سبق أن تناولنا فى مقال سابق مفهوم العدالة الانتقالية وأهميتها وتطبيقاتها الدولية وكيفية الضبط القضائى للجناة فى العدالة الانتقالية وسوف نتناول فى هذا المقال التطبيقات الدولية المعاصرة للعدالة الانتقالية من حيث كيفية تطبيقها فى دول متعددة، وقد كان باعث هذه الدول إلى تطبيق العدالة الانتقالية بعد ثوراتها هو تأسيس مصالحة شاملة للأوضاع قبل الثورة وبعدها، وقد سعت هذه الدول إلى توفير المناخ المناسب للمصالحة وإعادة الثقة بين الأطراف ومنع التصريحات العدائية، فقد كانت مصالحة وليست مصارعة، وقد كان الجميع فى تلك الدول – شركاء وليسوا فرقاء - وسوف نسعى فى مقال ثالث - إن شاء الله تعالى – إلى اقتراح بتطبيق العدالة الانتقالية فى مصر الثورة فى سنة 2013، وهل مصر بعد الثورة طبقت العدالة الانتقالية أم لا وأى من مناهج هذه العدالة الانتقالية يمكن تطبيقها فى مصر وموقف الشريعة الإسلامية الغراء من العدالة الانتقالية، وسوف نتناول فى المقال الماثل فقط التطبيقات الدولية المعاصرة للعدالة الانتقالية، على أن نتناول الوضع فى مصر وفى الشريعة الإسلامية فى مقالات أخرى لاحقة وذلك فيما يلى: أولا: التطبيقات الدولية: نحن نرى أنه من المفيد لنا فى مصر والعالم العربى استعراض التطبيقات الدولية للعدالة الانتقالية، وقد أخذ مفهوم العدالة الانتقالية فى التطبيق العملى فى مختلف دول العالم أحد منهجين، المنهج الأول هو محاكمة كل من أفسد وقتل ودمر، والمنهج الثانى يتجه نحو المصالحة الوطنية وسوف نشرح هذين المنهجين والدول التى انتهجتهما وذلك فيما يلي: 1- المنهج القانونى الأول : المحاكمة وتطبيق العدالة أثناء المرحلة الانتقالية التى تمر بها دولة من الدول، كما حدث فى تشيلى سنة 1990، وجواتيمالا سنة 1994، وجنوب أفريقيا سنة 1994، وبولندا سنة 1997، وسيراليون سنة 1999، وتيمور الشرقية سنة 2001، والمغرب سنة 2004، وكذلك مصر سنة 2012 متمثلة فى محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك وكبار المسئولين معه. 2- المنهج القانونى الثانى : وهو الذى يتجه نحو المحافظة على النسيج الوطنى والخوف من التفرقة والتشرذم والدخول فى صراعات لا نهاية لها وتتجه نحو إعادة البناء الاجتماعى والمصالحة الوطنية وإصلاح مؤسسات الدولة مثل الجيش والشرطة التى غالباً ما ترتبط بها الشبهات أثناء قيام النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة مثلما حدث فى فرنسا عندما ألقى «شارل ديجول» خطبة شهيرة له فى «فيشي» حول وحدة فرنسا فكان تمهيداً منه للعمل على المصالحة الوطنية فى فرنسا ونبذ الصراعات والتفرقة الحزبية والسياسية التى تضر أكثر ما تنفع ويحترق بنيرانها الجميع وكان ذلك هو مسار ميتران وبمبيدو حيث أكدا على ضمانهم لوحدة فرنسا وليس الأمر ببعيد زمنيا أو جغرافيا، ففى دولة جنوب أفريقيا سنة 1994 قام الزعيم «نيلسون مانديلا» بمبادرة المصالحة الوطنية وهو أول من ذاق العذاب والسجن لكنه تناسى كل ذلك عندما أصبح رئيساً لجمهورية جنوب أفريقيا وقام بتغليب مصلحة البلاد العليا وهو من بدأ بنفسه التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام لأنه رأى أن من غير هذه المصلحة الوطنية ستكون البلاد عرضة لمزيد من الاحتراق وإراقة الدماء إذا ما سادت روح الانتقام فى المجتمع. ومن المؤسف والمحزن فى نفس الوقت أن العدالة الانتقالية بمنهجيها يكادان ينعدمان فى بعض الدول العربية وذلك بسبب قيام الشرطة بإعدام الأدلة القائمة ضد المسئولين السابقين. وقد يرجع الأمر فى بعض الدول إلى فشل القضاء الوطنى فى الخوض فى