أصدرت بعض محاكم الجنايات خلال الأسبوع الماضى قرارات بالإفراج عن بعض المتهمين فى جنايات جسيمة، وذلك بسبب تجاوز مدة حبسهم لمدة السنتين المنصوص عليها فى المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية، فقد صدر القانون رقم 145 لسنة 2006 بشأن تعديل قانون الإجراءات الجنائية فى الحبس الاحتياطى وغيره، وقد اختلفت المحاكم بشأن: هل من سلطة محكمة الجنايات تجاوز مدة السنتين المقررة كحد أقصى للحبس الاحتياطى للمتهم من عدمه.؟ ولتوضيح هذه المشكلة محل الاختلاف فقد تناولت الفقرة الأخيرة من المادة 143 من القانون رقم 150/1950 بإصدار قانون الإجراءات الجنائية المعدل بالقوانين153/2007، 145/2006 ، 174/2007 الحدود القصوى لمدد الحبس الاحتياطى حيث نصت على أنه «وفى جميع الأحوال لا يجوز أن تجاوز مدة الحبس الإحتياطى فى مرحلة التحقيق الإبتدائى وسائر مراحل الدعوى الجنائية ثلث الحد الأقصى للعقوبة السالبة للحرية، بحيث لا يتجاوز ستة أشهر فى الجنح وثمانية عشر شهرًا فى الجنايات، وسنتين إذا كانت العقوبة المقر ومع ذلك فلمحكمة النقض ولمحكمة الإحالة، إذا كان الحكم صادرًا بالإعدام، أن تأمر بحبس المتهم احتياطيًا لمدة خمسة وأربعين يومًا قابلة للتجديد دون التقيد بالمدد المنصوص عليها فى الفقرة السابقة». وقد أكدت ذلك الكتب الدورية الصادرة من السيد المستشار النائب العام ومنها الكتابان الدوريان رقمى (10) لسنة 2006 و (27) لسنة 2007 بشأن ضمانات الحبس الاحتياطي. ومفاد ما سبق وقد فسرت بعض محاكم الجنايات أنه طبقًا للقواعد العامة فى الحبس الاحتياطى فإن حق محكمة الجنايات فى حبس المتهم احتياطيًا مقيد بمدة السنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة هى السجن المؤبد أو الإعدام؟ ونحن نرى أن هذا التفسير قد جانبه الصواب لأن المادة 380 من قانون الإجراءات الجنائية قد منحت لمحكمة الجنايات - كمحكمة ذات اختصاصات وصلاحيات خاصة - أنه «فى جميع الأحوال أن تأمر بالقبض على المتهم وإحضاره، ولها أن تأمر بحبسه احتياطيًا (دون تحديد حد أقصى) وأن تفرج - بكفالة أو بغير كفالة - عن المتهم المحبوس احتياطيًا». ونحن نرى أنه يتبين من مطالعة المادة 380 إجراءات سالفة الذكر، أنها قد حددت الصلاحيات الخاصة بمحكمة الجنايات ولم تحدد حدًا أقصى لمدة الحبس الاحتياطى التى تملكها محكمة الجنايات بالنسبة للمتهمين المحالين إليها فقد تتجاوز مدة السنتين المنصوص عليها فى المادة 143 إجراءات جنائية سالفة الذكر أعلاه. ونحن نرى أنه يُستخلص مما تقدم أن المشرع قد اختص محكمة الجنايات باختصاصات تعتبر استثناء وتخصيصًا للقواعد العامة المقررة فى المادة 143 إجراءات جنائية بشأن الحد الأقصى لمدة الحبس الاحتياطى مما يجيز لمحكمة الجنايات طبقًا للمادة 380 إجراءات جنائية أن تأمر بحبس المتهم احتياطيًا لمدة تتجاوز السنتين المنصوص عليهما فى المادة 143، ونحن نستند فى رؤيتنا إلى الأسانيد القانونية والمنطقية التالية: أولاً: إن المشرع فى نص المادة 380 من قانون الإجراءات الجنائية إذا كان يقصد تقييد سلطات محكمة الجنايات بالحد الأقصى