كثر الحديث عقب ثورة 25 يناير حول تبنى نموذج جنوب إفريقيا فى المصالحة، كأنموذج يصلح تطبيقه فى مصر لينهى حالة الاحتقان الشديدة التى كانت تسود الشارع المصرى فى ذلك الوقت.. ثم عادت نفس النغمة تطل برأسها من جديد عقب أحداث محمد محمود وأحداث مجلس الوزراء، خصوصاً بعد سقوط المزيد من القتلى المصريين.. فى المرة الأولى لم تكن لدى بعض الذين طرحوا الأنموذج دراية كافية بما حدث فى المصالحة التى تمت فى جنوب إفريقيا، وما انتهت إليه.. لكن هذه المرة راحت بعض الصحف تتبنى النموذج، وترسل صحفييها لجنوب إفريقيا لجمع معلومات كافية حول التجربة.. ومن ثم راحت بعض البرامج التليفزيونية أيضاً تفرد مساحة لتلك التجربة وتعرضها على المصريين، باعتبارها نموذجاً يصلح للأخذ به فى لمصر.. لكن ما بين هذا وذاك، لم يتطرق أحد لمناقشة النموذج نفسه، وهل يصلح لمصر أم لا؟ من الواضح أن الذين تبنوا نموذج المصالحة هذا، من قبل ومن بعد، هم أفراد حسنو النية، بمعنى لا يمكن اتهامهم بوجود أغراض مسبقة لديهم حول طرح نموذج فاشل، وتبنى تجربة سيئة.. وإذا كنا نلتمس العذر بعدم وجود معلومات كافية لدى هؤلاء الذين طرحوه النموذج فى المرة الأولى، فإن الصحفيين الذين ذهبوا لجنوب إفريقيا هذه المرة، وقعوا فى نفس الخطأ.. فقد رتبوا أفكارهم وأحاديثهم حول الأمر مع طبقة المستفيدين منه، من خلال نقل التجربة على لسان الساسة الإفريقيين الذين وقعوا فى شرك التجربة، أو على لسان الأوروبيين الذين استفادوا منها وضمنوا بأن تظل خيرات تلك الدولة تصب فى صالحهم.. ناهيك عن أنهم نزلوا فى المدن والبنايات الفخمة فى كيب تاون وجوهانسبرج وبريتوريا، التى تقدم جنوب إفريقيا بصورة مغايرة لحقيقتها البشعة من الداخل.. لهذا راحت جريدة "المصريون" تتقصى مسألة المصالحة من أصولها، وتناقش حقيقة التجربة، ومدى نجاحها فى بيئتها الأصلية قبل الحديث عن تبنيها فى مصر. ظروف المصالحة والخصائص المتفردة الناظر لدولة جنوب إفريقيا يجدها دولة تتسم بالعديد من الخصائص فهى دولة تضم خليطًا من عناصر سكانية أربعة: الإفريقيون، حوالى 71% من السكان، والبيض، 21%، والملونون 9%، والآسيويون 9%. ودولة عاش فيها الإفريقيون قبل المصالحة على 13% من مساحتها، والبيض على 85% وبقية الأجناس على النسبة الباقية. كما أنها دولة مارس فيها البيض كل أنواع التمييز العنصرى ضد الأجناس الأخرى لمدة أربعة قرون.. بل دخلت تلك العناصر فى كفاح طويل ضد الحكم العنصرى فيها، انتهى الأمر إلى وجوب دخول البيض فى مفاوضات ومصالحة مع الأكثرية السكانية، لتستقر لهم الأمور هناك، وليستمتعوا بالجنة التى خلقوها من حصيلة الماس والذهب الذى تزخر به تلك الدولة. خريطة توضح المناطق التى كان يعيش عليها السود قبل المصالحة فى جنوب إفريقيا ومع اختلاف الآراء حول بداية فترة التحول السلمى فى جنوب إفريقيا، سواء من يقول إنها بدأت بإصدار دستور سنة 1983، الذى شكل نقطة البداية فى عملية الإصلاح، ومن يقول بأنها بدأت مع تولى رئيس الوزراء دى كليرك الحكم فى عام 1989 خلفاً لبوتا، وقيامه بإخراج نلسون مانديلا من السجن سنة 1990، ومن يقول بأن الدفعة الكبيرة حدثت منذ سنة 1991، إلا أن الضغوط التى مورست على الإفريقيين للوصول إلى اتفاق بين الأطراف ينهى