السؤال جاءنى من أكثر من مصدر خلال الأيام القليلة المنقضية، أسئلة من زملاء بشكل مباشر أو عن طريق وسائل اتصال مختلفة، والسائلون يريدون إجابات جاهزة ومباشرة تفسر لهم ما يحدث، حتى إن أحد الزملاء طلب منى أن أسمى له قائمة سوداء لأشخاص بعينهم لينشر هذه القائمة على صفحات ومجموعات التواصل الاجتماعى مثل الفيس بوك وتويتر أسوة بقوائم الفنانين والرياضيين الذين ساندوا النظام السابق، أو قوائم السياسيين ورجال الأعمال الفاسدين، وأنا لست ضد هذه القوائم ولكننى ضد أن نختزل القضية فى أفراد ونتصور أننا يمكن أن نرد الهجمة الشرسة على مكتسباتنا الوطنية وقيمنا الدينية والأخلاقية ونسمح أن يتم استعمارنا من جديد استعمارا ناعماً وليس عسكرياً كما كان فى الماضي. أقول يجب ألا نرد هذه الهجمة بمجرد الإشارة لبعض الأشخاص مهما بلغ عددهم دون إدراك ووعى موسع ومعمق للخطر الذى يحيق بالأمة ومستقبلها، وعلى رأس هذه الأمة مصر.. بحجمها وتاريخها ودورها الذى يؤهلها لأن تكون بحق الجائزة الكبرى للأعداء، وإذا سقطت - لاقدر الله - فقد نالوا ما أرادوا، لكن درس التاريخ علمنا أن على صخرة مصر كانت دائماً ما تنكسر هجمات أعداء البشرية؛ التتار والصليبيين، وغيرهما من الغزاة الطامعين. -1- حسناً.. الأمر لم يعد يحتمل عبارات إنشائية ولكن المطلوب معلومات مؤكدة وهى متاحة أكثر بكثير مما يظن البعض فقط تحتاج لإعادة تركيبها لفهم حقيقة ما يحدث. الأسبوع المنقضى سألنى أحد الزملاء مستنكرا: إذا كان مبارك عميلا لأمريكا ويحقق لها ما تريد، فلماذا تعمل على الإطاحة به وبنظامه؟! وفى الآتى الإجابة عن سؤاله من الوثائق الأمريكية ذاتها التى كشفت عنها ويكيليكس ومنها هذه البرقية الصادرة عن السفارة الأمريكية بتاريخ 6 من آذار 2006، رقم الوثيقة Cairo0135106 ومنسوبة للسفير الأمريكى ريتشاردوني، وتلخص الوثيقة من وجهة نظر السفير كيف أن مبارك كان حجر عثرة فى تنفيذ ما تراه أمريكا أجندة إصلاحية، ويرد فى الوثيقة بالنص: «لا يزال مبارك حليفاً إقليمياً لا غنى عنه لكنه يسير ببطء شديد فى تطبيق أجندة الإصلاح». وتفترض أيضا رسالة السفير الأمريكى أنه خلال السنوات القادمة سوف تبقى الحكومة ذات الطابع الاقتصادى فى الحكم لكنها سوف تمانع فى اتخاذ قرارات وخطوات مؤلمة كترشيد توزيع المساعدات الاجتماعية، وتفترض الوثيقة - ثالثا - أن الأجهزة الأمنية سوف تقاوم التغيير على قاعدة أنه عنوان لعدم الاستقرار وسيكون الجيش حجر عثرة أمام الإصلاح، انتهى. والآن نتوقف لنسأل: ما هى الإصلاحات التى كانت تريدها أمريكا وعملت فى مصر على الدفع بقوة تجاه تنفيذها خلال العقدين الأخيرين على الأقل واستطاعت أن تنفذ جزءاً منها وفشلت فى تنفيذ الأهم؟! نبدأ بما تطلق عليه أمريكا الإصلاحات الاقتصادية بينما فى الحقيقة هى المدخل الذى تسللت منه برامج التصميم الهيكلى التى يعممها البنك الدولى ويفرضها على الدول التى يريد الحد من سيطرتها على قدراتها الاقتصادية وفى هذا الصدد تم الضغط بشدة لأجل تنفيذ سياسات الخصخصة مع التركيز على بيع الدولة للشركات الاستراتيجية سواء الصناعية أو المالية مثل القطاع المصرفى وتحديدا بنوك القطاع العام. وليس مستغربا أن يربط الغرب ما بين هذا الإصلاح الاقتصادى الذى يروج له والانفتاح الإعلامى الذى وضعه فى نفس باقة ما أسماه الإصلاح الاقتصادى من خلال الضغط على الدولة للسماح