«ممنوع يا باشا» «عاوز تصور برة براحتك، جوه ممنوع» «كله كده بيصور من بره» بهذه الردود الرافضة التى واجهتنا منذ بداية التحقيق، عندما حاولنا دخول مقر الحزب الوطنى المنحل لتصوير أعمال هدم المبنى من قبل القوات المكلفة بتأمين مقر الحزب الوطنى المنحل وهو ما ذكرنا بما كان يحدث فى ذلك المقر تحديدا قبل الثورة من حيث صعوبة دخول المبنى فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك عندما كان الحزب الوطنى المنحل فى أزهى عصوره قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، كانت البداية من الجندى المكلف بتأمين بوابة المبنى المقابلة لكورنيش النيل والذى رفض بشدة دخولنا لتصوير أعمال الهدم، وقولنا له إن هناك بعض الصحف نشرت هذه الصور، فرد قائلا: «كله من بره يا باشا» ممنوع الدخول، وبعد حديث طويل،، قال: «روحوا استأذنوا من القائد».توجهنا على الفور لمقابلة القائد، لم يمانع وأمر بدخولنا على الفور وطلب منا عدم تصوير الدبابات والجنود المتواجدين فى المكان. السواد هو لون الحوائط، آثار الحريق تدون حجم الدمار الذى لحق بالمكان، الذى كانت تحكم منه مصر على مدار السنوات الماضية بداية من الاتحاد الاشتراكى إلى الحزب الوطنى المنحل. وأنشئ هذا المبنى فى بداية الخمسينيات على مساحة نحو 40 ألف متر بمعرفة المهندس محمود رياض الذى حاز فى ذلك الوقت لقب أبو الهندسة، وشيد مجمع التحرير بين عامى 51، 52 من القرن الماضى. وكان المكان القائم على كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير والملاصق للمتحف المصرى بالقاهرة عبارة عن مرسى نيلى، وضم المبنى الجديد فى بدايته مقر بلدية القاهرة والجيزة، حيث تم تخصيص دوره الأول لتحصيل فواتير المياه ثم شغلته محافظة القاهرة وقتا قصيرا، حتى نشب خلاف بين على صبرى نائب رئيس الجمهورية فى عهد الرئيس الراحل عبد الناصر، وبين المحافظ صلاح الدسوقى، وتم نقل مقر المحافظة إلى قصر عابدين، قبل أن ينقل إلى موقعه الحالى الذى كانت تشغله مديرية الإسكان. وكان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قرر الإبقاء على الاتحاد القومى فى مقره بالمبنى الإدارى الملحق بقصر عابدين وما أن انحل الاتحاد القومى وجاء خلفا له الاتحاد الاشتراكى حتى تمسك على صبرى بالاستيلاء على مبنى المحافظة «الحزب الوطنى» واستخدامه كمقر للاتحاد الاشتراكى. وبعد رحيل عبد الناصر وتولى الرئيس الراحل أنور السادات مقاليد الحكم، تحول مقر الاتحاد الاشتراكى إلى منابر تمثل جميع الاتجاهات والقوى السياسية فى ذلك الوقت وتمكن الراحل من امتلاكه بأكمله لمصلحة حزبه الوليد آنذاك «الحزب الوطنى الديمقراطى». وفى السنوات الأخيرة، عمل أمين التنظيم فى الحزب أحمد عز على إعادة تطويره بتكلفة مالية تجاوزت 50 مليون جنيه. كان مبنى الحزب الوطنى الديمقراطى القائم على كورنيش النيل بالقرب من ميدان التحرير والملاصق للمتحف المصرى، يضم 24 جهة إدارية تابعة للدولة، وبعد احتراقه إبان ثورة 25 يناير، تحول إلى هدف للكثير من الجهات الحكومية والمدنية، حيث اقترح البعض تحويله إلى برج تجارى عالمى يسمى باسم الثورة، بينما فكر بعض القضاة فى أن يكون مقرا لمجمع محاكم مجلس الدولة، فى حين تقدمت بعض شركات المقاولات الكبرى لإنشاء فندق سياحى كبير، كما دخلت محافظة القاهرة ووزارة الآثار ومجلس الشورى فى صراع للاستحواذ عليه وطالبت «الآثار» رسميًا رئيس الوزراء السابق د.