لعلها المرة الأولى التى يتحدث فيها المرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسى بهذا الوضوح عن قضية المصالحة.. هذه القضية الشائكة المعقدة.. عندما قال فى لقائه مع رؤساء التحرير الأسبوع الماضى: (لا أحد يكره أن تكون هناك مصالحة بين المصريين.. ولكن ما يحدث على الأرض لا يدعم هذا الاتجاه.. وإذا كان المصريون يرفضون هذا التوجه فلا بد من معالجة الأمر أولا مع الشعب الذى يريد اعتذارًا.. ثم نتكلم عن مصالحة يطرحها الحاكم أو الرئيس). وعندما نقرأ هذه العبارات بعمق وموضوعية.. نكتشف أن مبدأ المصالحة ليس مرفوضًا فى حد ذاته.. فلا يمكن أن يستقر الوطن - وهو فى أخطر مراحله كما قال السيسى نفسه – دون أن تتناغم كل أعضائه.. ودعائمه وأركانه.. ولكن المصالحة تتم بشروط.. وفق تصورى المتواضع.. لعل أهمها الاعتراف بالأخطاء التى حدثت خلال الأشهر السابقة.. وهى أخطاء كارثية.. سياسية واجتماعية وأمنية.. من كل الأطراف دون استثناء.. فلا يوجد أحد معصوم من الخطأ أو الزلل.. أما الشرط الثانى للشروع فى أى مصالحة.. فهو عدم انخراط أى من أطرافها فى أعمال العنف والإرهاب والقتل والتدمير وترويع المواطنين.. فهذا أمر مرفوض مرفوض بكل المقاييس والمبادئ والشرائع والقوانين. وأنا أدعو كل تلك القوى السياسية التى أخطأت للاعتذار.. فالاعتذار من شيم الكبار.. ولا يقلل من قدر أحد.. بل يفتح الباب لبدء صفحة جديدة تعود بالفائدة على الوطن. أما الشرط الثانى فهو التعامل البراجماتى مع الواقع السياسى الجديد.. هذا الواقع يقترب من اعتراف إقليمى ودولى واسع.. وكل المؤشرات تؤكد ذلك.. ومنها مشاركة الاتحاد الأوروبى والاتحاد الأفريقى فى الإشراف على الانتخابات الرئاسية.. وإذا كان هناك اتفاق أو توافق محلى إقليمى دولى على استمرار الواقع الجديد الذى نشأ بعد 30 يونيو 2013.. بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف فى التوجهات السياسية والايديولوجية.. السياسة هى فن الممكن والمتاح تحقيقه.. فليس من الحكمة أو الكياسة أو الذكاء السياسى أن أخسر كل شىء إلى الأبد.. أو أكسب كل شىء مرة واحدة! هذا لم يحدث حتى مع بدء الدعوة إلى الإسلام.. فالدين الحنيف انتشر بالتدرج والمرونة والتوافق مع ظروف كل مرحلة.. وهذا ليس تراجعًا أو تخليًا عن المبادئ والقيم.. ولكنها أصول اللعبة السياسية.. لمن أراد الدخول والاستمرار فيها! خلال الحوار الكاشف الذى استمر نحو أربع ساعات او يزيد.. ركز المرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسى على دور الإعلام، مؤكدًا أن الكلمة أمانة ومسئولية خطيرة سوف يحاسبنا الله عليها لما لها من تأثير كبير على مصلحة الوطن. ولعلنا نتوقف هنا على هذه الكلمات وعلى وعى السيسى بأهمية دور الإعلام فى البناء والتنمية والنهوض بمصر. فللأسف الشديد ساهمت كثير من وسائل الإعلام فى إشاعة الفوضى وعدم نقل الحقيقة أو اجتزائها أو توجيه التغطية نحو وجهة معينة مسبقًا.. فى كل قوالبها وأشكالها (بدءًا من الأخبار والمانشيتات والفيديوهات المصنوعة.. وانتهاء بالسم المدسوس داخل مقالات الرأى ورسوم الكارتون.. إلخ). وكما تحدثنا عن شروط المصالحة.. فإن الإعلام يجب أن يعتذر عن أخطائه وأن يشكل «مجلس الأمناء» الذى اقترحه السيسى.. وهذا الإطار يمكن أن يتوافق مع الدستور الجديد.. ويشارك فيه كبار الكُتاب والمفكرين والإعلاميين.. وأن ينتهى إلى ميثاق شرف إعلامى جديد يحدد أسس المعالجة الإعلامية.. ويضع آليات للمراقبة والمحاسبة والعقاب.. فلسنا - كصحفيين – فوق المساءلة.. بل يجب أن نكون قدوة للآخرين.. فلا يعاقب البسطاء والفقراء.. ويُترك الصحفيون وأصحاب الحظوة والجاه، كما أننى أدعو كل وسائل الإعلام إلى الاهتمام ببناء مصر الجديدة والتركيز على مشاكلها وقضاياها الحقيقية.. بدلا من الجرى وراء الإثارة واللهاث خلف الفضائح والخزايا! ولعل السيسى يريد هنا أن يستثمر الإعلام كوسيلة أساسية لحشد الجماهير وتوجيه طاقاتها لخدمة مصر وتحقيق البرنامج الطموح الذى