احترت واحتار دليلى فى فهم المواقف الأمريكية تجاه الأحداث العالمية عامة وأحداث منطقتنا بصفة خاصة، لكن الشىء الواضح بلا أدنى شك هو أن السياسة الأمريكية تحركها المصالح أولا وأخيراً ولا تحركها الجوانب الإنسانية لأى شعب من الشعوب رغم أهميتها، وإن كانت تستخدم هذه الجوانب أحياناً كغطاء فقط لإخفاء نواياها الحقيقية. انظروا مثلاً إلى الفيتو الأمريكى الأخير والذى حال دون صدور قرار مجلس الأمن الذى يدين الاستيطان الإسرائيلى فى المناطق المحتلة ويعتبره عقبة فى وجه استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الفيتو الذى جعل صحفياً إسرائيلياً يهزأ منه فى مقال له بصحيفة هآرتس، ويقول إن الرئيس الأمريكى باراك أوباما انضم به إلى حزب الليكود اليمينى المتشدد الحاكم فى إسرائيل. وانظروا إلى موقفها من الحرب على لبنان 2006 وعلى غزة 2008 لكى تدركوا معنى الكيل بمكيالين فى السياسة الأمريكية. والمتابع للموقف الأمريكى من الثورات العربية سواء فى تونس أو مصر يتعجب من سر الارتياح الأمريكى لثورة مصر، والارتباك الأمريكى إزاء ثورات تونس وليبيا واليمن ومنطقة الخليج العربى، خاصة وأن الولاياتالمتحدة لم تظهر نفس الاهتمام بثورة تونس وهى الشرارة التى فجّرت الثورات الشعبية فى المنطقة العربية. صحيح أن تونس لم تكن يوماً تمثل نفس الأهمية السياسية والاستراتيجية للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، وإن كانت محوراً مهماً فى شمال أفريقيا للحرب على الإرهاب ولضرب معاقل الحركة الإسلامية بالتعاون مع المخابرات الأمريكية. لكن رغم ذلك ورغم الخدمات الجليلة التى قدمها نظام بن على يبقى الدور التونسى أقل أهمية إذا ما قورن بنظام حسنى مبارك الذى يعتبر رمانة الميزان فى الشرق الأوسط، لكون مصر أكبر دولة عربية ولها وزنها وثقلها السياسى والاقتصادى والدبلوماسى. أما الموقف الأمريكى تجاه الثورة الليبية فقد كان مختلفاً بشكل كبير، ذلك لأن تحول الثورة الشعبية الليبية من سلمية إلى ثورة مسلحة وسرعة تطور الأحداث على الأرض بما فى ذلك ارتفاع حصيلة القتلى والجرحى زاد من حجم الارتباك الأمريكى والأوروبى إزاء ذلك الوضع الخاص الذى يختلف اختلافاً جذرياً عن ثورتى مصر وتونس السلميتين. فى الأسبوع الأول صمتت أمريكا وأوروبا صمتاً كاملاً لإتاحة الفرصة أمام القذافى لقمع الثورة بكل ما أوتى من قوة، الأمر الذى دفع محللين كثيرين إلى الحديث عن صفقة تمت بين القذافى والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبى مفادها أن يستجيب هو لكل المطلوب من أمريكا، وهذا ما فعله ابتداء من عام 2003 بما فى ذلك القيام بدور نشط فى دعم انفصال جنوب السودان والتمهيد لانفصال دارفور، وفى المقابل تعهدت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبى بعدم التعرض له بل ودعم نظامه. وهناك ثمة سبب آخر للصمت الأمريكى فى البداية يتمثل فى مخاوف أمريكية من البديل فى حال رحيل نظام القذافى. وهذه المخاوف نابعة من تجربة الولاياتالمتحدة مع تنظيم القاعدة وأفغانستان فى السابق، فهى تخشى من تكرار خطأ تسليحها لثورة شعبية هلامية غير محددة الملامح والقيادات، وربما أخطأ ثوار ليبيا حينما أعلنوا عن استيلائهم على مخازن أسلحة تابعة لنظام القذافى، وهو ما أفقدهم ميزة أن تبقى ثورتهم سلمية ولو لفترة وجيزة. لكن عندما تحررت بنغازى وبدأت تلحق بها مدن أخرى وأصبح القذافى آيلاً للسقوط، بدأت أمريكا تتحدث عن احترام إرادة الشعوب انتظاراً لما قد تسفر عنه التطورات الداخلية. غير أن المصالح الخاصة فى نفس الوقت بدأت تبرز بين أمريكا وأوروبا من ناحية، وبين نظام القذافى من ناحية أخرى، فالمواقف الأمريكية والأوروبية محكومة بالتزامات تجارية واقتصادية ومالية وصفقات ضخمة متبادلة تمت بين نظام القذافى وحكومات الولاياتالمتحدة وأوروبا بعد احتلال العراق عام 2003، ذلك لأن ليبيا دخلت منذ ذلك الوقت فى تحالف غير معلن مع أوروبا وأمريكا