بإنشاء القنوات الفضائية والصحف الخاصة وأن يتولى هذه المهمة رجال الأعمال الذين ارتبطت مصالحهم وأعمالهم بالغرب، مثل ساويرس وصلاح دياب وغيرهما ممن بنوا توجهاتهم الاقتصادية على عقيدة الرأسمالية وبنوا توجهاتهم الاجتماعية على الليبرالية، وعلى خلفية هذه التوجهات باعوا واشتروا وتشاركوا مع يهود أو إسرائيليين أو شركات مجهولة الهوية، وما سبق ينقلنا من مجال الاقتصاد إلى مجال السياسة الذى نشطت فيه أمريكا وأوروبا لإرساء نظام إقليمى شرق أوسطى جديد يتيح لإسرائيل أن تلعب دوراً رئيسياً فيه على حساب القوى الإقليمية التقليدية للمنطقة مثل مصر وإيران وتركيا والسعودية، وفى سعيها لإقرار هذا النظام عملت أمريكا وأوروبا على تحجيم دور مصر الإقليمى وإدخالها فى ذات الوقت فى دوامة من الصراعات مع القوى الإقليمية الاستراتيجية الأخرى بالمنطقة مثل إيران وتركيا وكذلك فعلت مع السعودية، وعلى محور آخر فقد أقنع الأمريكان الرئيس مبارك بأن الخطر الحقيقى على كرسيه يأتى من جانب الإسلاميين وتحديداً الإخوان، ونجحوا فى حشو رأسه بهاجس أن ثورة إسلامية إخوانية سوف تقتلعه من حكمه مثلما حدث مع شاه إيران، وهذا ما كشفت عنه وثيقة أمريكية أخرى صادرة أيضا عن السفارة الأمريكية فى القاهرة فى عهد سفيرتها مارجريت سكوبى ونشرتها صحيفة الجارديان البريطانية. -2- وفى الوقت الذى كانت فيه أمريكا تقنع مبارك بالاشتباك مع الإخوان والانشغال بهم وترسخ عداءه لإيران وتركيا وتناوش لخلق قطيعة وجفاء مع السعودية من خلال إظهار دورها السياسى كبديل لدور مصر، كانت (أمريكا) تربى نشطاءها من حركات الاحتجاج الشبابية المصرية وتغذيهم بالمعتقدات الليبرالية لخلق القاعدة الشعبية التى سوف تقود فى المستقبل القريب (بالنيابة عن الغرب) حركة التغيير وخاصة فى الجانب السياسى والاجتماعى والثقافى وتبنى مفاهيم تبدو إنسانية عامة وهى فى الحقيقة خبيثة مثل القبول بالآخر (اليهودى الإسرائيلى- البوذى- المثلى) أى آخر، وتجعل من هؤلاء الشباب نواة مجتمعية لخلق مجتمع مفتوح وغير محصن ضد الغزو الثقافى وقبول القيم التى لا تتوافق مع الهوية الدينية والقيمية للمجتمع المصري، وهذا ينقلنا لجانب آخر من جوانب الاختراق الذى خططت له أمريكا والغرب وهو الاختراق العقيدى. -3- وهو أخطر أنواع الهدم بدعوى الإصلاح دعت له أمريكا وسعت إليه وأنفقت من أجله ملايين الدولارات خلال السنوات التى تلت سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتى وتوجهت بعده المؤسسات ومعاهد الأبحاث والتمويل والشركات غير الربحية الغربية - وهى بحجم الجيوش - بعد أن هزمت العدو الشيوعى لتتفرغ لحرب الإسلام بكل الطرق والوسائل التقليدية وغير التقليدية.. لماذا؟! الإجابة المثالية عن السؤال صادرة أيضا عن وثيقة أمريكية هى تقرير مؤسسة «راند» الذى صدر منذ سنوات قليلة، وعلى الرغم من تداول هذا التقرير على مستوى محدود بين النخب فإن العامة لا يكادون يعرفون شيئا عنه، ولا عن المؤسسة التى أصدرته والتى أُنشئت فى بدايتها كمركز للبحوث الاستراتيجية لسلاح الجو الأمريكى قبل أن تتحول إلى مركز عام للدراسات يرفع تقاريره لصناع القرار، أما التقرير الذى صدر عن «راند» ووضعته الباحثة «شيرلى بينارد» فقد حمل عنوان: «الإسلام المدنى الديمقراطى.. الشركاء والموارد والاستراتيجيات»، وكما هو واضح من العنوان فهناك 3 وجوه يتناولها