وزير المالية القطري يثمن دور مصر في دعم القضايا العربية    بن غفير يقتحم المسجد الأقصى للمرة الأولى منذ 7 أكتوبر    حلمي طولان: حسين لبيب عليه أن يتولى الإشراف بمفرده على الكرة في الزمالك.. والفريق في حاجة لصفقات قوية    ارتفاع عدد ضحايا حادث معدية أبوغالب إلى 14 عاملة وإنقاذ 9 وجار البحث عن 3 مفقودين    الصحة والمركز الأوروبي لمكافحة الأمراض يفتتحان ورشة عمل حول تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية بشرم الشيخ    لأول مرة .. انعقاد مجلس الحديث بمسجد الفتح بالزقازيق    لقاءات على هامش القمة    الصحة العالمية: ثلثا مستشفيات غزة خارج الخدمة بسبب العمليات العسكرية    طلاب جامعة الإسكندرية في أول ماراثون رياضي صيفي    أسعار المكرونة اليوم الأربعاء 22-5-2024 بالمنيا    تعديلات جديدة على قانون الفصل بسبب تعاطي المخدرات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    رئيس مياه القناة: استخراج جذور الأشجار من مواسير قرية الأبطال وتطهير الشبكات    «نقل النواب» تناقش موازنة سكك حديد مصر.. و«الإقتصادية» تفتح ملف «قناة السويس»    حريق داخل وحدة سكنية في بورفؤاد    لمواليد 22 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    اتفاق على عقد منتدى السياحة الأفريقية بشرم الشيخ «سنويًا»    دار الإفتاء توضح أفضل دعاء للحر.. اللَّهُمَّ أَجِرْنِى مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ    خامنئى يصلى على جثمان الرئيس الإيرانى الراحل والوفد المرافق له    خبيرة تغذية تنصح بعدم شرب الماء بعد الوجبات مباشرة    إسبانيا تلحق بالنرويج وأيرلندا وتعترف بالدولة الفلسطينية    فصائل فلسطينية: استهدفنا ناقلة جند إسرائيلية جنوب شرق مدينة رفح    على البساط الوردى «فرانكلين» و«دوجلاس» فى كان!    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    اليوم.. انطلاق الدورة الرباعية المؤهلة إلي الدوري الممتاز    استعدادات مكثفة بموانئ البحر الأحمر.. ورفع درجة الاستعداد بميناء نويبع البحري لبدء موسم الحج البري    جامعة عين شمس تحصد 3 جوائز لأفضل رسائل ماجستير ودكتوراه    5 أسباب رئيسية للإصابة بالربو ونصائح للوقاية    الطالب الحاصل على جائزة «المبدع الصغير» 2024 في الغناء: أهدي نجاحي لوالدتي    حملة لإزالة مزرعة العاشر للإنتاج الحيوانى والداجنى وتربية الخيول والنعام فى الشرقية    طلاب الشهادة الإعدادية في الإسكندرية يؤدون امتحان الهندسة والحاسب الآلي    رابط نتيجة الصف السادس الابتدائي 2024 الترم الثاني جميع المحافظات والخطوات كاملة    تفاصيل الحالة المرورية اليوم.. كثافات في شارعي رمسيس والهرم (فيديو)    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    النقض تنظر طعن "سفاح الإسماعيلية" على حكم إعدامه.. اليوم    51 مباراة دون هزيمة.. ليفركوزن يسعى لمواصلة كتابة التاريخ في موسم استثنائي    المفتي: نكثف وجود «الإفتاء» على مواقع التواصل.. ونصل عن طريقها للشباب    جدول مساحات التكييف بالمتر والحصان.. (مساحة غرفتك هتحتاج تكييف كام حصان؟)    مبلغ صادم.. كم بلغ سعر إطلالة ماجي زوجة محمد صلاح؟    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    «نادٍ صعب».. جوميز يكشف ماذا قال له فيريرا بعد توليه تدريب الزمالك    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    «الثقافة» تعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة لعام 2024    67.7 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال جلسة منتصف الأسبوع    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    اليوم.. قافلة طبية مجانية بإحدى قرى قنا لمدة يومين    «معجب به جدًا».. جوميز يُعلن رغبته في تعاقد الزمالك مع نجم بيراميدز    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    حدث بالفن | فنانة مشهورة تتعرض لحادث سير وتعليق فدوى مواهب على أزمة "الهوت شورت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الأمي" الذي علم المصريين
نشر في المساء يوم 02 - 04 - 2015

غداة تعيين الدكتور محب الرافعي وزيراً للتعليم.. قام بزيارة إحدي المدارس الثانوية.. فاكتشف أن كل فصول السنة الثالثة الثانوية خالية من الطلبة.. واكتشف أيضاً أن معظم إن لم يكن كل فصول الثانوية العامة في المدارس الثانوية لايدخلها الطلاب..لأنهم ينصرفون إلي مراكز الدروس الخصوصية التي انتشرت بصورة ضخمة في كل الأحياء والمدن المصرية.. خصوصا وأن المواعيد تبدأ مع مواعيد المدارس الحكومية ومازال الوزير الجديد يبحث عن وسيلة لإعادة الطلاب إلي فصولهم.
