرت مدارس الهندسة فى القلعة وبولاق.. والطب فى أبى زعبل وقصر العينى والمدرسة الحربية العليا فى أسوان.. لأنه أراد أن يبعدها عن العين.. وفى الحربية كانت هناك عدة مدارس للمشاة والفرسان وأركان الحرب العليا بالخانكة.. إلى جانب مدرسة الموسيقى العسكرية والبحرية والتجارة والمعاهد العليا فى مصر القديمة ومدرسة الزراعة فى نبروه دقهلية والطب البيطرى فى أبى زعبل وشبرا. *** وفى عام 1834 بلغت مدرسة بولاق العليا فى الهندسة والعلوم الرياضية حتى أصبحت الأولى فى العالم.. كما يقول المؤرخ الشهير عمك الجبرتى.. ويكفى أن تعرف أن ناظرها فى هذا الوقت العلاّمة «على مبارك» كان محمد على يؤمن بأن الامبراطورية العظمى يجب تأسيسها على العلم وخاصة الطب والهندسة والرياضيات، ذلك هنا أن تدرك حجم الكارثة الكبرى التى نعيشها حاليا فى مدارسنا وجامعاتنا.. وقد ارتفعت معدلات هروب التلاميذ من القسم العلمى إلى القسم الأدبى طلبا لنجاح يقوم على الحفظ الأعمى.. وكل تجارب النهضة والتقدم فى العالم قديما وحديثا قامت فى الأساس على الرياضيات والعلوم والهندسة والطب. هذا ما أدركه محمد على منذ أكثر من 30 سنة وفشلنا فيه حاليا.. وقد تزامن بناء وإنشاء المؤسسات التعليمية مع بناء جيش قوى من أبناء البلد خير أجناء الأرض بعد أن كانت المرتزقة الغالبية العظمى فى الجيش.. كان انحيازه للعلوم على حساب المواد النظرية رسالة أن البلاد لا تحتاج إلى ألسنة وحناجر بقدر ما تحتاج إلى عقول وسواعد وابتكارات وعندما اختار القلعة مقرًا لحكمه كان يريد أن ينظر إلى البلاد من أعلى بنظرة شاملة فاحصة.. وكأنه يريد أن يرتقى بها لكى تصعد إليه وتعلو فى كافة الاتجاهات. *** تصور أن تنفق الدولة فى عام 1813 مبلغ 300 ألف جنيه لإرسال 319 مبعوثا إلى الخارج أى أن الفرد يتكلف حوالى 100 ألف جنيه فى هذا الزمان وهو رقم كان يكفى لشراء شارع بأكمله.. لكن محمد على وفى سبيل بناء الدولة الحديثة لم يبخل على البعثات وأنفق عليها هذا المبلغ الضخم غير آسف.. لكى يحصد النتائج بعد ذلك فى زراعة متقدمة وهندسة على أعلى مستوى وترجمة حديثة وطب متطور وصناعة رائدة وعلم حقيقى قبل أن يكيل بالبذنجان بعد ذلك بحوالى 300 سنة إلا قليلا. لم تكن المسألة تتم بشكل عشوائى.. فالمبعوث حسب تخصصه يذهب إلى البلد الأرقى والأعظم فى مجاله فإذا تحدثنا عن بناء السفن وعلوم البحار واختار لهم المدن الإيطالية.. فهل يمكن لفرد أن يذهب إلى الخارج ثم يعود يفتح أبواب الخير لغيره وللمئات من بعده؟ حصل.. ففى عام 1816 تم إرسال «نقولا سابكى» إلى إيطاليا لكى يتعلم فنون الطباعة وسبك الحروف وظل هناك لمدة أربع سنوات عاد بها لكى يتولى إدارة مطبعة بولاق لكى تبدأ مصر عهدا جديدا فى مجال الطباعة والصحافة والنشر والترجمة. أكثر من هذا كان محمد على يتابع المبعوث شهريا ويطلب جداول الدرجات وقد نشر رفاعة الطهطاوى نموذجا من رسائل محمد على إلى المبعوثين فى فرنسا قال فيها: قدوة الأماثل الكرام الأفندية المقيمين فى باريس لتحصيل العلوم والفنون زاد قدركم ننهى إليكم أنه قد وصلنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم وكانت