بصفة عامة يمكن اعتبار الخطاب الذى ألقاه الرئيس مبارك أمام الجلسة المشتركة لمجلسى الشعب والشورى، بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة.. أفضل مشروع لمستقبل مصر.. عرفته مصر. وبصفة عامة يمثل هذا الخطاب رؤية واضحة يمكن اعتبارها - دون مبالغة - خريطة طريق جديدة تضمن لمصر الوصول إلى بر الأمان. ثم إن الخطاب فى مجمله يعكس الإصرار الرئاسى على الوفاء بكل ما قطعه الرئيس على نفسه من وعود وعهود خلال السنوات الخمس الأخيرة.. الرؤية واضحة والنوايا صادقة والعزيمة حديد.. ولا يبقى إلا التنفيذ.. لا يبقى إلا أن تتحول الكلمات إلى أفعال ويتحول الخيال إلى واقع والحلم إلى حقيقة.. وليس أسهل من هذه المهمة.. وليس أصعب منها أيضاً!.. المهمة سهلة وصعبة.. عبارة تبدو متناقضة مع نفسها.. فكيف تكون سهلة وفى نفس الوقت صعبة؟!.. غير أن الحقيقة أنها أبعد ما تكون عن التناقض.. فالمهمة سهلة إذا كان هناك اتفاق وتوافق وانسجام بين الحكومة والبرلمان وكل أجهزة الدولة ومؤسساتها لتحقيق رؤية الرئيس واتباع خريطة الطريق التى رسم ملامحها.. والمهمة صعبة وقد تكون مستحيلة لو أن أداء الحكومة والبرلمان وكل أجهزة الدولة جاء دون المستوى.. وعلى عاتقنا جميعا تقع مسئولية الاختيار!.. وقد نختلف أو نتفق حول قدرة الحكومة والبرلمان وباقى أجهزة ومؤسسات الدولة على تنفيذ مشروع الرئيس مبارك ورؤيته.. لكن لا أظن أن هناك أية مساحة للخلاف والاختلاف حول المشروع نفسه.. الذى وصفته بأنه أفضل مشروع لمستقبل مصر عرفته مصر.. فى الجانب الاقتصادى تحدث الرئيس مبارك فى خطابه أو مشروعه عن إعادة صياغة دور الدولة فيما يتعلق بالنشاط الاقتصادى فقال إن دور الدولة يجب أن يتركز فى تنظيم النشاط الاقتصادى والعمل على تحفيز الاستثمار.. الرئيس هنا يرسم بدقة دور الدولة وهدفها.. تنظيم وتحفيز النشاط الاقتصادى وهو ما يعنى فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص لقيادة النشاط الاقتصادى.. غير أن ذلك لا ينفى أن تبذل الدولة قصارى جهدها للاستفادة من الأصول المملوكة لها.. ولذلك يقول الرئيس فى خطابه إن الدولة عليها أن تدير الأصول المملوكة لها لضمان تحقيق أقصى استفادة.. النشاط الاقتصادى الذى يتحدث عنه الرئيس له هدف وقد تحدث الرئيس مبارك فى خطابه عن هذا الهدف فقال: أولوياتنا القصوى محاصرة البطالة وإتاحة المزيد من فرص العمل.. الرئيس بحسه الوطنى يدرك أن غول البطالة يفترس الشباب وأن محاصرة البطالة والقضاء عليها مسألة تحتاج إلى مشروعات واستثمارات.. ولذلك ركّز الرئيس مبارك على مسألة تعظيم النشاط الاقتصادى ووضع الأسس التى تنظم بها الدولة هذا النشاط الاقتصادى.. وفى نفس الإطار نجد الرئيس مبارك يتحدث فى خطابه عن قضية المياه الجوفية التى يدرك الرئيس أن تعظيم إنتاجنا الزراعى يعتمد عليها.. خاصة أن فرص زيادة حصتنا من مياه النيل محدودة.. ولذلك يشير الرئيس إلى أهمية حماية وتعزيز استخدامات المياه الجوفية للحفاظ عليها وعدم إساءة استخدامها.. النشاط الاقتصادى مرتبط أيضاً بالطاقة وقد أطلق من قبل الرئيس مبارك مشروع الطاقة النووية السلمية كخيار استراتيجى لمصر.. وفى هذا الإطار أشار الرئيس إلى انتهائنا من الدراسات الفنية لبناء 4 محطات نووية لتوليد الكهرباء.. ولم يفت الرئيس الإشارة إلى أن موقع إحدى هذه المحطات هو منطقة الضبعة التى ثارت الأقاويل حولها وانطلقت الشائعات.. ولذلك علّق الرئيس على هذه المسألة بأنه يجب ألا نلتقت للشائعات.. الرئيس فى خطابه لخّص تكليفه للحكومة فى معادلة رقمية.. معدل نمو فى العام المقبل يصل إلى 6% وخلال السنوات الخمس المقبلة يصل إلى 8%.. وكما لخّص الرئيس مبارك تكليفه للحكومة فى معادلة لتعظيم النشاط الاقتصادى والاستفادة منه.. يلخص تكليفه للبرلمان فى معادلة أخرى.. تطوير عدد من القوانين لتعزيز مناخ الاستثمار.. وكما تضمن مشروع الرئيس مبارك ورؤيته الجانب الاقتصادى.. تضمن أيضاً الجانب الاجتماعى.. *** تحدث الرئيس فى خطابه عن مشروع التأمين الصحى الذى