والحقيقة أن التعليم مفقود في مصر علي مدي سنوات طويلة إلي أن أتي محمد علي باشا إلي الحكم فوضع أساساً للتعليم والنهوض به فجعل الدراسة إجبارية لبعض التلاميذ في المدارس الابتدائية وألحق الآخرين من الصغار في المعامل والمصانع لإعداد عمال مهرة.. وبصراحة فإن التعليم في مصر له حكايات متعددة.
ظل الناس يعانون كثيراً من الفوضي والفساد.. والمحسوبية.. والنتيجة أن الحقوق ضاعت وصور الفوضي عمت الأحياء والمدن وحالات الفساد والرشوة والتقاعس عن خدمة الجماهير انتشرت في كل الأنحاء وبات الأمر خطيراً.. حتي قام الشعب بثورة أو انتفاضة 25 يناير 2011 والتنديد بالفساد وعندما استمر الفساد في الانتشار.. قام الشعب بثورة أخري في 30 يونيو ..2013 ووسط كل هذا.. ظل الشعب يتذكر ويتحدث عن محمد علي باشا الذي جاء إلي البلاد فوجدها تعاني من الفوضي والفساد فقرر أن يجعل الشعب ينعم بالانضباط.واكتشف الشعب أن الوالي عندما يقرر أمراً فإنه ينفذه حتي ولو استخدم كل أشكال القسوة.
عقب ثورة 25 يناير 2011 وثورة تصحيح الأوضاع في 30 يونيه 2013 والاتهامات تنهال علي عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك بانهيار التعليم وعدم مسايرته لأي تطور عالمي.. فكانت طرق التدريس بالية والمناهج عقيمة.. والدروس.. الخصوصية انتشرت بشكل واسع وأصبحت تنافس المدارس العامة والخاصة.
والواقع أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لمس هذه الفوضي التعليمية وقال في اجتماع لمجلس الوزراء عام 1968 موجها حديثه إلي الدكتور حلمي مراد وزير التعليم أيامها وان التعليم وصل إلي حالة متردية ومستواه يتدهور عاماً بعد عام.. ورغم أن التعليم أصبح مجانيا في جميع مراحله فإن الناس تدفع مبالغ باهظة في الدروس الخصوصية لأبنائها والامتحانات اصبحت كابوساً لكل طالب واسرته.. ومضي الرئيس عبدالناصر يعدد مظاهر الخلل التعليمي كما جاء في كتاب المهندس سيد مرعي"أوراق سياسية" فذكر انه لاتكاد تمر سنة إلا ويتسرب امتحان أو أكثر.
طالب عبدالناصر بعلاج هذه الأمور بشكل حاسم لأنها تدخل في صميم التغيير.
لكن لسنوات مضت والتعليم علي حاله.. الكل يشكو ويتحسر علي التعليم زمان.. من كافة الوجوه الواقع ان أي حكومة رشيدة عندما تتولي الحكم تضع سياسات التعليم والنهوض أمام أعينها.. فالأمم لاتتقدم إلا بالتعليم.
