بعد سيل الأحداث والأحاديث والتعليقات وردود الفعل التى انهمرت على المشهد السياسى طوال الأسبوع الماضى ومنذ إعلان نتيجة الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، ومع حالة الغضب العام التى تبدّت ولا تزال فى الشارع المصرى، فإن قراءة هادئة لتلك النتيجة الصادمة المثيرة للدهشة وأسبابها الحقيقية وتداعياتها المجهولة.. تبقى ضرورية ومهمة بعد أن توارت الدهشة وإن بقيت الصدمة ومعها هواجس التداعيات، وذلك للإجابة عن سؤالين مهمين.. ماذا حدث؟.. ولماذا؟ماذا حدث؟.. إن أول ما حدث هو أن نتيجة الجولة الأولى بدت وبكل المقاييس نكسة ولا أقول هزيمة للثورة، والمفارقة أنها تتواكب مع الذكرى ال (45) لنكسة يونيو عام 1967، وكأنها النكسة الثانية التى تتعرض لها مصر فى أقل من نصف قرن. إن هذه النتيجة خيانة لأرواح المئات من شهداء الثورة الأطهار النبلاء وإهدار شائن لدماء الآلاف من المصابين والجرحى والذين انطفأت أنوار عيونهم لتضىء لنا المستقبل الأفضل والأكرم، وهؤلاء وهؤلاء أرواحهم ودماؤهم معلّقة فى رقاب الأمة كلها حتى يتحقق القصاص العادل. بقدر ما جاءت هذه النتيجة صادمة فإنها بنفس القدر وضعت الناخبين.. غالبيتهم أمام خيارات شديدة الصعوبة.. لعل أسوأها وأخطرها الإحجام عن التصويت ومقاطعة انتخابات جولة الإعادة. رغم النزاهة الشكلية لهذه الانتخابات، إذ لم تشهد ممارسات التزوير الفج الخشن حسبما كان يحدث فى النظام السابق، إلا أنها شهدت ممارسات التزوير الناعم وبأشكال وآليات متعدّدة وعلى النحو الذى انعكس بدرجة أو بأخرى على النتيجة وهو الأمر الذى يضع علامات استفهام كبيرة وكثيرة على سير العملية الانتخابية ونزاهتها، ثم إن رفض اللجنة العليا للانتخابات (المحصنة قراراتها) للنظر بجدية فى بلاغات وطعون جادة تقدّم بها المرشحون حول ما شاب الانتخابات من تجاوزات ومخالفات خطيرة.. من بينها منع مندوبيهم من المبيت بجوار صناديق الاقتراع وكذلك رفض اللجنة تسليم المرشحين كشوف الناخبين.. كل ذلك يثير الدهشة بقدر ما يثير من علامات الاستفهام. الأكثر إثارة للدهشة والتساؤل هو الزيادة المريبة لأعداد الناخبين المقيدين بنحو خمسة ملايين ناخب خلال سنة واحدة مقارنة بأعداد المقيدين فى استفتاء مارس 2011 والانتخابات البرلمانية.. وهو التساؤل الذى لم تجب عنه اللجنة العليا. *** لقد كانت غالبية التوقعات تشير بل تؤكد أن أحد مرشحى تيار الإسلام السياسى.. «أبو الفتوح» أو محمد مرسى هو من سيخوض جولة الإعادة أمام حمدين صبّاحى أو عمرو موسى، لكن لم يكن متوقعاً وبمنطق الثورة أن يكون الثانى هو أحمد شفيق مرشح أسرة مبارك والمحسوب فعلياً ضد الثورة. إنه من غير المنطقى أن شعباً أسقط نظاماً فاسداً.. رئيسه ورموزه وأركانه بثورة سلمية باهرة مبهرة ملهِمة ثم ينتخب أول رئيس بعد هذه الثورة من بين رموز النظام الذى أسقطه. ثم إنه ليس ممكناً الاقتناع بأن يكون مرشح ذلك النظام الفاسد هو من يزعم أنه سيحقق أهداف الثورة التى وقف ضدها أو يصلح ما أفسده النظام الذى ينتمى إليه. إن تأهل الفريق شفيق مرشح النظام السابق وآخر رئيس حكوماته لخوض جولة الإعادة يمثل تهديداً حقيقياً وخطيراً بعودة النظام السابق أو بعبارة أدق استمراره إذ بدا واضحاً أن ذلك النظام أطاح برئيسه مضحياً به مقابل استمراره فى السلطة والحكم رغم أنف الثورة! *** غير أن واقع الأمر وحقيقته وبما يخفف كثيراً من وطأة صدمة النتيجة.. أن من بين أهم ما حدث هو أن تياراً ثورياً مدنياً واسعاً كشفت عنه هذه الانتخابات ونتائجها وأكدت قوته.. ممثلاً فى مؤيديه ومرشحيه.. حمدين صبّاحى الذى ترسّخت شعبيته الجارفة والذى كان قاب قوسين أو أدنى من خوض جولة الإعادة.. وعبدالمنعم أبوالفتوح وخالد على وهشام البسطويسى.. بل أجدنى وبدواعى الموضوعية أقول وأيضاً عمرو موسى. هذه الحقيقة تؤكدها قراءة أرقام النتيجة، إذ أن مجموع من