المنصوص عليه فى المادة 143 لكان قد أورد عبارة «ويسرى ذلك على سلطات محكمة الجنايات المنصوص عليها فى المادة 380 إجراءات جنائية» أو كان قد ألغى الفقرة الموجودة فى نص المادة 380 إجراءات جنائية والتى تنص على أنه «ولها أن تأمر بحبسه احتياطيًا»، وقد كان بإمكان المشرع فعل ذلك، ولكنه لم يفِعل مما يُستدل منه على استمرار سلطة المحكمة فى الأمر بالحبس الاحتياطى دون حد أقصى. ثانيًا: إن النصوص الواردة فى الباب الثالث من قانون الاجراءات الجنائية بشأن محاكم الجنايات هى استثناء خاص يقيد الأصل العام المقرر بشأن أقصى مدة للحبس الاحتياطى وهى مدة السنتين. ثالثًا: إن تأخير الفصل فى الدعوى الجنائية أمام محكمة الجنايات يرجع - فى الغالب الأعم - إلى طلبات الدفاع عن المتهم مثل: طلب سماع أقوال ضابط الواقعة او اعضاء اللجان الفنية او سماع الشهود وهو امر يحقق دفاع المتهم ويُظهر الحقيقة، ويطلبه محامى المتهم لمصلحة المتهم نفسه، ولمحكمة الجنايات أن تجيبه حتى ولو نتج عن ذلك تجاوز مدة السنتين المقررة كحد اقصى للحبس الاحتياطى طبقًا للقواعد العامة طالما أن فى ذلك مصلحة المتهم لتحقيق دفاعه طبقًا لواقع الدعوى. ولا يجوز للمتهم أن يتمسك ببطلان أمر معين يكون هو المتسبب فيه. رابعًا: لا يجوز لدفاع المتهم ان يتمسك – فى هذه الحالة - ببطلان الحبس الاحتياطى لتجاوزه مدة السنتين المشار اليها فى المادة 143 اجراءات وهى مواد واردة فى القواعد العامة للحبس الاحتياطى لأن هذه القواعد العامة تخصصها القواعد الخاصة بمحكمة الجنايات كمحكمة اول وأخر درجة عادية بالنسبة للمتهم، وبالتالى فهى تتمتع بسلطات قانونية واسعة بشأن مصير المتهم وحبسه من عدمه، وهى سلطات تزيد على سلطات محكمة الجنح ومحكمة الجنح المستأنفة التى تنفرد بدورها بقواعد أخرى خاصة بها منصوص عليها فى قانون الإجراءات الجنائية. خامسًا: إن الغاية من التعديلات الأخيرة لقانون الإجراءات الجنائية بالقانون 145/2006 بشأن الحبس الاحتياطى أنها تستهدف تعزيز حقوق الانسان وحريته وكرامته وهذا هو نفس الهدف الذى تسعى إليه محكمة الجنايات عندما يتجاوز الحبس الاحتياطى مدة السنتين، فالغاية من الاجراء طبقًا للمادة 20 من قانون المرافعات - المكمل لقانون الإجراءات الجنائية - تكون قد تحققت حتى ولو تجاوز الحبس الاحتياطى مدة السنتين، ولا يجوز الدفع ببطلان الحبس الاحتياطى لتجاوزه مدة السنتين طالما أن الغاية من الاجراء هى غاية مشروعة، وقد تحققت بتحقيق محكمة الجنايات لدفاع المتهم وبناءً على طلبه ولا يجوز له الدفع بتجاوز مدة الحبس لعدم منطقية الدفع لأن تجاوز مدة السنتين كان بناء على طلبه وتحقيقًا لدفاعه ومصلحته، فلا يجوز له أن يستند لهذا التجاوز كسبب للبطلان لأنه هو المتسبب فى تجاوز فترة الحبس لمدة السنتين. سادسًا: أن حق الحبس الاحتياطى هو حق مقرر لمحكمة الجنايات بحكم القانون والمنطق وذلك لأن المحكمة تملك أن تحكم عليه بالسجن المؤبد - بل تملك الحكم عليه بالإعدام - ، فمن باب أولى فإنها تملك فى مرحلة المحاكمة أن تحبسه احتياطيًا للمدة التى تراها – هى - محققه لدفاعه ولإظهار