قضى حجّاجُ بيت الله الحرام عبادةً من أعظم العبادات، وقربةً من أعظم القربات، وعاش المسلمون أجواء الطاعة في العشر الأول الفاضلات، وضجتْ بالتضرع إلى الله كلُّ الأصواتِ بجميع اللغات، وهملتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، وهفت كل القلوب إلى البلد الحرام وزيارة قبر خير الأنام وراح الحجّاج يتقلّبون بين المناسك من طواف وسعي ومبيت بمنى ووقوف عرفة وإفاضة من عرفة وجمع جمرات ورمي جمرات في ثلاثة أيام ومن تعجل في يومين، ونحر هدي؛ حتّى أدّوا مناسكَهم، وأتمّوا حجّهم في رحلةٍ هي من أروع الرَحلات، ثمّ عادوا بعدها إلى ديارهم فرحين مسرورين بما نالهم في رحلتهم من الفضلِ والخيراتِ والرّحماتِ وذلك{بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} ولكن ماذا بعد الحج؟! وكيف حال العبد بعد فريضة الحجّ؟! فكثير من الحجاج والمسلمون يظنون أن مواسم الطاعات فرصة للتخفُّف من الذنوب والسيئات، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع بعدها في المخالفات، وتنتهي فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء تلك المواسم والأيام الفاضلات، ولكن يجب على المسلم أن يجعل مواسم الخير نقطّة تحوّل وتغيير لواقعه وحياته؛ من حياة الغفلة والإعراض عن الله، إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله. ويجب الحذر من الشيطان وخداع النفوس الأمّارة بالسوء حتى لا ينتكس الحاج على عقبيه، ويعود إلى سالف ذنوبه ومعاصيه، وربنا سبحانه ينادينا بنداء الإيمان أن نستقيم على شرعه، ونستجيب له ولرسوله، ونتقيه حق تقاته، ونعبده حق عبادته في حياتنا إلى مماتنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وهذا يقتضي منا أن نقف مع أنفسنا بعد رحيل ذاك الموسم العظيم والأيام الفاضلات، لنتذكر فيها عظيم نعمة الله علينا، مع كثرة ذنوبنا وعظيم خطايانا وزللنا؛ يكرمنا الرحيم الرحمن بالوقوف بين يديه، وأن نستغفره ونستهديه؛ يكرمنا بأن ييسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا؛ فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم . فلا يكون إلا بالشكر لله، والإنابة إلى الخالق؛ وليس الشكر ب اللساني كما يظنّ بعض الناس، بل هو عامٌّ يشمل القلب فيظل متعلقًا بالخالق، مستشعرًا نعمه، وعمليًّا بحيث يبعد عن كل ما يغضب الله، قريبًا من كل ما يحبه ويرضاه . ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان –كما في الصّحيحين-؛ فيقال له: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه معلمًا الأمّةَ حقيقةَ الشكرِ:- {أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا}. إن للحج المبرور أمارة، ولقبوله منارة؛ فقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: ما الحج المبرور؟ فقال: (أن تعود زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة). فينبغي أن يكون حجُّنا باعثًا لنا إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، وحاجزًا لنا عن مواقع الهلكات، ومانعًا لنا من الوقوع في الآفات والمخالفات. وإذا كان الحاج منذ أن يُلبي وحتى ينقضي حجه وينتهي: كلُّ أعمالِ حجِّه ومناسكه تعرِّفه بالله، وتذكِّره بحقوقه جلّ في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، ولا تُسلَم النفس إلا إليه سبحانه؛ فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والذبح والنذر إلى غيره؟! وأيُّ حج لمن عاد بعد حجه يفعل شيئًا من ذلك الشرك الصريح والعمل القبيح؟! وأيُّ أثر للحج فيمن عاد بعد حجِّه مضيعًا للصلاة، مانعًا للزكاة، آكلاً للرِّبا، آخذا للرُّشا، قاطعًا للأرحام، والغًا في الموبقات والآثام؟! إنّ من لبى في الحج للرّحمن عليه أن يّلبّي له بالطّاعة في كل مكان وزمان؛ فإنّ معنى التّلبية: إجابة لك بعد إجابة، وطاعة لك بعد طاعة، ومن امتنع عن محظورات الإحرام أثناء حجّ بيت الله الحرام، فليعلم بأنّ هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والعام؛ فليحذر إتيانها وقربانها؛ يقول جلّ وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ويجب التزام التقوى والاستقامة بعد الحج؛ فإنّ الله تعالى ذكّر بالتّقوى في سياق آيات الحجّ عند الكلام على الهدي الذي يتقرّب به الحاجّ لربّه؛ مشيراً بذلك إلى أنّ حصول التّقوى من أعظم مقاصد الحج وفوائده؛ حيث قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}،فهذه التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ في حجّه هي التي ينبغي أن يسير عليها في حياتِه متعامِلاً بمقتَضاها مع نواهي الله وأوامِرِه، وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَةٌ وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَ العبد في كل حال، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ صلى اللهعليه وسلم فيما رواه الترمذي: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ). فلنحذر كلّ الحذر من العودة إلى الأفعال القبيحة، والخلال المشينة، وعلينا بلزوم الأعمال الطيّبة، والخلال الكريمة؛ فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح الحسنة تتبعها السيّئة؛ {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}، وأما الاستقامة فإنّها مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى؛ كما أوصَى بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم سفيانَ بن عبد الله رضي الله عنه حين قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ).ولما كان العبد مَع الاستقامة معرَّضاً للخَطَأ والتّقصير: قال الله عزّ وجلّ: ?فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} وإلى ذلك أشار النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا)؛ أي لن تستوعبوا جميع العبادات، ولن تقدروا على كلّ الطاعات؛ ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا). أنّ المؤمن ينبغي أن يحمل دائماً في قلبه همّ القبول لعمله، ويتذكّر في كلّ حين، قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. وهذا ليس في الحجّ وحده، بل في الحجّ وغيره؛ فكم في الناس من يؤدي العمل والعبادة، ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأنّ عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا تبارك وتعالى حال عباده الصالحين فيقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}،وهذا مكان يفعله سلفنا الصالح؛ فهذا محمّد بن واسع –رحمه الله- يقوم ليلَه يبكي حتى إنّ جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلّمه جارُه فقال له: ارفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك! فقال: (والله إني عندما صففت قدميّ بين يدي الله البارحة تصورت أن الجبار جلّ جلاله يناديني فيقول: يا محمد، اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك).فهمّ القبول لكلّ عمل صغيرًا كان أو كبيرًا جعلهم يالزمون الاستغفار؛ فإنّه بالاستغفارِ تُختَم الأعمال الكبارولذلك على الحجّاج أن يعوا قوله تعالى: ?ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.