فعل ذلك محمد علي باشا.. فاهتم بالتعليم اهتماما "بالغا" حتي استقرت أوضاعه في مصر.. ويشهد التاريخ انه علي الرغم من أنه كان يجهل القراءة والكتابة فإنه أول من قام بثورة تعليمية ووجه اهتمامه الي إحياء العلوم والاداب وإنشاء المدارس علي اختلاف مستوياتها من المدارس العليا والمتوسطة والابتدائية.. فأقام نحو 53 مدرسة ابتدائية في معظم محافظات الوجه البحري والقبلي - كذلك اقام عددا من المدارس العالية والخصوصية مثل مدرسة المعادن بمصر القديمة ومدرسة المحاسبة بالسيدة زينب والفنون والصنايع وتسمي مدرسة العمليات ومدرسة الصيدلة بالقلعة والزراعة بنبروه ومدرسة للطب البيطري برشيد والمدرسة التجهيزية "الثانوية" بالاسكندرية.
هذا علاوة علي انشاء المدرسة الحربية الأولي باسوان ومدرستي المشاة وأركان الحرب بالخانكة والفرسان بالجيزة والمدفعية بطرة وأركان الحرب بالخانكة والبحرية بالاسكندرية وغيرها.
التعليم بالقوة
وكان التعليم في كافة المدارس بدرجاتها مجانا كما تنفق الحكومة علي التلاميذ مصروفات المسكن والغذاء والملبس.. والغريب أن الأهالي كانوا نافرين من تعليم أولادهم في المدارس وبلغ نفورهم منها مبلغ نفورهم من الجندية فكانت الحكومة تدخلهم المدارس بالقوة.. ثم تراجعوا عن كرههم للتعليم بعد ان لمسوا ثمرات التعليم.
ويقول عبدالرحمن الرافعي في كتابه "عصر محمد علي" نقلا عن كلوت بك ان عدد التلاميذ بمدارس القطر المصري بلغ في عهد محمد علي نحو 9000 تلميذ وكل مصروفاتهم علي حساب الحكومة.
وبدأ محمد علي باشا مرحلة اخري في تطوير التعليم ابتداء من عام 1826 حيث وجه عنايته الي ارسال بعض المصريين إلي أوروبا في بعثات تعليمية لكي يدرسوا بعض الصناعات وينقلوا الحضارة الغربية الي مصر. وضمت اول بعثة الي فرنسا نحو 44 طالبا اختارهم القائد الفرنسي سليمان باشا الفرنساوي الذي استدعاه محمد علي وقد تم اختيارهم من بين تلاميذ المدارس المصرية.
لمعت بعض اسماء هذه البعثة مثل محمد مظهر باشا الذي استكمل بناء القناطر الخيرية "صاحب الشارع الشهير في حي الزمالك" وحسن باشا الاسكندراني الذي ادار فيما بعد عودته ترسانة الاسكندرية البحرية ثم رأس الاسطول المصري في حرب القرم.
كذلك لمع اسم رفاعة رافع الطهطاوي الذي يعتبر بحق رائد النهضة العلمية الحديثة والأب الروحي لحركة الترجمة.. والذي أسس مدرسة الالسن. وقد كان الطهطاوي إماما للبعثة وليس مجرد طالب فيها وقد تم اختياره لتفوقه في العلوم الفقهية التي درسها في الازهر وانتهز فرصة وجوده في فرنسا فنهل من العلم الكثير ونقل المعارف الأوروبية الي مصر.
وقد بلغ عدد البعثات التي أرسلها محمد علي باشا نحو تسع بعثات معظمها الي فرنسا والقليل منها الي إنجلترا وكان محمد علي يهتم بأعضاء البعثات بعد سفرهم فيرسل لهم الرسائل بين الحين والاخر لتشجيعهم علي العمل والاجتهاد وكان يبدأ رسالته بقوله "ندوة الاماثل الكرام الأفندية المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم.. وتمضي الرسائل بعد ذلك لتنهي اليهم معرفة الوالي بشئونهم ومتابعته شخصيا لاحوالهم.. إلي آخره.