كمال الجنزورى، بضم الأرض إليها. قرار الهدم وانتهى الأمر بقرار مجلس الوزراء برئاسة إبراهيم محلب فى اجتماعه فى 15 إبريل الماضى بهدم المبنى ذى الموقع المميز على أن يتم استخدام الموقع بعد إتمام أعمال الهدم بقرار من مجلس الوزراء ليطيح بأحلام الجميع فى استغلال هذه المساحة الشاسعة من الأرض، وكلف المجلس محافظة القاهرة السير فى إجراءات هدم مبنى الحزب الوطنى المنحل الكائن بكورنيش النيل. من جهتها أعلنت محافظة القاهرة استخراج رخصة هدم مبنى الحزب الوطنى وتسليم الموقع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة جهة التنفيذ لبدء إجراءات الهدم. بدورها بدأت الهيئة الهندسية فى تنفيذ القرار وقامت قوات الجيش المتمركزة فى محيط الساحة الداخلية لمبنى الوطنى المحترق بإخلائها من المدرعات والآليات العسكرية وخرجت للتمركز فى محيط المتحف المصرى من ناحية كورنيش النيل. أحد العاملين بالموقع قال إن الهيئة الهندسية أسندت أعمال الهدم لشركة رجب حافظ للمقاولات، مضيفًا أن الشركة قامت بإحضار اللودار والأوناش والمعدات الخاصة بها لرفع الحفارات إلى أعلى المبنى لبدء تكسير الأسقف الخرسانية بداية من آخر طابق، مبينًا أن هناك ثلاث كسارات فوق سطح المبنى، كما بدأت بنصب السقالات الخشبية بمحيط المبنى الرئيسى والمبانى الملحقة بها لإنشاء الستار الخيشى حتى لا تتطاير الأتربة على المتحف المصرى، مؤكدًا أن عملية الهدم ستستغرق شهرين. فى المقابل أكد مصدر بالهيئة الهندسية «رفض ذكر اسمه» أن هدم مبنى الحزب الوطنى سيستغرق أكثر من شهرين، خاصة مع دخول شهر رمضان الكريم. صراع الوزارات وحول الصراع الذى كان دائرا بين وزارة الآثار ومحافظة القاهرة وجهاز التنسيق الحضارى التابع لوزارة الثقافة بشأن أحقية كل منهما فى الأرض، المقام عليها المبنى فى الوقت الذى يرفض فيه جهاز التنسيق الحضارى قرار الهدم باعتبار المبنى ضمن قائمة المبانى التراثية ذات الطراز المعمارى الخاص والتى يحظر هدمها. قال السفير حسام جاويش المتحدث باسم مجلس الوزراء ل «أكتوبر» إن القرار أصبح بيد مجلس الوزراء، مشيرًا إلى أن المجلس هو من سيحدد مصير تلك الأرض وذلك بعد الانتهاء من عملية الهدم. وفيما يتعلق بأحقية تلك الجهات الثلاث فى الأرض، أوضح جاويش أن هذه الجهات الثلاث هى جهات حكومية ولا يوجد صراع بينها كما تدعى بعض الوسائل الإعلامية، وأن الحكومة ستعيد تخصيص هذه الأرض للجهة التى ترى أنها تحقق المصلحة العامة للدولة، سواء باستخدامها كحديقة أو امتداد للمتحف المصرى أو إقامة فندق سياحى عليها. وأضاف جاويش أن قرار المجلس بإسناد عملية الهدم لمحافظة القاهرة بأن تؤول ملكية الأرض إلى المحافظة وإنما هو تكليف بتنفيذ قرار المجلس بالهدم. من جانبه أكد د. هانى أبو العزم مساعد وزير الآثار أن الأمر برمته أصبح فى يد مجلس الوزراء وهو المسئول عن مصير تلك الأرض. مضيفًا أن المجلس أعلن أنه سيتخذ قراره بشأن تلك الأرض بعد الانتهاء من عملية الهدم. مقترحات الاستفادة بدوره قال محمد عبد العزيز باحث أثرى إن قرار مجلس الوزراء بهدم المبنى أنهى الصراع حول أحقية أى جهة من الجهات الثلاث فى الأرض. مبينا أن المبنى لايعد أثريا وإنما من المبانى ذات الطراز المعمارى المميز، وبالتالى فهو يعد تابعا