هذه الجداول المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منها ما حصلتموه فى هذه المدة وقد عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم وهذا الأمر غمنا غما كثيرا. *** ويا أفندية ما هو مأمولنا منكم للأسف وكنا ينبغى أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئا من ثمار شغله وآثار مهاراته فإذا لم تغيروا هذه الباطلة (العادة) بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كتب وظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون فإن ظنكم باطل وعندنا والحمد لله رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون فينبغى للإنسان أن يتبصر فى عاقبة أمره وعلى العاقل ألا يفوت الفرصة وأن يجنى ثمار تعبه وبناء على ذلك أنتم أغفلتم عن اغتنام الفرصة وتركتم أنفسكم للسفاهة ولم تجتهدوا فى كسب احترامنا وأن تتميزوا بين أمثالكم. ولأن المدارس تعددت وتنوعت كان ضروريا من البحث عن كيان يجمعها ومن هنا أنشأ محمد على ديوان المدارس الحكومية فى عام 1837 ليكون بذلك أول وزارة للمعارف وقبلها كان موجودا ما يسمى بمجلس شورى المدارس. ويكون هذا الديوان من أوائل المبعوثين بعد عودتهم وكان يرأسه مصطفى بك مختار وكان من أعضائه المعروفين كلوت بك عميد كلية الطب والذى ارتبط اسمه للأسف بشارع الهلس الذى كان يحمل اسمه. وكان من أعضاء الديوان رفاعة الطهطاوى وهذا الديوان هو الذى أوصى بأن يكون عدد طلاب كل مدرسة 200 طالب وأن يكون التعليم مجانيا فى جميع مراحله. وكانت الحكومة توفر للطلاب الغذاء والكساء والمسكن وتنظم لهم المرتبات وقد بلغ عدد التلاميذ فى أنحاء القطر المصرى 9000 طالب فى جميع مراحل التعليم والآن أقول لك المفاجأة إن الرجل الذى شيد هذا المعمار التعليمى وأطلق لبلادنا العنان لكى تعلو بين الأمم.. لم يكن متعلما!! ألا يدلك هذا على أن التربية قد تحقق التعليم لكن التعليم وحده لا ينجح ولا يفلح بدون تربية فهل كانت والدة طه حسين إلا امرأة بسيطة لا تعرف أبسط قواعد القراءة والكتابة لكنها رتبت وأحسنت التربية مع والده الفلاح الأمى.. والنتيجة خرج إلينا الكفيف الذى رفع لواء العلم للملايين بالبصيرة قبل البصر. الآن نسأل أنفسنا كم من متعلم يحمل شهادة لكنه فى حقيقة الأمر يحملا أسفارا لا يدرى ما فيها..! لن ينصلح حال الأمة إلا بصلاح التعليم.. والبدء بالتربية أولا.. وأعود هنا إلى المشهد الختامى الجليل الذى أورده الإعلامى الكبير نشأت الديهى فى كتابه محمد على باشا.. بدايات قاسية ومجد عظيم.. حيث بلغ الباشا سن الثمان واجتمع بكبار القادة فى عام 1846 حيث قال لهم إذ أمرتكم بشىء لا تقلبلونه وهو غير صحيح. *** فقد رخصت لكم الاعتراض عليه وأكون فى غاية الامتنان لذلك وإذا لم تتحولوا عن خصالكم القديمة من الآن فصاعدا ولم تقولوا الحق فى كل شىء ولم تجتهدوا فى طريق الاستقامة ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة مصلحة هذا الوطن العزيز فلابد لى أن اغتاظ منكم وصرت مجبورا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق الصحيح اضطرارا مع حرقة كبدى وسيل الدموع من عينى!