والواقع ان محمد علي باشا أراد ان يشكل طبقة من المتعلمين تعليما عاليا ليستعين بهم في القيام باعمال الحكومة والعمران وفي نشر التعليم بين طبقات الشعب ولم يكن اهتمام محمد علي بالتعليم الا وسيلة تؤدي الي الاقتباس من الحضارة الأوروبية ومما انتجته العلوم والابحاث وهذا سيؤدي الي نهضة في الافكار والعلوم ومن هنا فإن كل من ذهب في بعثة يعود ليتقلد منصبا قياديا.. وصب اهتمامه أولا علي التعليم العالي وإرسال البعثات لأن الأمم في رأيه وكما قال له مستشاروه إنما تنهض أولا بالتعليم العالي.. أما أساس النهضة التعليمية فهي التعليم الابتدائي.. لأن من تلاميذ الابتدائي من يثبت قدرته علي مواصلة التعليم. ومنهم من يصلح لشغل وظيفة حكومية.
وقبل إنشاء المدارس الابتدائية والتجهيزية "الثانوية" كان الازهر كفيلا بإمداد المدارس العليا والبعثات ولم يكن إنشاء المدارس عفويا بل كان يتم بناء علي الحاجة وظهر أول ما ظهر من اهتمام إنشاء مدرسة الهندسة التي لها قصة رواها لنا عبدالرحمن الجبرتي.. في كتابه تاريخ عجائب الاثار.. الجزء الثاني قال "من احداث عام 1231 هجرية الموافقة 1816 ان قام احد ابناء البلد هو حسين شلبي عجوه باختراع آلة لضرب الارز وتبييضه وقدم نموذجا من هذه الالة الي محمد علي بات الذي اعجب بها وأنعم عليه بمكافأة وأمر بتركيب مثلها في دمياط ورشيد.
وقال: إن عجوة هذا مصري أصيل زكي ومثله مثل أولاد مصر فيهم نجابة وقابلية للمعارف.. وأمر ببناء مكتب "مدرسة" في حوش السراي بالقلعة وجعلها مقرا لتعليم أولاد البلد ومماليك الباشا.. أقام هذه الصناعة علي أسس علمية وعين لها عددا من المعلمين الاجانب ليعلموا التلاميذ القواعد الهندسية والرياضية.. واطلقوا عليها مدرسة المهندسخانة.
وظلت هذه المدرسة تمارس نشاطها التعليمي في القلعة وفي سنة 1834 ميلادية أنشأ محمد علي مدرسة أخري للمهندسخانة في بولاق.. بعد ان ضاقت مدرسة القلق ولم تستوعب الأعداد المطلوبة في مجال الهندسة.
مدرسة الطب
وفي سنة 1827 أنشأ محمد علي مدرسة للطب بناء علي اقتراح من كلوت بك تم اتخاذ مقر لها في أبوزعبل لوجود المستشفي العسكري بها.
واختارت الحكومة مائة تلميذ من طلبة الأزهر وعين للتدريس فيها طائفة من الأساتذة الأوروبيين معظمهم من فرنسا.. وقد بذل كلوت بك جهوداً جبارة للنهوض بالمدرسة.. وفي عام 1831 تم نقلها إلي قصر العيني.. ومازالت بها حتي الآن.
وكلوت بك هو فرنسي ولد سنة 1793 في فرنسا.. فكان فقيراً معدماً واضطر أن يعمل حلاقاً في مارسيليا حتي يوفر نفقات دراسته للطب.. وبعد تخرجه مارس الطب في مارسيليا وهناك تعرف علي تاجر فرنسي عهد إليه محمد علي باشا باختيار طبيب للجيش المصري.. واقترح عليه هذا التاجر السفر إلي مصر للعمل في الجيش المصري فوافق وجاء إلي مصر سنة 1822 وتشير الوثائق إلي أنه كان علي أخلاق فاضلة وعزيمة صادقة وقد ذكر الدكتور نير لشوس بك في كتابه "نظرة تاريخية في تنظيم الإدارة الصحية" أن كلوت بك استطاع أن يضع نظاماً رائعاً في تنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري منذ عام .1820
المهم أن كلوت بك هذا الطبيب البارع والرجل الفاضل وضعت السلطات المصرية اسمه علي أسوأ شوارع القاهرة حيث كان مقراً للدعارة التي كان مسموحاً بها حتي الأربعينيات من القرن الماضي.