المحاسبة، لعدم استقلاليته من ناحية، وعدم قدرته على فتح ملفات فساد شائكة تخص كبار رجال هذه الدول وعدم وجود نية صادقة فى المصالحة الوطنية ونبذ الفرقة فى الكثير من الدول التى تحولت إلى النظام الديمقراطى صراعاً وطمعاً فى السلطة وهو ما نراه للأسف واضحاً وجلياً فى بعض الدول العربية الآن ولعل من دواعى حُزننا العميق وأسفنا الشديد أن يرسل لنا الزعيم العظيم مانديلا رسالة يقول فيها لقد قال رسولكم الكريم عبارة لو عرفتم فحواها لما تصارعتم وهى «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن المثير للتعجب والتساؤل أن يرسل لنا هذا الزعيم العالمى هذه الرسالة التى سوف نفكر فيها ونتأملها. ثانيا: التطبيق فى الدول العربية: يبدو العالم العربى اليوم وخاصة بعد ثورات الربيع العربى فى حاجة إلى الدخول فى مرحلةٍ جديدة من «العدالة الانتقالية»، وخاصة تلك الدول التى شهدت انتهاكات كبيرة على مستوى حقوق الإنسان فى الماضي. فالعدالة الانتقالية تضع الأساس الصحيح للمصالحة الوطنية، كما أن التراث التاريخى العريق للمصالحة يعود بجذوره بعيداً إلى التاريخ العربى - الإسلامى، ولذلك تبدو الدول العربية بحاجةٍ إلى استعادة هذا التراث ممزوجاً بالخبرات المتراكمة للمجتمعات، خصوصاً تلك التى مرت بفتراتٍ من النزاع الأهلى أو انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان أخلّت بثقة المواطن بالنظام السياسى والقضائى لبلده إخلالاً كاملاً، وأصبح المواطن أكثر شعوراً أن الدولة ذاتها متورطة فى ما يعيش فيه، كما أصبح جلياً فى ضمير كل من أبناء الدول العربية أن أنظمتهم أنظمة استبدادية ترتكب الجرائم ضد شعوبها من دون رادع وتنهب ثروات الشعوب وتذيقهم الفقر والحرمان وأن القوانين ما شُرعَت إلا لاستعباد تلك الشعوب ولا تُطبّق على الفاسدين من كبار المسئولين فى الدول العربية وهذا أكبر دليل على غياب العدالة الانتقالية عن منطقتنا العربية. ثالثا: أسباب الغياب: يتبيّن لنا جلياً من استعراض الظروف السياسية والاجتماعية فى الدول العربية وفى دول الربيع العربى أن العدالة الانتقالية غائبة تماماً عن منطقتنا العربية باستثناء ما قامت به المملكة المغربية فى عام 2004 من حملات جادّة لمكافحة الفساد والمفسدين، ومع ذلك فإنها لم تنل من كل رؤوس الفساد وإنما كانت على الأقل بداية وانفراد لمملكة المغرب فى مسار تطبيق العدالة الانتقالية فى منطقتنا العربية وسوف نتناول عوائق تحقيق العدالة الانتقالية فى الدول العربية فيما يلي: العائق الأول : ضعف استقلال القضاء، وتبعية أجهزة النيابة العامة للسلطات التنفيذية فى بعض الدول العربية باستثناء مصر. العائق الثانى : تآكل الثقة بالقضاء الوطنى بفعل الانقسامات الداخلية الحادة كما فى لبنان والسودان والعراق وفلسطين . العائق الثالث : غياب إرادة تسوية ملفات الماضي، وكشف الحقيقة، حيث إن معظم الدول العربية شهدت انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان على مدار عقود ما بعد الاستقلال. العائق الرابع : انتشار التستر على ارتكاب الجرائم، ومنح مرتكبيها الحصانة ضد القضاء، وذلك من خلال تبنى بعض الحكومات ما يعرف بقوانين العفو، وفرض إجراءات صارمة ضد من يسعى إلى انتقاد مثل هذه القوانين، والأغرب أنها تُسوق هذه القوانين إعلامياً باعتبارها مصالحة وطنية على خلاف الحقيقة. العائق الخامس : تغوّل السلطة التنفيذية على القضائية كما حدث ويحدث فى مصر. وسوف نتناول تطبيقات العدالة الانتقالية فى الشريعة الإسلامية وفى مصر فى مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.