هو همام بن غالب بن صعصعة من دارم من مجاشع من قبيلة تميم والتى كان لها شأن كبير فى الجاهلية والإسلام، كنى أبا فراس.. إحدى صفات الأسد، ولقب بالفرزدق لجهومة وجهه وأثر من الجدرى منطبع فيه، ومن أطرف ما قيل حول لقبه أنه قدم نفسه لأحد الشيوخ الذى حاول تجاهله: أنا الفرزدق، فسأله: ومن الفرزدق؟.. فرد أو ما تعرفه؟.. فأجاب الشيخ: إنه شىء تتخذه النساء عندنا بالمدينة تتسمن به، وهو الفتوت، فضحك الفرزدق طويلا ثم قال: الحمد لله الذى جعلنى فى بطون نسائكم! وقد كان الفرزدق شديد الفخر بأبيه وجده وقومه، وقيل إنه أباه ذبح مائة ناقة مرة واحدة ليطعم منها القوم فى عام الجدب، كما اشتهر جده صعصعة بأنه ممن فدى الموءودات فى الجاهلية ونهى عن قتلهن، وقيل إنه فدى أربعمائة منهن، وافتخر الفرزدق بتلك الحادثتين ورددهما كثيرا فى شعره.. ومما قاله: أبى أحد الغيثين صعصعة الذى متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر أجار بنات الوائدين ومن يجر على القبر يعلم أنه غير مخفر وتزوج الفرزدق الكثير من النساء، أولهما النوار ابنة عمه والتى تزوجها بخدعة، حيث وكّلته فى عقد زواجها من أحد شباب العشيرة، إلا أنه استعمل التوكيل لنفسه وتزوج بها بغير رضاها، ثم صالحها وعاشت معه وأنجبت منه عدة أبناء سماهم بأسماء غريبة مثل: حبطة، ولبطة، وسبطة، كما كان له ابنة واحدة «مليكة» من جارية سوداء. ويروى أن الفرزدق نطق الشعر مبكرا، وقد اصطحبه أبوه إلى أمير المؤمنين على ابن أبى طالب بعد موقعة «صفين» الذى نصحه بتعلم القرآن وحفظه، وقد كان الفرزدق يرعى غنم لوالدته، فتغافل عنها فهجم الذئب عليها والتهم منها كبشا، فقال شعرا يبرر فيه ما حدث بسبب جوع الذئب وإهماله هو، ثم يعتذر لوالدته عما حدث، ويقول فى نهاية الأبيات إن همته أعظم من الرعى.. فهو يطمح إلى غطائم الأمور تلوم على أن صبح الذئب ضأنها فألوى بكبش وهو فى المرعى راتع وقد مر حول بعد حول وأشهر عليه ببؤس وهو ظمأن جائع أغار على خوف وصادف غرة فلاقى التى كانت عليها المطامع وذلك إلى آخر القصيدة، الذى عاد مرة أخرى ليحكى عن صداقته للذئب الذى دعاه إلى وليمة، على الرغم من حذره منه، وهى قصيدة جميلة قلده فيها بعد ذلك كل من البحترى والشريف الرضى، حيث يبدأ بوصف الذئب بالأغبر المختال الذى جاء على النار التى أوقدتها، فأخذ يطعمه متحفظا بسيفه فى يده حذرا منه: وأطلس عسال وما كان صاحبا دعوت لنارى موهنا فأتانى فلما أتى قلت ادن دونك إننى وإياك فى زادى لمشتركان وبت أخد الزاد بينى وبينه على ضوء نار مرة ودخان وقلت له لما تكشر ضاحكا وقائم سيفى فى يدى بمكان تعش فإن عاهدتنى لا تخوننى نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وقد ترك الفرزق ديوانا ضخما للشعر، لا يتسع المجال هنا إلا لذكر بعض منه، فقد وصف بأنه «كان صحيفة العرب» وقيل إنه «لولا الفرزدق لضاع الكثير من الأخبار وثلث اللغة».. فقد سجل بشعره القضاء على الخوارج، وأيضا محاولات عبد الله بن الزبير استلاب الخلافة بعد الحسين بن على لنفسه، ومحاولات الحجاج وأد الفتنة فى العراق. كذلك تصديه لهشام بن عبدالملك عندما حاول تجاهل زين العابدين بن الحسين فى موسم الحج، حيث خاطبه مرتجلا: هذا الذى تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده، أنبياء الله قد ختموا وليس قولك: من هذا؟.. بضائره العرب تعرف من انكرت والعجم ما قال: لا ، قط، إلا فى تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم ومع ذلك فقد مدح هشام بن عبد الملك واعتذر له عن ذنب لم يرتكبه، تماما كما أعتذر النابغة للنعمان ملك الحيرة فى الجاهلية: خليفة أهل الأرض أصبح ضوؤه به كان يهدى للهدى كل مهتد فلست أخاف الناس مادمت سالما ولو أجلب الساعى إلى بحسدى ولا ظلم ما دام الخليفة قائما هشام وما عن أهله من مشرد فلا دفعت إن كنت الذى رووا على ردائى حين ألبسه يدى وقد تميز الفرزدق بالمدح والهجاء، وكان أكثر هجائه فى رقيق دربه جرير وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، فقد استمرت المعركة بينهما أربعين عاما، ولكننا نكتفى هنا بمعايرته لجرير بذكر مناقب قومه وعزتهم.. ويسأله أين أنت من ذلك؟ إن الذى سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول بيتا بناه لنا المليك وما بنى حكم السماء، فإنه لا ينقل أحلامنا تزن الجبال رزانة وتخالنا جنا إذا ما نجهل فادفع بكفك - إن أردت بناءنا - شهلان ذا الهضبان هل يتحلحل؟ كما عرف عن الفرزدق حبه للخمر وعشقه للنساء ومطارتهن، وله قصيدة طويلة يروى فيها كيف صعد لإحداهن على الجبال، وهى تذكرنا بلهو كان من أمرؤ القيس وعمرو بن أبى ربيعة، إلا أنه فى آخر أيامه أخذ يندم على ما اقترفه من ذنوب، وقال قصيدة هاجم فيها إبليس: أطعتك يا إبليس سبعين حجة فلما انتهى شيبى وتم تمامى فررت إلى ربى وأيقنت أننى ملاق لأيام المنون حمامى كما روى أنه مرض مرضا شديدا، ووصف له الكى والنقط شرابا، فسقوه فقال: اتعجلون علىّ شراب أهل النار فى الدنيا، ثم أوصى بعتق عبيده بعد موته، ثم قال مخاطبا من حوله: أرونى من يقوم لكم مقامى إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب إلى من تفزعون إذا حثوتم بأيديكم علىّ من التراب؟ فقال أحد عبيده معزيا: نفزع بعدك إلى الله.. فأبطل الفرزدق وصيته فيه وأمر ببيعه قبل وفاته استمرارا فى العبودية!