وفي سنة 1836 أصدر محمد علي أوامره بإنشاء مدرسة متخصصة في الترجمة وأطلق عليها مدرسة الألسن وذلك بناء علي اقتراح من رفاعة رافع الطهطاوي الذي قال للباشا إن البلاد في حاجة إلي طبقة من العلماء الأكفاء في الآداب العربية وفي آداب اللغات الأجنبية وذلك لترجمة أمهات الكتب الأفرنجية وخاصة الفرنسية وليكونوا حلقه الاتصال بين الثقافتين الشرقية والغربية وينهضوا بالإدارة الحكومية في المناصب التي تعهد إليهم.
وبعد هذا الكلام وافق الباشا علي اقتراح رفاعة الطهطاوي واختار لها سراي الألفي بك بالأزبكية. بجوار قصر زينب هانم كريمة محمد علي.. وقد أصبح هذا القصر فيما بعد فندقاً شهيراً هو فندق شبرد وقد احترق في حريق 26 يناير 1952 وأصبح الآن مقراً للبنك المركزي وبعض الهيئات الأخري.. وكان رفاعة يتولي التدريس فيها بنفسه يعاونه طائفة من خيرة المصريين والأجانب.
ويذكر علي مبارك أن رفاعة كان يمكث بين ثلاث وأربع ساعات واقفاً علي قدميه يلقي الدروس في اللغة أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية والأجنبية.
المدرسة التجهيزية
وفي سنة 1257 هجرية أضيف لرفاعة بك علاوة علي منصبه ناظر مدرسة الألسن نظارة أخري.. هي نظارة المدرسة التجهيزية التي كانت في أبي زعبل ثم نقلت إلي الأزبكية وألحقت بمدرسة الألسن وكانت عبارة عن معهد للفقه والشريعة الإسلامية ومدرسة محاسبة ومدرسة إدارة وغيرها وكلها تابعة لنظارة رفاعة الطهطاوي.
ويقال في معرض تناول حياة هذا العالم الفذ ان نسبه يتصل بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء أما لقبه الطهطاوي فهذا راجع إلي أنه ولد ونشأ في مدينة طهطا التي كانت من أعمال مديرية جرجا ثم أصبحت أحد مراكز محافظة سوهاج.. وكان من أسرة ثرية ولكن الدهر أضني عليهم وبذلك كان الفقر طارئاً علي الأسرة التي اضطرت إلي الانتقال إلي قنا.. وهناك حفظ القرآن علي يد أحد الشيوخ.. ولم يكتف بحفظه بل راح يتعلم مبادئ العلوم الفقهية.
وعندما مات أبوه انتقل إلي القاهرة حيث انتظم في سلك طلبة الأزهر سنة 1817 وذلك كما جاء في الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك وكان الشيخ رفاعة دائم الوجود في الأزهر يقرأ ويبحث ويتعلم واعجب به الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر ورعاه وقربه منه وأخذ عنه العلم والأدب والجغرافيا والتاريخ.
وخلال سنوات قليلة أصبح رفاعة من طبقة العلماء وتولي التدريس فيه لمدة عامين فكان يتردد علي بلده طهطا ليلقي بعض الدروس بجامع جده أبوالقاسم وظهرت مقدرته ونبوغه في اسداء العلم والمعرفة والثقافة.
ومضت الحياة بالشيخ رفاعة وانتقل من الأزهر بعد أن ألف ودرس وصنف العديد من المؤلفات ولم يكن قد جاوز 21 عاما من عمره ثم عين واعظا وإماما لإحدي كتائب الجيش المصري النظامي الذي أسسه محمد علي وبذلك أحدثت له الوظيفة الجديدة نقلة نوعية وحياة جديدة لا عهد له بها من قبل وعندما أبلغ الشيخ حسن العطار.. الشيخ حسن رفاعة بأنه تم اختياره ليكون إماما لأول بعثة علمية أرسلها محمد علي إلي فرنسا شرع علي الفور في دراسة اللغة الفرنسية.
ويقول الشيخ رفاعة ان الشيخ العطار اشار عليه قبل سفره إلي فرنسا أن يدون كل مشاهداته في الأقطار التي يزورها وفعلا نفذ الوصية وكتب في هذه الرحلة "تخليص الإبريز" وهو باكورة مؤلفاته.