حالة الصراع بين البيض والسود، هو الذى أجبر الإفريقيين على تقديم تنازلات كبيرة لصالح البيض هناك، وهو الذى صاغ حالة الخلل والعوار التى تسود تلك المصالحة حتى الآن. مصالحة فى ظل ضغوط مختلفة وحتى نفهم المسألة أكثر نلقى الضوء على ثلاثة ضغوط رئيسية: أولها، الصغوط الداخلية؛ وهى الأهم، وجاءت هذه الضغوط من البيض والسود على السواء.. فقد كان رجال الأعمال البيض هم الركيزة الأساسية لعملية التحول بما شكلوه من ضغوط على الحكومة لتخفيف القيود العنصرية.. وتأتى شركة الأنجلو-أمريكان برئاسة هارى أوبنهايمر على رأس الشركات التى سعت لإحداث عملية التحول، فقد حددت طبيعة الإصلاحات وقدمت إنذارها فى بداية الثمانينيات، بأن التقدم الاقتصادى المزدهر سوف يتوقف تماماً فى القريب العاجل، اذا لم تتخذ الحكومة البيضاء خطوة متقدمة.. وفى مقابل ضغوط كبار رجال الأعمال الناطقين بالإنجليزية، يشكلون 40% من القاعدة الانتخابية للحزب الوطنى الحاكم، كانت تقف قوى اليمين المحافظ، المزارعون الأفريكانرز، كحائط صد لبقاء الأمور كما هى عليه.. وبالتالى ظلت تعارض عملية التحول والتفاوض من أساسها مع الإفريقيين.. ولكن ضغوط الاقتصاد ورجال الأعمال كانت هى الأقوى، بما جعل دى كليرك يصرح بأن هناك لجنة خاصة وربما سرية داخل الحكومة قد طورت سياسة جديدة بما يفيد تغييراً يصل إلى 180 درجة انحرافاً عن سياسة التفرقة العنصرية وأساليب التطور المنفصل.. وانعكس رفض الأفريكانرز المحافظون وتشكيلهم دولة داخل الدولة، تدعى أورانجيا فى الكيب الغربى، فى مراعاة التشدد الذى يبديه هؤلاء أثناء مفاوضات المصالحة.. وإذا كان هؤلاء البيض المحافظون حاضرون فى مشهد التفاوض بقوة، فعلى الجانب الآخر غابت كثير من القوى الاجتماعية الإفريقية بين تشكيلة المتفاوضين مع الحكومة. ثانيها، الضغوط الدولية، وقد لعبت هذه الضغوط دورين متناقضين؛ فمن ناحية لعبت دوراً إيجابياً فى التمهيد والعناية بعملية التفاوض.. ومن ناحية ثانية لعبت دوراً سلباً فى النتيجة التى انتهت إليها تلك العملية.. فقد كان لبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية دوراً مهماً فى الصغط على كلا الطرفين للتفاوض، مقابل وعود بمكافآت ومساعدات واستثمارات ودعم سياسى على الساحة الدولية.. لهذا جرت المفاوضات وسط تشكيلة مذهلة من الاقتراحات، دون أن يكون لدى المؤتمر الوطنى الإفريقى بقيادة مانديلا برنامج محدد للمفاوضات، مع افتقاده لأكبر داعمية، بتفكك الاتحاد السوفيتى، بما جعله يستجيب لنصائح تلك الدول. ثالثها، على المستوى الإقليمى، حيث شكلت دول الجوار ورقة ضغط مباشرة وغير مباشرة على الطرفين للتسوية.. فمن ناحية قامت دول الجوار بالتضييق على نشاط المؤتمر داخلها، ونجحت بشكل غير مباشر فى إجبار النظام العنصرى على التسليم باستقلال ناميبيا، خاصة بعد فشله فى الحفاظ على اتفاقيات السلام مع موزمبيق وأنجولا.. وهو الأمر الذى فرض على رجال الأعمال البيض التوجه لدول الجوار للتفاوض مع الحركة الوطنية فى المنفى، للمحافظة على صادراتهم لتلك الدول. مانديلا ديكليرك التسوية التى تمت: دفعت الضغوط الدولية المؤتمر الوطنى الإفريقى لأن يغير من أسلوبه فى الكفاح المسلح ليتحول من حركة تحرير إلى حزب مهيئ لقيادة الدولة