ضمن الحراك السياسى والثورى العنيف الذى تشهده مصر منذ اندلاع ثورتها قبل عام أو يزيد.. شهدنا العديد من الانسحابات والتراجعات من الأحزاب والقوى والجماعات والحركات والشخصيات البارزة.. ومنها انسحاب د. البرادعى من الترشح لانتخابات الرئاسة وانسحاب حزب الحرية والعدالة من المجلس الاستشارى وانسحاب بعض الأحزاب والمستقلين من انتخابات الشورى.. وأخيراً انسحاب بعضها من ترشيحات لجان مجلس الشعب.. ثم تراجع الوفد بعد وعود برئاسة بعض اللجان. وإذا كان الانسحاب حقاً سياسياً مشروعاً.. مثل التظاهر والاعتصامات والاحتجاجات القانونية المنظمة.. إلا أن حجم الظاهرة زاد بصورة واضحة.. تعكس التفاعل الهائل داخل الساحة السياسية المصرية.. كما تشير إلى أن مصر تعيش حالة من المخاض العسير الذى قد يؤدى إلى بزوغ نجم ديمقراطى رائع.. أو وليد ديمقراطى مبتسر! ولكن الدلائل الأولية تشير إلى أنه سوف يكون وليدا رائع الملامح.. بصحة وعافية.. وسوف ينعكس إيجابا على مستقبل الحياة السياسية فى مصر والمنطقة.. بل العالم بأسره.ولنبدا بنموذج الانسحاب الأبرز والأوضح – رغم أنه ليس الأحدث – ألا وهو انسحاب د. البرادعى من الترشح لانتخابات الرئاسة. والسؤال المنطقى البسيط: هل ترشح د. البرادعى حتى ينسحب؟! وهل بدأ هذا السباق فعلاً؟ وهل دخل البرادعى كلاعب أساسى رسمى؟! والإجابة المنطقية تقول: لا.. لم يترشح البرادعى حتى ينسحب.. بل إن كل المرشحين المحتملين لهذا المنصب العتيد لم يتقدموا رسميا لنيل شرفه.. وكل ما نراه ونسمعه هو مجرد احتمالات وخطط وأمان لم تنزل على أرض الواقع بعد.. وربما يغيب بعض المرشحين الذين نراهم الآن.. قبل بدء السباق الرسمى.. أو فى منتصفه.. أو قبيل لحظات من العملية الانتخابية الحاسمة.. بل إننا قد نرى وجهاً أو وجوهاً جديدة مفاجئة.. قد تقلب لعبة الانتخابات الرئاسية رأساً على عقب، أما انسحاب البرادعى.. مع تقديرنا الكامل لشخصه الكريم.. فيعود إلى رؤيته كسياسى محترف – دولياً وإقليمياً ومحلياً – فالرجل أدرك بما لا يدع مجالا للشك بعد انتخابات البرلمان أن المناخ غير مواتٍ له.. وأن الحسابات السياسية ونسب التصويت قد لا تأتى لصالحه.. بل إن النتيجة قد تكون قاسية.. فى ضوء الكثير من الأحداث والمواقف التى كشفت استطلاعات الرأى أن التيار الذى يمثله لن يحظى بتأييد كبير.. لذا آثر الانسحاب.. من تلك اللعبة الرئاسية، ولكنه كان ومازال وسيظل لاعباً بارزاً على الساحة السياسية والإعلامية، وربما يتم الإعداد لدور إقليمى آخر له.. مثل مبعوث دولى إلى سوريا. الانسحاب الثانى والبارز – رغم حدوثه قبل فترة – هو قرار جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة المنبثق عنها الانسحاب من المجلس الاستشارى، وقد سبق أن قلت إن المقاطعة مرفوضة والمشاركة مطلوبة فى العملية السياسية، ولكن الخلاف الجذرى بين الإخوان المسلمين والمجلس الاستشارى جعلهم يرفضون المشاركة فيه نظراً لتناقض دوره مع دور البرلمان الذى بدأ يمارس مهامه فعلاً.. ولم يعد أمام الاستشارى دور تشريعى مهم.. بعد أن بدأ البرلمان نشاطه فعلاً وبقوة من خلال لجنة تقصى الحقائق فى قضية الشهداء ومصابى الثورة وغيرها من القوانين والقضايا المطروحة عليه، بل إن الاستشارى لم يناقش القوانين الحيوية التى كان قد أعلن عنها قبل بدء تشكيله اعترافا بنقل السلطة التشريعية والرقابية لمجلس الشعب وفق إعلان المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. ونعتقد أن الاستشارى بدأ يفقد بريقه ودوره المؤقت.. فعلا، وهو فى سبيله إلى أن يصبح ذكرى عابرة فى حياتنا السياسية! وقبيل انطلاق انتخابات الشورى أعلنت بعض الأحزاب الانسحاب كلياً أو جزئياً منها. بعضها يرى أن الشورى نفسه لا لزوم له ومضيعة للمال والوقت والجهد.. والبعض الآخر يرى أن مجلس الشعب يقوم بالمهام التشريعية بصورة أفضل، لذا فلا مكان للشورى بعد ذلك، وآخرون اعتبروا نتائج تلك الانتخابات محسومة من الناحية الحسابية والواقعية للتيار الإسلامى: النور - والحرية والعدالة الذى ينافس فعلاً على 97% من مقاعده، كما أن نتائج «الشعب» الحاسمة والتى فاز الإسلاميون بنسبة تزيد على 76% منها.. دفعت