شاءت الأقدار أن يكون يوم مولده ويوم رحيله فى الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر، والفارق بينهما ثلاثة أيام فقط، وما بين الميلاد والرحيل بعدد السنين تسعة وستين عاماً، حيث ولد فى التاسع والعشرين من أكتوبر 1918 ورحل عن عالمنا فى السادس والعشرين من نفس الشهر 1987.. ذلك هو المهندس وعالم الآثار والفنان التشكيلى والسيناريست والروائى والكاتب الصحفى الكبير كمال الملاخ وقبلهم جميعاً الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمات من معانى.. أقول ذلك من منطلق علاقتى به، تلك العلاقة بين الأستاذ والتلميذ والأب الروحى والابن العارف بفضله والتى بدأت فى النصف الثانى من سبعينات القرن الماضى، حين كلفنى أستاذنا أنيس منصور مؤسس مجلة أكتوبر بتغطية فعاليات الدورة الأولى لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى والذى قام بتأسيسه كمال الملاخ ليصبح للقاهرة هوليوود الشرق الأوسط مهرجانا دوليا يحمل اسمها لما تحتله من مكانة رائدة فى الإنتاج السينمائى. ورغم حداثة تجربتى آنذاك فى العمل الصحفى إلا أننى وجدت فى هذا الإنسان النبيل رقيق المشاعر كل رعاية وتشجيع فى تقديره لمحاولاتى المبكرة فى التغطية الصحفية رغم تواضعها إذا ما قيست بخبرة السنين، ومن هنا كانت مكانة الكاتب الكبير فى نفسى والتى استوجبت منى عرفانا له حتى نهاية العمر. ورغم ما يحمله كمل الملاخ من ملكات خلاقة جعلها طوال حياته رهنا لكل ما هو جليل من أعمال استهدفت إبراز وجه مصر الحضارى والعمل الدائم لرفعتها إلا أنه لم يلق ما يستحقه من تقدير هو جدير به كنموذج للمواطن المصرى المحب لوطنه لدرجة العشق.. وذلك يتضح جلياً من مرور ذكرى مولده وذكرى رحيله فى الأسبوع الأخير من الشهر الماضى دون إحياء لهما فى الوقت الذى يحتفى بمن هم دونه فى المكانة والأقل منه عطاء يتكافأ وعظمة ما قدمه الملاخ لمصر منذ تخرجه فى كلية الفنون الجميلة 1934 والتحاقه بكلية الضباط الاحتياط ليدفع ضريبة الوطن مدافعا عن ترابه خلال مدة خدمته بالقوات المسلحة، ثم دراسته للآثار المصرية القديمة والتى صادفت هوى فى نفسه ليحصل على الماجستير فى التاريخ الفرعونى بأطروحة غير مسبوقة وهى فقه اللغة المصرية القديمة والتى انطلق منها لمحطة فارقة فى حياته وهى اكتشافه المذهل لمراكب الشمس فى 26 مايو 1954 وإخراجها إلى النور بعد أن ظلت فى باطن الأرض لآلاف السنين منذ أنشأها الملك خوفو لتصبح بعد ذلك مثار بحث دائم من الدوريات المهتمة بالآثار الفرعونية وهنا تصدرت صورة الملاخ أغلفة كبريات المجلات العالمية مثل التايم وغيرها والتى أصدرت كتابا موثقا لهذه الاكتشافات المهمة بعنوان «مراكب خوفو.. حقائق لا أكاذيب» ثم بدأ الملاخ مشواره الصحفى فى أخبار اليوم كرئيس للقسم الفنى وكرسام موهوب ترفق رسوماته بمقالات كبار الكتاب كالعقاد وسلامة موسى ومحمد التابعى ومحمد زكى عبد القادر وكامل الشناوى ومحمد حسنين هيكل الذى أعجب بالملاخ إعجابا كبيرا جعله يحرص على اصطحابه حين انتقل هيكل إلى الأهرام تاركا أخبار اليوم، وذلك فى النصف الثانى من خمسينات القرن الماضى ليظل الملاخ بها وحتى وفاته بعد أن أرسى بأسلوبه المميز سياسة تحريرية مبتكرة ومستحدثة للتحرير بأقسام الفنون.. وخلال مسيرته فى الأهرام قام الملاخ بتأسيس مهرجان القاهرة السينمائى الدولى ولم تمض سنوات قليلة حتى كان للإسكندرية هى الأخرى مهرجانها الدولى لسينما دول البحر المتوسط وتقيم المهرجانين الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما برئاسة الملاخ وبمجهوده الذاتى دون أن يحمل الدولة أى أعباء مالية وبقناعة منه بأن ما يفعله هو واجب قومى حيال وطنه مصر التى أحبها وأخلص لها. وقد نال الملاخ فى مسيرته تكريم الدولة فى أكثر من مجال، حيث منحه الرئيس عبد الناصر وساما رفيع المستوى لاكتشافه مراكب الشمس كما منحه الرئيس السادات جائزة الدولة التشجيعية وقبل وفاته بسنوات قليلة منحه الرئيس مبارك جائزة الدولة التقديرية التى كانت تتويجاً لمسيرته التى تنوعت بمختلف الأنشطة الإبداعية ما بين الآثار والفن والثقافة والآداب والتى ازدحمت بمؤلفاته القيمة ومنها «خمسون سنة من الفن» و«حكايات صيف» و«صالون من ورق» و«أغاخان» و«قاهر الظلام» فى أدب السيرة الذاتية عن عميد الأدب العربى طه حسين ومعظم مؤلفاته تعتبر بحق كمراجع لمن شاء من الباحثين فى هذه المجالات المتباينة والتى اجتمعت فى هذا المبدع الراحل. واعتقد أن سيرة كمال الملاخ بحاجة لمزيد من البحث والدراسة لتعرف الأجيال الراهنة والقادمة قيمة وفضل هذا المصرى البارع وحياته التى كانت فى مجملها تواصلا بين حاضر يتطلع إلى الازدهار والتنمية وماض عريق يشهد بعظمة مصر عبر آلاف السنين.. رحم الله كمال الملاخ ذلك النموذج الإنسانى المشرف.