منذ أن سلمت كل ما تملكه من مشروع البرنامج النووى للغرب، مقابل إخراجها من قفص الاتهام كدولة «إرهابية» أو «راعية للإرهاب»، وضمان الحفاظ على نظام القذافى وحمايته من أى تدخل عسكرى أو مؤامرات تحاك للإطاحة به، مثلما أطاحوا بنظام صدام حسين، بالإضافة إلى توقيع عشرات الصفقات التجارية والنفطية التى منحت الأفضلية لتلك الدول. وعندما أقدم القذافى رغم عزلته وضعفه، على التحدى وأخذ يذبح فى أبناء شعبه، بدأ الموقف الأمريكى فى التحرك ضده ممثلاً فى قرار من مجلس الأمن وحديث عن المقاطعة وتجميد الأموال، ثم أخذ يتصاعد بتحريك المحكمة الجنائية الدولية عن طريق لويس أوكامبو الذى اتهم القذافى وأولاده ومعاونيه بارتكاب جرائم حرب. وتزامن ذلك كله مع قرار جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجى بدعم دولى لفرض حظر الطيران فى الأجواء الليبية، وهو ما أعطى تفويضاً عربياً رسمياً بفرض حظر الطيران، الأمر الذى مهد بالطبع لصدور قرار مجلس الأمن 1973 استناداً إلى البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وبناء عليه بدأت العملية العسكرية (فجر أوديسا) ضد قوات القذافى بمشاركة الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وكندا والنرويج ودول أخرى من بينها دولة قطر. وعندما نحاول قراءة تداعيات المشهد الليبى الآن وردود الأفعال الأمريكية والأوروبية يتم على الفور استحضار سيناريو تدمير وتفتيت وحدة العراق، ذلك لأن التجربة التاريخية الحية والملموسة تفرض نفسها هنا قسراً فى مجال المقارنة، بعد أن تكشف حجم الكذب والنفاق الدولى الذى مارسته واشنطن والدول الأوروبية الحليفة فى تبرير الحرب على العراق. ولعل مشهد تأمين قوات الغزو الأمريكية لوزارة النفط والمنشآت النفطية العراقية، وترك كل ماعدا ذلك للفوضى والنهب، لدليل دامغ على أن النفط هو كلمة السر وراء غزو واحتلال وتفتيت العراق، بعد أن تأكد أن إدارتى بوش وبلير هما من صنعا بالتزوير والكذب مبررات الغزو. وهو السيناريو الذى كان قد بدأ قبل ذلك بمناطق الحظر الجوى أيضاً وانتهى بالتدخل المباشر فى العراق عام 2003 والسيطرة على منابع النفط هناك وإشغال العراقيين بالتنازع، حيث غابت المواطنة وحضرت الطائفة والمذهب والإثنية. وفى ضوء ذلك، لا نملك أن نقرأ الموقف الأمريكى والأوروبى مما يجرى فى ليبيا إلا فى إطار نفس السيناريو الذى شهدته بغداد منذ ثمانى سنوات، فالمصلحة لاغير التى تحرك المواقف الأمريكية والأوروبية. وتتردد معلومات بأن حلف الناتو الذى يتولى إدارة العمليات العسكرية فى المرحلة القادمة يجهز سيناريو لاحتلال ليبيا على غرار احتلال صربيا واحتلال أمريكا للعراق وأفغانستان بذريعة حماية السكان المدنيين الليبيين وحماية الأمن الإقليمى والدولى فى منطقة جنوب المتوسط وحماية المصالح الأمريكية والأوروبية. ورغم تعاطفنا الشديد مع ثوار ليبيا فى مواجهة الدكتاتور القذافى إلا أننا لا ننخدع بدموع التماسيح الأمريكية والأوروبية، ذلك لأن كل ما يريده هذا الغرب المنافق واللاإنسانى هو النفط الليبى، لأن ببساطة كان ولايزال هو النفط العربى الوحيد الخارج عن السيطرة المباشرة لواشنطن، وشركاتها العابرة للقارات. إن واشنطن مثلها مثل باريس وروما، لا يشغلها سوى الوصول إلى النفط بأى ثمن حتى وإن كان دماء الشعب الليبى هى التى تهدر، ولوبى النفط العالمى (الأمريكى والبريطانى والفرنسى والإيطالى) يلعب بليبيا ويلعب فيها ويريد إغراقها فى الدماء ليصل عبرها إلى آبار النفط. وقد كشفت وثائق ويكيليكس عن مخطط شركات (إينى الإيطالية) و(جيه إكس نيبون) أكبر شركة تكرير يابانية وشركة (شل) العالمية التى تعمل فى ليبيا وتستهدف السيطرة على النفط وذلك لأنها تعلم أن ليبيا تنتج مليوناً و800 ألف برميل وأن احتياطيها يبلغ 48 مليار برميل أغلبها غير مستكشف، ويرجح البعض من خبراء النفط أن الكمية تصل إلى أضعاف هذا الرقم، وهذه الشركات ودولها الكبرى تعلم بطبيعة الحال أن ال