وفهم الظروف المحيطة.. ومن ثم نجح رأس المال الأبيض فى صياغة أخطر مادة فى صلب بنود التسوية، وهى مادة حماية حقوق البيض وحقوق ملكية الأراضى.. وهو الأمر الذى جعل مشكلة توزيع وملكية الأرض تظل أحد العوائق الكبرى أمام التغيير الحقيقى هناك.. وكان أهم ما توصل له الطرفان هو حصول الإفريقيين على السلطة مقابل احتفاظ البيض بامتيازاتهم الاقتصادية، كما هى، تلك التى تجعلهم إلى اليوم هم المتحكون فى عالم المال والأعمال. وتفسير هذا الشرك الذى وقع فيه الأفارقة بأن المفاوضات تمت فى ظروف غير مناسبة وتحت ضغوط دولية وإقليمية.. فعلى سبيل المثال حينما عاد المنفيون إلى جنوب إفريقيا سنة 1991، وخرج من بالسجون سنة 1990، كانوا غرباء على العمل السياسى، وليس لديهم معارف اقتصادية.. ناهيك عن أن المفاوضات قد تمت، والتنافس على أشده بين أنصار حزب أنكاثًا والمؤتمر الوطنى.. وهو الأمر الذى جعل أعمال العنف والقتل والاغتيالات تسود جنوب إفريقيا منذ سنة 1991 وحتى انتخابات 1994. ومن ثم بدأت المفاوضات الحقيقية فى 20 ديسمبر 1991 بين الحكومة وثمانية عشر وفداً يمثلون جميع الاتجاهات السياسية فى جنوب إفريقيا، ومراقبين من الأممالمتحدة وجماعة الكمنولث ومنظمة الوحدة الإفريقية، حول قضايا الانتخابات والدستور والجمعية التأسيسية والحكومة الانتقالية، وتم التصديق فى تلك المفاوضات على عدد من القضايا، أهمها لائحة الحقوق لحماية الحقوق المدنية التى تصب فى مصلحة للبيض، فى حين استبعدت قضية الأرض من جدول المفاوضات، اللهم إلا داخل نص عام لم يتطرق للمشكلة.. بل صيغت سياسة إعادة توزيع الأرض عبر لجنة مكونة من أعضاء من البنك الدولى وتكنوقراط أقنعوا الحكومة السوداء بمنهج الضمان والتحويل المرتبط بالسوق، وذلك من خلال القرار بمنح الحماية الدستورية لحقوق الملكية. وهو الأمر الذى أدى إلى بروز مسألة تعويض البيض عن الأرض التى ستتم مصادرتها منهم حسب أسعار السوق الجارية، مما أضاف عقدة جديدة للمشكلة جعلها مستمرة بلا حل إلى اليوم.. وهو الأمر الذى دعا إلى إنشاء محكمة حقوق الأرض لجنوب إفريقيا South African Land Clams Court فى سنة 1996.. لكنها ساهمت فى تأزيم المشكلة أكثر فأكثر، وتسببت فى تأخير الحل، بل واليأس من الوصول إلى هذا الحل مستقبلا.. فقد تعرضت كثير من الحقائق التى عرضها السود للتشكيك من قبل البيض أمام هذه المحكمة. وبهذا لم تفلح الحكومات الإفريقية التى تسلمت السلطة منذ مانديلا مرورا بتابو مبيكى انتهاء بالرئيس الحالى فى إعادة توزيع ال 85% من الأرض التى يملكها البيض على المحرومين. مع أنها وعدت منذ سنة 1994 بأنها ستعيد 30% من الأرض للإفريقيين.. وهذا ما جعل المحكمة تلجأ لأسلوب المصالحة لا إلى الشرعية فى ظل الزيادة الكبيرة فى أسعار الأرض فى ظل ارتفاع أسعار السوق.. ومن ثم فإن المشاكل الاجتماعية فى جنوب إفريقيا هى بمثابة قنابل منزوعة الفتيل.. وهو الأمر الذى جعل كبار المسئولين الحكوميين يهددون بمصادرة الأراضى.. فحتى اليوم لم تفلح الحكومات الإفريقية إلا فى زيادة نسبة الأرض التى يملكها السود قبل تطبيق المصالحة من 13% إلى 16% فقط.. وهذا هو الذى جعل مسئوليهم يقدمون وعوداً لمواطنيهم المحرومين بأنهم سيقومون بحل المشكلة سنة 2014. وبالطبع