بعض الأحزاب والتيارات والشخصيات للانزواء.. للحفاظ على المال وماء الوجه! وحتى لا تكون النتيجة أشد قسوة من الشعب! ولعلنا نتذكر التحالف الديمقراطى الذى قاده حزب الحرية والعدالة أثناء انتخابات الشعب وضم ما يزيد على 40 حزباً فى البداية، ثم بدأت بعض الأحزاب تتراجع وتخرج من عباءته وتدخل فى تحالفات أخرى، أو تشارك منفردة فى تلك الانتخابات.. والحقيقة أن هذا التحالف الأقوى شكّل قاعدة عريضة تعبر عن أغلب القوى الوطنية، ولكنه لم يحظ بأساس قوى لاستمراره، لذا فإنه تحالف انتخابى مؤقت شهد وسوف يشهد المزيد من التحولات.. وإذا أردنا الحديث عن تحالف أعرض وأقوى.. فربما يكون بين الحرية والعدالة والنور.. وقد يرى البعض أن هناك خلافات واضحة بينهما، ولكن النظرة الأعمق تكشف أن الأسس الجوهرية المتفق عليها بين الحزبين الإسلاميين الكبيرين أقوى وأعمق وأدوم من أى تحالف آخر، وقد شهدنا ذلك فى جلسات مجلس الشعب الأولى.. عندما حدث تصويت على بعض الأمور.. كنا نلاحظ توافق الأغلبية بين الحزبين.. دون تنسيق أو اتفاق مسبق.. بل من منطلق التفاهم الأيديولوجى والعقائدى الذى يحركهما معاً، ورغم أن الحزبين لم يعلنا رسميا أى تحالف بينهما.. فإن الواقع سوف يفرض نفسه عليهما.. بالاتفاق على القضايا والمشاريع الاستراتيجية، ونأمل أن تتسع هذه القاعدة لتشمل أغلب الأحزاب والتيارات والمستقلين من أجل مصلحة مصر وأمتنا العربية الإسلامية، ومن المؤكد أن ما يجمع هذه الأحزاب أكثر كثيرا مما يفرقها.. ولكنها قواعد اللعبة السياسية التى تقتضى الخلاف والاتفاق والمناورات المكشوفة.. ووراء الكواليس أيضاً. آخر مشاهد الانسحاب.. هو انسحاب بعض الأحزاب من عملية انتخابات لجان مجلس الشعب حتى إن أحد المتحدثين اعتبر هيمنة الحرية والعدالة على أغلب اللجان مشهدا مماثلا لما كان يقوم به الوطنى، وهو تشبيه مرفوض شكلاً وموضوعاً.. وواقعاً أيضاً.. انطلاقاً من الفارق الجوهرى بين الوطنى المنحل والحرية والعدالة والنور.. وكلاهما قائم على أساس جديد ويسعى لأداء مختلف، ولكنه لن يكون خالياً من الأخطاء التى تحدث عادة فى العملية السياسية، وبعد انسحاب بعض الأحزاب من ترشيحات لجان مجلس الشعب عاد بعضها، خاصة الوفد فى إطار عملية الجزر والمد.. والشد والجذب التى نراها بوضوح وسوف تتكرر مراراً! ولكن قواعد هذه اللعبة تقتضى أن يحافظ الجميع على «شعرة معاوية» حتى لا ينقطع الود والتقدير والاحترام المتبادل بين جميع القوى السياسية. هذا الاحترام يقودنا إلى شجب ما حدث من تجاوزات بعض الشباب بميدان التحرير يوم 27 يناير وأمام ماسبيرو وبعد ذلك، فلا يليق بأية قوة أو حزب أو حركة أو جماعة أن تعتدى على الآخرين فى الميدان باللفظ أو بالفعل.. المرفوض والشائن، وهؤلاء المتجاوزون أساءوا لأنفسهم أولاً.. كما أمدوا منافسيهم من الإخوان والحرية والعدالة مكسبا سياسيا ودعائيا كبيرا.. نتيجة رباطة الجأش وعدم الرد على التجاوزات بمثلها.. رغم أن بيان الجماعة أشار إلى قدرتها على رد أشد، ويبدو أن الإعلام والقوى السياسية المعادية للإخوان مازالت تفكر بذات عقلية النظام القديم.. وتعتقد أن الجماعة محظورة.. رغم أن الواقع يشير إلى عكس ذلك تماماً.. من خلال هذا التأييد الشعبى الساحق للتيار الإسلامى عامة.. وللإخوان المسلمين خاصة، ولكن هذا التأييد يحّملهم مسئولية كبرى.. أولى بديهياتها حكمة التعامل وإدارة الأزمات الصعبة، وما حدث فى ميدان التحرير يوم 27 يناير مجرد أزمة خفيفة جداً.. فى إطار مخطط الأزمات المفتعلة القادمة! وبشكل عام.. يجب أن نتفق على أن الانسحاب والتراجعات عن المواقف والائتلافات السياسية أمر مقبول ومتعارف عليه فى كل الديمقراطيات.. وسوف تتكرر لدينا بصورة أوضح وأشد نتيجة الحراك الثورى الذى مازلنا نشهده ولا ندرى إلى أين يتجه؟. وكيف ينتهى؟. كما أن هذه الانسحابات أغلبها تكتيكى.. فى إطار اللعبة السياسية التى تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية، وقد يكون الانسحاب وسيلة للضغط، كما أن العودة عنه ليست عيباً.. ولا تشين صانعها، فكل شىء وارد فى إطار اللعبة الديمقراطية.. بما فى ذلك التجاوزات والسفالات.. غير الأنيقة!