وضعه وفريقه المعاون.. ودعونا نتحدث بصراحة أيضًا لن يتم هذا الحشد الشعبى بنجاح دون قناعة حقيقية ودون بداية جادة يشعر بها المواطن على أرض الواقع.. الذى اكتوى بناء الأسعار.. وذاق الأمرين فى المواصلات وتاه فى المدن والبلاد بحثًا عن فرصة عمل شريفة ولقمة عيش نظيفة! الشعب يريد من مرشحى الرئاسة – حمدين أو السيسى – أن يقتنع بجدية البرنامج أولا.. وأن يكون هذا البرنامج قابلا للتطبيق.. بمشاركة الجميع دون استثناء. وعندما تحدث السيسى عن الديمقراطية.. قال إن مصر بحاجة إلى مزيد من الوقت كى تصل إلى درجة الديمقراطيات العريقة، كما طالب الإعلام بإرساء ثقافة الاختلاف.. وهذه قضية مهمة جدًا.. ولكننا نرى أن مصر بعد 25 يناير لن تعود كما كانت قبلها.. وهذا التاريخ هو نقطة تحول كبرى على طريق الديمقراطية.. فقد زال الخوف من قلوب المصريين.. وقد أكده السيسى فى هذا الحوار المستفيض (عندما يقول لى الشعب ارحل سأنفذ فورًا.. فإننى مُستدعى من المصريين.. والوطن الآن فى خطر ويحتاج من جميع المصريين أن يتحملوا المسئولية معنا). ولعل كلمة «ارحل» هى أكثر الكلمات التى رفعها الشعب المصرى فى وجه كل الحكام.. ولم يعد للخوف مكان فى قلوب المصريين الذين قدموا ارواحهم فداء للوطن.. فى كل الحروب والثورات من أجل الحفاظ على أمن مصر واستقرارها وسط محيط شديد الاضطراب. السيسى أيضًا تحدث عن فريقه المعاون – حال نجاحه فى سباق الرئاسة – وأن يقوم بتشكيل هذا الفريق انطلاقا من مبدأ الكفاءة والخبرة والاحترافية العالية.. وهذه معايير أساسية.. لو التزمنا بها فى كل مؤسسات الدولة.. لأ نصلح حالها وحالنا.. وربما كانت الخلفية والتاريخ العسكرى الطويل لعبد الفتاح السيسى هى السبب الرئيسى لاعتماد تلك المعايير.. فلا مجال للمحسوبية أو الوساطة أو حتى «الهواية».. فاللاعبون المحترفون الذين يحظون بمدرب خبير قادر على قيادتهم لديهم فرصة للنجاح أكثر من غيرهم. ولكننا هنا نقدم نصيحة مخلصة تتمثل فى أن أسلوب الإدارة العسكرية يختلف كثيرا عن أسلوب الإدارة المدنية.. فأغلبية الشعب لم يتعود على الانضباط والالتزام.. خاصة فى السنوات الأخيرة التى انفلت فيها الزمام – ليس بسبب الثورة كما يزعم البعض – ولكن بسبب الفساد والاستبداد والمافيا التى حكمت مصر على مدى سنوات طويلة. وكلمة المافيا وردت أيضًا فى حوار المكاشفة مع السيسى.. عندما قال: «لن تكون هناك مافيا أو احتكارات أو أى شىء من هذا القبيل».. وهذه مشكلة حقيقية يجب القضاء عليها.. وألا تعود إلى الواجهة إذا كنا نريد بناء مصر جديدة وناهضة وقادرة على العودة لمكانتها اللائقة إقليميًا ودوليًا.. فلا مكان لمصاصى دماء المصريين الذين نهبوا ثروات الشعب وحولوها إلى البنوك العالمية.. وتركوا البسطاء يهيمون فى الفقر والمرض والجهل.. وسوف يموتون.. دون ثرواتهم المحرمة! نحن نتطلع للضرب بيد من حديد على هؤلاء الذين عادوا إلى الساحة ويتصورون أنهم سوف يستمرون بذات أساليبهم القديمة.. ونظامهم البائد.. نريد من الرئيس القادم – أيًا كان – أن يقدم النموذج والقدوة للآخرين.. بدءًا من نفسه وأهله.. وكبار المسئولين.. فلا مجال لعودة هؤلاء لأننا لو لم نحل الأزمة فسوف تنهار مصر.. ولو انهارت فلن تعود لا قدر الله.. هذه كلمات السيسى ورؤيته للوضع الخطير الذى نشهده ونعيشه ونكابده.. ولعل «شمولية» الاستراتيجية التى يعرضها المرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسى لمواجهة أزمة مصر الخطيرة.. مطلوبة الآن وبإلحاح.. فلا يمكن البدء بمشكلة دون أخرى.. ولكن يمكن البدء بأهم المشاكل على التوازى وبشكل متوازن.. وبكلمات أخرى نحن نريد تحقيق اختراق سريع وقوى.. يشهده الشعب ويشعر به المواطن البسيط.. أولا. *** خلال الحوار الطويل.. ضرب عبد الفتاح السيسى مثلا بمريض يعانى من مرض عضال.. قائلا: ألا يجب أن نختار له أفضل طبيب؟! وهذا هو حال مصر.. ولعلنا هنا نطالب الطبيب أن يعالج كل أعضاء المريض.. فقد لا تقل الأطراف والهوامش أهمية عن القلب والرأس!