التقرير هى: الاستراتيجيات أى السياسات طويلة المدى التى يمكن من خلالها خلق إسلام يتوافق مع القيم الأمريكية التى يعدها الغرب قواعد عامة لسلوك يجب أن تتبناه شعوب الأرض لذلك يسميها التقرير قواعد السلوك الدولى، والوجه الثانى يتناول أوجه التمويل أو الموارد التى يتم من خلالها الإنفاق على تنفيذ الاستراتيجيات سابقة الذكر، ثم يأتى الوجه الثالث ليتناول الشركاء المحليين لتنفيذ هذه السياسات على أرض الواقع، وفى هذا الصدد هناك نوعان من الشركاء: النوع الأول وهم الباحثون وناشطو المجتمع المدنى الذين يقبلون تنفيذ مشاريع محددة توكل إليهم مقابل مبالغ مالية كبيرة نسبياً على سبيل التمويل، وكمثال على هذه المشاريع التى تبدو أنها اجتماعية بينما هى فى الحقيقة تتصادم مع الدين، مشاريع لتغيير الحدود الشرعية مثل الترويج لإلغاء عقوبة الإعدام أو تغيير شريعة المواريث وإلغاء تعدد الزوجات، فى نفس الوقت الذى تشجع فيه بعض المؤسسات مثل الأممالمتحدة على الزنا والإجهاض وحتى المثلية الجنسية باعتبارها حقوقا طبيعية للإنسان، ويمكن لأى أحد العودة للتأكد مما نقول بشأن هذه المشاريع الكثيرة التى تبناها ناشطو المجتمع المدنى خلال السنوات الأخيرة من الأرشيف الإلكترونى على الإنترنت، كما يمكن العودة للاطلاع على بعض القوانين التى تم تمريرها بدعوى إصلاح شأن المرأة والطفل وهى فى الحقيقة قوانين تدمر فى جانب منها الأسرة. أما النوع الثانى من شركاء الغرب فى هذا الشأن فيمثلهم رجال دين مزيفون (على الطريقة الأمريكية) وأبرز مثال على هذا النوع المدعو جمال البنا صاحب المنظومة المتهافتة عن الإسلام الليبرالى التى يخلط فيها - بدعوى التجديد- منهجا ربانيا ونصا مقدسا باجتهاد بشرى يجرى عليه الصواب والخطأ والتعديل والحذف والإضافة، وشخص مثل هذا لا بد أن يتلقفه الغرب ويعلى من شأنه وتتلقفه الفضائيات المستحدثة لتنشر فكره الشاذ وفتاويه التى ما أنزل الله بها من سلطان، مثل أن التدخين فى نهار رمضان لا يبطل الصوم وأن القبلة والمداعبة من اللمم وسوف يغفرها الله، وأخطر من هذا محاولته ابتداع إسلام بروتستانتى يلغى أو يرفض الجهاد باعتباره إرهاباً.. عقيدة تسلمك أنت ومالك وعرضك للعدو، وقريب من البنا هؤلاء الذين لغوا فى السنة الشفهية وهاجموا اجتهاد الإمام البخارى وهم لا يساوون ظفرا طائرا من أظافر قدمه.. فقد احتضن سعد الدين إبراهيم زعيم القرآنيين أحمد صبحى منصور، وفتح له أبواب مركز ابن خلدون ينشر من خلاله سموم دعوته ضد السنة الشفهية، ومن بعد سعد الدين إبراهيم احتضنت أمريكا صبحى منصور وأولاده ومنحتهم الجنسية ووظفت ابنه شريف بآلاف الدولارات فى مؤسسة «فريدوم هاوس» هذه المؤسسة التى تولت تدريب جماعة 6أبريل فى إحدى الدول الاشتراكية السابقة التى رعت فيها من قبل ثورة ليبرالية قامت بها جماعة «إيبور». والآن هل ترون أن هذه الشبكة المترابطة الأطراف المصنوعة من الوكلاء والعملاء والموتورين والمغامرين هى محض صدفة؟ أو أن الإصلاح المزعوم الذى ترعاه أمريكا وتتولى وكالته عن الغرب يهدف بالفعل للخير والحرية والديمقراطية؟! هذا مجرد جزء من كل وما خفى كان أعظم. - 4- .. وأخيراً لعلى أجبت فى السطور السابقة عن سؤال وجهه لى زميل آخر وأقول له يمكنك الآن أن تبدأ فى وضع قائمة لعملاء ووكلاء الإمبريالية الأمريكية فى مصر وليكن هذا الكلام مجرد بداية لكشف الباقين.