صوتوا لصالح مرشحىّ تيار الثورة المدنى فاق مجموع أصوات مرشحىّ جولة الإعادة، بل إنه بقراءة أكثر دقة فإن من صوتوا لمرشحىّ تيار الثورة أكثر من ثلاثة أمثال من صوتوا لأى منهما. *** ويبقى السؤال الآخر.. لماذا؟.. والإجابة طويلة بطول المرحلة الانتقالية التى طالت لنحو سنة ونصف السنة وبأكثر من ستة أشهر حسبما تعهّد المجلس العسكرى فى بدايتها. إن إطالة هذه المرحلة مع ما شهدته من أخطاء فى إدارتها وارتباك فى تدارك تلك الأخطاء، إضافة إلى ما شهدته من أحداث عنف وانفلات أمنى بتداعياته السلبية على مجمل الأوضاع الاقتصادية ومن بينها الأزمات المفتعلة.. الوقود نموذجا.. كل ذلك سواء جرى عن قصد وتعمّد أو غير ذلك.. تسبب فى إرهاق المصريين وزعزعة ثقة عدد كبير من الذين تأثروا سلباً.. بالثورة، ومن ثم تطلّعهم ولهفتهم على استرداد الأمن والاستقرار وعلى النحو الذى دفع نسبة غير قليلة دفعاً إلى التصويت لصالح مرشح النظام السابق بزعم أنه من سيعيد الأمن ويصلح الاقتصاد! غير أنه من المؤكد أنه لو أجريت الانتخابات قبل نهاية الستة أشهر الأولى لما كان ممكنا للفريق شفيق أن يفكر فى الترشح، وحتى لو كان قد ترشح فلم يكن ليحصل على ربع ما حصل عليه من أصوات مؤخراً. إضافة إلى التزوير الناعم فقد أسهم المال السياسى إسهاماً كبيراً فى فوز مرشح «الإخوان» ومرشح النظام السابق بالمركزين الأول والثانى وتأهلهما لخوض الإعادة. خوض المرشح الإخوانى محمد مرسى للانتخابات بالمخالفة لقرار الجماعة فى البداية بل الإصرار على ذلك بترشيح مرسى كاحتياطى وبديل لمرشحها الأول الذى تم استبعاده خيرت الشاطر.. لا شك أنه تسبب فى تفتيت الأصوات فيما بينها وبين مرشحى التيار المدنى ولصالح أحمد شفيق. وفى نفس الوقت فقد أخطأ مرشحو تيار الثورة خطأً استراتيجياً حيث لم يتوافقوا ويتفقوا على مرشح واحد فى مواجهة مرشح النظام السابق، وهو الخطأ الذى دفعوا جميعهم ثمنه غاليا ودفعت مصر والثورة ثمناً أغلى وأفدح. *** أما لماذا تراجع عمرو موسى إلى المركز الخامس وهو من بدأ السباق مبكراً.. مستنداً على رصيد شعبى تاريخى كبير أهّله ليظل متقدماً فى المركز الأول لعدة أشهر؟ الحقيقة أن الرجل تعرّض لظلم فادح وحملة تشويه متعمدة من جانب «الإخوان» وهو أمر يمكن تفهّمه، وأيضاً من جانب تيار الثورة والتيار المدنى والذى احتسبه وعلى غير الحقيقة من فلول النظام السابق وهو أمر يصعب تفهّمه، وفى نفس الوقت فإن المناظرة التليفزيونية التى جرت بينه وبين «أبوالفتوح» كانت بأسئلتها شديدة الخبث فخاً كبيراً وقعا فيه معاً، ففقدا الكثير من أصواتهما وتراجعا إلى المركزين الرابع والخامس. *** إن قراءة أرقام النتيجة تعكس بوضوح تام قوة التنظيم.. سواء السياسى أو الدينى، فكان تنظيم «الإخوان» بخلاياه وبجذوره الضاربة فى عمق المجتمع المصرى وفى عمق الزمن (84 سنة) وراء فوز مرشحه بالمركز الأول وبما يقترب من ربع أصوات الناخبين، فى نفس الوقت الذى كان فيه تنظيم الحزب الوطنى بقياداته وبقاياه التى لاتزال مسيطرة على كثير من أوصال ومفاصل الدولة القديمة وبرجال أعماله وبأصحاب المصلحة فى عودة النظام السابق.. كان أيضاً وراء فوز مرشحه بالمركز الثانى وبأعداد تقترب أيضاً من ربع أصوات الناخبين. هذه الحقيقة يؤكدها إخفاق «أبو الفتوح» إذ تبدّت قوة التنظيم فى حالته سلباً بعد أن فقد أصوات تنظيمه الأساسى ولم تفلح أصوات تيار الثورة فى إنقاذه من عقاب تنظيم الإخوان. *** الناخبون فى جولة الإعادة أمام خيارين.. أحلاهما مُر كما تواتر فى الأدبيات السياسية بعد إعلان نتيجة الانتخابات، فإن فاز محمد مرسى فذلك تكريس لاستحواذ فصيل سياسى واحد على السلطة، وإن فاز شفيق ففى ذلك عودة لنظام مبارك! *** لكن يبقى أنه لو فاز شفيق فإنه سيكون رئيساً لا يحظى بالقبول والرضاء الشعبى العام، وهو أمر يقلّل كثيراً من شرعيته ومشروعيته n l وللحديث بقية l