الحقيقة، وقد تنتهى مدة الحبس بتبرئته. سابعًا: يؤكد ما تقدم أن تجاوز الحد الاقصى لمدة الحبس المنصوص عليها بالفقرة الاخيرة من المادة 143 – وهى حالة مختلفة - تتعلق بمرحلة لاحقه على إجراءات المحاكمة – لأنها تفترض أن الحكم قد صدر ضد المتهم – والحبس هنا قد يكون لمصلحة المتهم خوفًا من قتله فى قضايا الثأر والقتل العمد مع سبق الإصرار، فلن يضير المتهم امتداد الحبس الاحتياطى والذى هو مهما طالت مدته فهو أفضل للمتهم من إزهاق روحه بتنفيذ حكم الإعدام. وقد رأى المشرع تنظيم هذه الحالة بحكم خاص، ولا يخل ذلك بالتنظيم الخاص الآخر المقرر لمحكمة الجنايات وصلاحياتها الخاصة فى الحبس الاحتياطى وامتداده طبقًا للمادة 380 إجراءات جنائية، بل أن هذا الحكم الخاص الأخير يؤيد ويؤكد الأحكام الخاصة المستقلة المتعلقة بحق محكمة الجنايات فى الحبس الاحتياطي. ثامنًا: إن موضوع تفسير نصوص الحبس الاحتياطى لمحكمة الجنايات - وغيرها من النصوص - يدخل فى مجال الاجتهاد والسلطة التقديرية القضائية المقررة للقاضى بمقتضى الدستور وقانون السلطة القضائية، وهو حق لمحكمة الموضوع فى تفسير النصوص وترجع المحكمة فى التفسير إلى قواعد التفسير والمنطق وضمير القاضى وذلك دون مُعقْب عليها فى ذلك من محكمة النقض طالما كان استدلال المحكمة - على تجاوز مدة السنتين للحبس الاحتياطى – استدلالاً سائغًا من ظروف الدعوى وملابساتها. تاسعًا: اتفق الفقه والقضاء المقارن أن تفسير القاضى للنصوص بناءً على قواعد التفسير المنطقية الصحيحة – فى القانون المصرى أو المقارن – لا يُشكًل فى حقه أى خطأ إجرائى أو تأديبى أو جنائى أو مدنى كما أوضحنا ذلك تفصيلاً فى رسالتنا للدكتوراه عن «المسئولية التأديبية والجنائية والمدنية للقضاة وأعضاء النيابة العامة» وهى دراسة تفصيلية فى القانون المصرى والمقارن تناولت الجوانب العلمية الصحيحة فى هذا الموضوع. عاشرًا: ونحن نرى أن الدفع ببطلان الحبس لتجاوز فترته لمدة السنتين هو دفع قانونى يخالطه واقع الدعوى، ولا رقابة لمحكمة النقض على محكمة الموضوع فى تقديرها الواقعى لذلك طبقًا لظروف كل دعوى على حده. حادى عشر: ونحن نرى أنه يجب على محكمة الجنايات أن تستعمل جميع سلطاتها القضائية المقررة بمقتضى المادة 375 إجراءات جنائية، وأن يُحال للمحكمة التأديبية – فضلاً عن العقوبات الجنائية - من يثبت – ضده من المحامين - تحايله على القانون لتعطيل الفصل فى الدعوى لكى يتوصل إلى تجاوز مدة السنتين المقررة كحد أقصى للحبس الاحتياطي، علمًا بأن تلك المادة تنص على أنه: «فيما عدا حالة العذر، أو المانع الذى يثبت صحته يجب على المحامى سواء أكان منتدبًا من قبل قاضى التحقيق أو النيابة العامة، أو رئيس محكمة الجنايات أو مستشار الفرد، أم كان موكلاً من قبل المتهم أن يدافع عن المتهم فى الجلسة أو يعين من يقوم مقامه، و إلا حُكم عليه من محكمة الجنايات بغرامة لا تتجاوز خمسين جنيهًا مع عدم الإخلال بالمحاكمة التأديبية إذا اقتضتها الحال. وللمحكمة إعفاؤه من الغرامة إذا أثبت لها أنه كان من المستحيل عليه أن يحضر فى الجلسة بنفسه أو أن ينيب عنه غيره».