للجهاز القومى للتنسيق الحضارى التابع لوزارة الثقافة. وأضاف عبد العزيز أن الحكومة ستتخذ القرار الذى ترى فيه مصلحة للبلد ولهذا الموقع المميز بقلب العاصمة. وكان الجهاز القومى للتنسيق الحضارى قد تبنى حملة لوقف هدم المبنى، معتبره من المبانى المعمارية التى تتسم بطراز خاص واستطاعت هذه الحملة أن تعطل الهدم لعدة سنوات إلا أنه صدر قرار مجلس الوزراء فى منتصف شهر إبريل بهدمه. وقالت د. سهير حواس عضو مجلس إدارة الجهاز القومى للتنسيق الحضارى إن هناك توصيات صدرت من عدد من أساتذة الهندسة المعمارية، والتى تؤكد أهمية المبنى وضرورة ترميمه والحفاظ عليه. وفيما يتعلق بمقترحات الاستفادة من الأرض، يرى د. صلاح جودة الخبير الاقتصادى أنه كان من الضرورى قبل صدور قرار بالهدم أن تكون هناك رؤية استراتيجية لاستخدام الأرض، محذرًا من أن يتحول هذا المكان إلى مرتع لأطفال الشوارع والكلاب والقطط. وأكد جودة أن الاستخدام الأمثل لهذا الموقع المميز أن يتم استخدامه فى توسعة المتحف المصرى على أن يتم فيه عرض قطع الآثار الموجودة فى مخازن المتحف والتى تتعرض للإهمال وسوء التخرين. مضيفًا أن هذا الاستخدام سيعود بالنفع على البلد ويدر أموالا كبيرة ويجذب الملايين من السياح الأجانب. وأشار الخبير الاقتصادى إلى أن الحديث عن بناء فندق على هذا الموقع سيتسبب فى خسائر كبيرة للدولة وسيكون هناك توجه لتحويل هذه الأماكن مثل التليفزيون ودار المعارف إلى فنادق. وكان د. محمود الحلوجى مدير المتحف المصرى قد أكد أن هناك تصورا كاملا للاستفادة من الأرض بتحويلها لحديقة متحفية ودور عرض سينمائى وقاعة مؤتمرات، مشيرًا إلى أن تنفيذ ذلك سيكون فور توفر تمويل حيث تعانى الآثار من نقص حاد فى التمويل نتيجة لتراجع حركة السياحة، مؤكدًا أن هناك توجهاً بإدخال شركاء مثل الاتحاد الأوروبى أو وزارة التعاون الألمانية مثلما حدث فى مشروع إعادة إحياء المتحف. دعوى تضامن وبعيدا عن صراع الجهات الحكومية الثلاث حول أحقية الأرض، أقام رئيس حزب مصر العربى الاشتراكى وحيد الأقصرى دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإدارى مطالبًا بوقف قرار رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، بهدم مبنى الحزب الوطنى الموجود فى كورنيش النيل فى القاهرة. مطالبا فى دعواه التى حملت رقم 53646 لسنة 69 ق بتنفيذ الحكم الصادر لصالح حزب مصر العربى الاشتراكى بتسليمه الدورين العاشر والحادى عشر من المبنى، موضحًا أن المرحوم جمال الدين ربيع بصفته رئيس حزب مصر العربى الاشتراكى، أقام دعوى قضائية رقم 29677 لسنة 107 ق، أمام الدائرة 23 مدنى فى محكمة استئناف القاهرة، ضد رئيس مجلس الشورى ورئيس الحزب الوطنى ووزير الداخلية، بصفاتهم لإلزامهم بتسليمه مقرات حزب مصر العربى الاشتراكي، وعددها 242 التى آلت إليه بموجب القرار رقم 116 لسنة 1977 الصادر من أمين عام الاتحاد الاشتراكى العربى ونص القرار على أنه يحل حزب مصر العربى الاشتراكى محل الاتحاد الاشتراكى فى الحقوق والالتزامات المترتبة على ذلك. وأشار إلى أن من بين تلك المقار الدورين العاشر والحادى عشر من مبنى الحزب الوطنى الكائن فى كورنيش النيل وفى جلسة 24 إبريل 1991، قضت المحكمة بحق الحزب فى الدورين، مضيفًا أن قرار رئيس الوزراء بهدم المبنى المتضمن الدورين يصيب الحزب بأضرار يتعذر تداركها.