فإن تلك التطمينات ما هى إلا ترحيل للمشكلات لأجل غير مسمى. تجربة فاشلة ومكاسب لا تذكر خلاصة التجربة بأن البيض نجحوا خلال المصالحة التى تمت سنة 1994 فى صياغة النصوص الرئيسية التى تضمن مصالحهم على حساب العناصر السكانية الأخرى، خصوصاً الإفريقية.. وأنهم على استعداد لخوض حرب جديدة تدفع لتدخلات خارجية تدافع عن مصالحهم، باعتبار أن شهود المصالحة هم بالأساس شهود زور عليها، جاءوا من الخارج لضمان مصالحهم فقط. وأن تعامل الحكومات الإفريقية التى تسلمت السلطة سنة 1994، لم تقدم حتى اليوم حلولاً تمنع تفجر المشاكل فى المستقبل القريب. وذلك لأن مفتاح الحل لم يكن أبداً بأيديهم، نظراً لما ارتضته القيادات الإفريقية وقدمته من تنازلات ساعة المفاوضات، ولما حملته من إرث ضخم من الظلم والتمييز العنصرى.. فرغم إعلان الحكومة السوداء بأنها ستعيد 30% من الأراضى للإفريقيين، بما يعنى أن حصة الإفريقيين ستصبح فى النهاية 43% (بعد إضافة مساحة ال13% المملوكة تاريخياً)، إلا أنها لم تفلح حتى 2012 إلا فى استعادة 3% فقط.. لتصبح حصيلة الأراضى التى يعيش عليها السود حتى هذه اللحظة 16% فقط من مساحة جنوب إفريقيا. ولاشك أن هذا يطعن فى النموذج الذى يتبناه البعض عندنا.. حيث يقدم جنوب إفريقيا، باعتبارها صانعةً للسلام وواحة للمصالحة الوطنية، وهذا يخالف الواقع تماماً. فجنوب إفريقيا تعد مثالاً جيداً للدولة التى كرست الظلم الاجتماعى عبر مصالحتها التاريخية الظالمة، التى صبت فى صالح طرف على حساب طرف آخر.. لذا فإنها تعتبر أكثر بؤرة فى العالم قابلة للانفجار فى أى وقت.. وإذا كان البعض عندنا يطرح هذا النموذج ليقبل به الضحايا عندنا، ويقومون بالعفو والغفران عما سلف دون محاسبة للقتلة والمجرمين ولصوص المال، فهذا طرح سيئ للغاية، لأنه انتهى فى جنوب إفريقيا إلى بروز عصابات مسلحة تقيد تحركات الناس هناك بمجرد حلول المساء.. بالإضافة إلى أن ما يحدث عندنا هو بعيد كل البعد عما حدث فى جنوب إفريقيا، من تاريخ سيئ جداً فى التمييز والحكم العنصرى.. بل إن تاريخ مصرنا الغالية هو المثال الأبرز فى العالم للتماسك الاجتماعى والنسيج الاجتماعى شبه الواحد.. فضلا عن أن ما يحدث عندنا هو صراع على الحكم ليس أكثر.. تحركه قوى كانت تتمتع بالنفوذ فى الفترات السابقة، ومن ثم هى تحاول أن تفرض نفسها على مسرح الأحداث فى صيغة الحكم الجديدة المطروحة الآن للنقاش. هذا بالإضافة إلى أن المصالحة عندنا لابد أن ترتبط بالحساب والعقاب حتى يرتدع الحكام الجدد عن ارتكاب أى حماقات جديدة بحق شعبهم. ولابد أن يكون الجزاء من جنس العمل.. ومن ثم فإن تجربة جنوب إفريقيا هى تجربة لا تصلح للتطبيق فى مصر، فالشعب عندنا لم يمارس ضده التمييز العنصرى طيلة أربعة قرون، ليقبل بإسقاط التشريعات العنصرية فقط. فشعبنا الكريم تعرض للظلم الاجتماعى والقهر السياسى والنهب الاقتصادى المتعمد، وهو يريد العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وإخضاع المتسببين فى هذه الأمور للمحاسبة فى ضوء الشريعة السماوية التى تحكمه. ومن ثم لا يصلح نقل تجربة فاشلة كرست للظلم الاجتماعى وإفقار الناس فى جنوب إفريقيا وتطبيقها عندنا فى مصر. أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة