منذ اندلاع ثورات الربيع العربى قبل ثلاث سنوات لم يعد مستغربا خروج المظاهرات فى أى مكان فى العالم، إذ كان الربيع العربى بمثابة الشرارة التى أشعلت الحماسة فى نفوس الشعوب فى كل دول العالم على اختلاف أنظمتها للنهوض والتعبير عما يغضبهم من حكوماتهم .. ومع استمرار المظاهرات فى تايلاند وأوكرانيا منذ نحو ثلاثة شهور، ظهرت البوسنة كبقعة جديدة للاحتجاجات اعتراضا على البطالة والفقر والفساد الحكومى والخصخصة فى مشهد من العنف لم يحدث منذ نهاية الحرب البوسنية 1992- 1995 مع التحذير من تفاقم الأزمة. وبدأت الاضطرابات فى البوسنة فى 5 فبراير الحالى فى مدينة توزلا الصناعية شمال شرق البلاد عندما توحد عمال بعض المصانع التى أعلن أصحابها عن خصخصتها ثم إفلاسها، وانضم إلى العمال مجموعة من الطلبة والناشطين السياسيين وسرعان ما امتدت المظاهرات إلى العاصمة سراييفو ومدن أخرى وتحولت إلى أعمال شغب خلفت مئات الجرحى وأدت إلى احتراق مبان حكومية عدة من بينها مقر الرئاسة. ولتهدئة المتظاهرين المطالبين باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، دعا الحزب الاشتراكى الديمقراطى، أحد أبرز أحزاب الائتلاف الحاكم فى البلاد، مع العضو المسلم فى المجلس الرئاسى الثلاثى للبوسنة بكر عزت بيجوفيتش إلى تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة. وبالرغم من أن المراقبين لم يتمكنوا من تحديد سبب واحد للاحتجاجات، حيث ردد المحتجون هتافات مناهضة للحكومة وشعارات تندد بتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء وانتشار البطالة، إلا أنهم أجمعوا على أنها تظهر سخط المواطنين من الطبقة السياسية الغارقة فى الخلافات العرقية السياسية والعاجزة عن النهوض بالاقتصاد المنهار فى هذا البلد الواقع بمنطقة البلقان حيث تصل نسبة البطالة إلى 44% من أصل اليد العاملة الفعلية، بحسب وكالة الإحصاء، وهى الأعلى فى أوروبا. ويشير المراقبون إلى أن اتفاق دايتون للسلام (فى الولاياتالمتحدة عام 1995) الذى وضع حدا للحرب التى أوقعت نحو 100 ألف قتيل أرسى فى البوسنة بنية مؤسساتية بالغة التعقيد حيث يتقاسم السلطة كل من الصرب والكروات والمسلمين فيما يجب اتخاذ القرارات بموافقة المجموعات الثلاث ، مما أدى إلى فشل القادة السياسيين فى معالجة أسباب الفقر والبطالة المتزايدة بسبب النزاعات العرقية بينهم. ويعتبر شعب البوسنة البالغ عدده 3,8 ملايين نسمة بين الأفقر فى أوروبا. ووفقا لوكالة فرانس برس، فإن عمليات الخصخصة المتسرعة دفعت بأقطاب الأعمال إلى إغلاق عشرات الشركات وتحقيق أرباح بشكل أكثر سرعة عبر بيع أصولها قبل إعلان الإفلاس مما ترك مئات الأشخاص بدون عمل. ونقلت الوكالة عن عالم الاجتماع ميودراج زيفانونفيتش قوله لوكالة أنباء محلية إن الاستياء الشعبى ليس مفاجئا وإن هذه تظاهرات لأشخاص جائعين ويعبرون عن غضب متراكم منذ سنوات ضد كل صناع القرار الذين أوصلوهم إلى هذه الحالة. ويتفق معه فى الرأى سريكو لاتال، المحلل السياسى بمنظمة «سوشيال أوفرفيو سيرفيس» للأبحاث ومقرها سراييفو، حيث قال لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية إنه يرى أن التظاهرات لا تقف خلفها أى قوة سياسية وسببها الوحيد هو أن المواطنين سئموا من الفوضى السياسية فى ظل الاقتتال على السلطة، والوضع الاقتصادى المتردى، والشعور بأن هناك أمل ضئيل فى المستقبل، لافتا إلى أن الاستياء من حالة الشلل السياسى تجاوز الانقسامات العرقية ووحد المجموعات العرقية المختلفة حول قضية مشتركة. وقد اتفقت معظم الصحف العالمية على أن المظاهرات لا يقف وراءها أية قوة سياسية وأنها ناتجة عن الانفجار الشعبى من الأوضاع المتردية هناك، إلا أن صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أشارت فى افتتاحية فى هذا الصدد إلى أن البوسنة والهرسك تعتبر مثالا لحقيقة أن عملية «بناء الدولة» برعاية غربية دائما ما تنتهى بالفشل. وفى حديث مع وكالة «دوتشيه فيله» الألمانية، قال الممثل الأعلى السابق للمجتمع الدولى فى البوسنة، الألمانى كريستيان شوارز شيلينج إنه كان يتوقع حدوث الانفجار الشعبى منذ فترة طويلة وأن المجتمع الدولى تجاهل ذلك،مما ينذر بعواقب قد تكون كارثية لأن المظاهرات الحالية حتى لو توقفت فإن المشكلات التى أدت إليها لن تنتهى، محذرا من إمكانية ظهور حركة منظمة فى المستقبل تتخذ من العنف سبيلا لها لأنه يوجد فى البوسنة قوة نيران كافية لذلك.