وصفه بأنه واحد من أهم المشاريع بالدورة البرلمانية الجديدة.. فقال إنه يأمل أن يبلور البرلمان مشروع قانون لتوسيع مظلة التأمين الصحى لتغطى ملايين الأسر ولرعاية غير القادرين.. الرئيس فى الحقيقة أبدى اهتماماً كبيراً بالبُعد الاجتماعى فقال: إن مصر تبدأ مرحلة النمو الاقتصادى.. وكذلك العدالة الاجتماعية.. وفى هذا الإطار طلب الرئيس التركيز على مشاريع القوانين التى تحقق العدالة الاجتماعية.. وكأن الرئيس بعد ذلك قد حرص على أن تكتمل الرؤية التى يطرحها فتحدث عن ضرورة وأهمية استكمال توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وتنفيذ أجندة الإصلاح بجميع محاورها.. وعن توسيع اللامركزية وتطوير الإطار التشريعى الحاكم للإدارة المحلية وإعادة توزيع الاختصاصات.. كما تحدث عن تنظيم استغلال أراضى الدولة لحمايتها من التعديات ومواجهة الفساد.. وعن قضية تطوير التعليم وخاصة التعليم الفنى.. الرئيس مبارك فى الحقيقة كان يتحدث فى خطابه عن معنى واسع وشامل.. إرساء دعائم الدولة المدنية الحديثة.. هذا هو المعنى والمقصد.. وهذا هو الهدف.. وهذه هى المهمة التى قلت عنها فى البداية.. إما أن تكون سهلة أو صعبة ومستحيلة.. ومسئوليتنا أن نختار!.. *** تستطيع الحكومة وتستطيع كل أجهزة الدولة ومؤسساتها أن تجعل المهمة سهلة بوضع حلول حقيقية لمشاكل الجماهير.. وهو ما يتطلب مواجهة شجاعة مع المشاكل الجماهيرية الضخمة.. البطالة والإسكان والصحة والتعليم.. الإصلاح الاقتصادى - على سبيل المثال - الذى قطعت فيه الحكومة شوطاً طويلاً لا يكفى.. لابد من إصلاح إدارى.. ثم إن اقتصادنا - على سبيل المثال أيضاً - تحسن بدرجة ملحوظة.. لا أبالغ لو قلت إنها مذهلة.. لكن الغالبية العظمى لا تشعر بآثار هذا التحسن؛ لأن الحكومة لم تنجح حتى الآن فى توزيع عوائد هذا التحسن بالعدالة المطلوبة.. المطلوب من الحكومة خطط جادة وتنفيذ سريع ودقيق ومتابعة مستمرة.. والأهم إرادة حقيقية لاقتحام المشاكل الجماهيرية.. ونأتى لدور البرلمان.. والحقيقة أن الرئيس تحدث عن هذا الدور لأهميته وقال: إنه يتطلع إلى أداء برلمانى رفيع يتوخى مصلحة الشعب ويطرح حلولاً خلاّقة.. كما يتطلع إلى تفاعل نواب الشعب مع قضايا الوطن والمواطنين.. فإذا تأملنا كلمات الرئيس نجدها بمثابة الدستور الذى يضمن للبرلمان أن يؤدى دوره كما هو مطلوب منه.. دور البرلمان بالدرجة الأولى التشريع والرقابة.. تشريع القوانين ورقابة الحكومة.. وقد أبدى كثيرون تخوفهم من أن يتراجع دور البرلمان فى التشريع والرقابة؛ لأن الحزب الوطنى يحظى بالأغلبية الساحقة داخل البرلمان.. ومن ثم فإن الحكومة ستضمن تمرير ما يتراءى لها من تشريعات وتتجنب المحاسبة.. فهى حكومة الحزب.. ومن غير المنطقى أن يعارضها نواب الحزب داخل البرلمان!.. ولعل ذلك هو التحدى الحقيقى الذى يواجهه نواب البرلمان وخاصة من أعضاء الحزب الوطنى.. فليس مطلوباً منهم أن يتناسوا دورهم ورسالتهم لمجرد أنهم الأغلبية.. وإنما عليهم أن يضعوا المصلحة العامة فوق أى اعتبار.. المعارضة ليست هدفا ولكنها وسيلة.. لأن اختلاف الآراء وسيلة لتحقيق الهدف.. والمطلوب أن يحظى كل تشريع جديد يناقشه البرلمان بآراء مختلفة تنير الطريق وتفتح الباب على مصراعيه أمام كل الأفكار والحلول الخلاّقة.. بتعبير الرئيس مبارك.. وإذا كانت الأغلبية الساحقة داخل البرلمان تنتمى للحزب الوطنى.. وإذا كانت المعارضة غائبة سواء من ناحية الكم أو الكيف.. فالمطلوب أن تكون هناك معارضة بمعناها السليم.. تناقش بموضوعية وتتصدى للقضايا بموضوعية.. وتنحاز للموضوعية.. حتى لو كان ذلك ضد انتمائها الحزبى!.. *** خطاب الرئيس كما قلت فى البداية يمثل مشروعا ورؤية يقودان مصر إلى أفضل مستقبل عرفته.. لكن المشروع والرؤية يحتاجان إلى أن يتحولا إلى واقع على أرض الواقع.. وهذه مسئوليتنا، فالرئيس لن ينفذ المشروع ويحقق الرؤية.. ليست هذه مسئوليته.. لكنها مسئولية الحكومة وكل أجهزة ومؤسسات الدولة والبرلمان.. ومصر تستحق أن يتحمل الجميع مسئوليتهم!.