وفي فرنسا أتقن اللغة الفرنسية في ثلاث سنوات واتجهت ميوله إلي دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة والآداب الفرنسية وقرأ مؤلفات مشاهير الكتاب الفرنسيين ومن بينها كتب في علم المعادن وفن العسكرية والرياضيات ومالت نفسه إلي التأليف والتقريب ولخص رحلته في كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز.
وأثناء إقامة رفاعة في فرنسا درس نظام الحكم هناك وترجم في كتابه "تخليص الإبريز" دستور فرنسا الذي استمر معمولا به من سنة 1814 إلي سنة 1830م وما تضمن من نظام برلماني وحقوق الأمة أفرادا وجماعات ونال تعليقا علي نصوص الدستور الفرنسي ان ملك فرنسا ليس مطلق التصرف وان السياسة الفرنسية هي قانون مقيد بحيث ان الحكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين.
ومضي يشرح مواد الدستور الفرنسي ويعلق عليها وكأنه خبير في الشئون الدستورية والسياسية وضم كتابه "تخليص الإبريز" كل هذه الشروح فمثلا وضح ان الفرنسيين جميعا متساوون "قدام الشريعة" وسائر كل من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون حتي ان الدعوي الشرعية تقام علي الملك وينفذ عليه الحكم كغيره.. وهذا يمثل قمة العدالة.. وهناك مثال آخر علي إطلاق حرية النشر والرأي وكل فرد له الحق في إظهار رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره.
وبالنسبة للصحافة فإنه امتدحها لأن الإنسان يعرف فيها سائر الأخبار المتجددة سواء كانت داخلية أو خارجية.
ومن التفسيرات الرائعة رأيه في موقف الملك شارل العاشر عندما قامت الثورة في باريس قال: فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك وهو خارج أمر بجعل المدينة محاصرة حكما وجعل قائد العسكر أميرا من أعداء الفرنساوية مشهورا عندهم بخيانة مذهب الحرية مع ان هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة فقد دلهم هذا علي ان الملك ليس جليل الرأي فإنه لو كان كذلك لأظهر امارات العفو والسماح فإن عفو الملك أبقي للملك.
هذا الكلام وغيره كتبه رفاعة سنة 1830 ومعظمه ان لم كل ما كتب ينطبق علي الأوضاع الآن وعندها عاد إلي القاهرة سنة 1831 كانت البلاد في حاجة إلي ترجمة العلوم الأوروبية إلي لغة البلاد فتولي منصب الترجمة وتدريس اللغة الفرنسية في مدرسة الطب بأبي زعبل ثم انتقل من مدرسة الطب إلي المدفعية بطرة وعهد إليه الترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية.
قام الطهطاوي بترجمة مجلد في الجغرافيا وضعه ملتبرون أحد مشاهير فرنسا وقدمه إلي محمد علي فأبدي اعجابه وانعم عليه برتبة صاغ "رائد".
ويقول عبدالرحمن الرفاعي ان رفاعة بك وقد حصل علي لقب بك بعد ترقيته لرتبة ميرالاي هو أول من دعا إلي نهضة المرأة وإلي تعليم البنات وتثقيفهن أسوة بالبنين.. ووضع لذلك كتابا سماه المرشد الأمين للبنات والبنين وهو كتاب في الأخلاق والتربية والآداب.. وفي رأيي ان كتاب يصلح للبنين والبنات علي السواء وفيه دعا إلي تعليم البنات واعدادهن عن طريق التربية والتعليم للعمل والقيام بواجبهم في المجتمع.
وفي عهد الخديو إسماعيل.. فكرت الحكومة في إصلاح النظام القضائي.. قام رفاعة الطهطاوي بترجمة القوانين الفرنسية المعروفة بكودتالون نابليون.. كما قام بتعريب القانون المدني الفرنسي ويقع في 2281 مادة طبعت في مجلدين كبيرين.
وهكذا أمضي رفاعة رافع الطهطاوي عمره الذي ناهز 75 عاما.. في رحلة عطاء تعليمي تثقيفي.. ووضع لبنات لنشر الثقافة والآداب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.