في صيف 2012، صدرت رواية، في باريس، بعنوان «ما حصل لهاري كيبار» عن دار نشر صغيرة تُسمى «دو فالوا»، نسبة لاسم مؤسسها برنار دو فالوا، وهي دار حديثة النشأة، لم يتجاوز عمرها العقد الثالث، واختصت، إلى غاية ذلك العام، في نشر كتب أكاديمية، نوعية، لكنها ليست ذات رواج، ويقول صاحبها: «يهمني أن أنشر كتب أصدقاء أثق فيهم، وأن أحافظ على استقلالية الدار». لذلك عندما صدرت تلك الرواية، لشاب سويسري، يُدعى جويل ديكار (من مواليد 1985) كان مجهولا في المكتبات وبين القراء، لم يتوقع لها أكثر المتفائلين، مصيرا عاديا، أن تُباع منها بضعة آلاف من النسخ لأكثر، ولاسيما بسبب حجمها الكبير (700 صفحة)، وبسبب تزامن صدورها مع بداية الموسم الأدبي الفرنسي، الذي يتنافس فيه، في الغالب، كتاب مكرسون، ولا نصيب فيه للقادمين الجدد. لكن تلك الدار الصغيرة، وذلك الكاتب اليافع، الذي يقضي وقته بين الكتابة وقيادة الدراجة على المسافات الطويلة، كسرا جدار التوقعات، فللأدب سحر آخر، ودخلت الرواية ترشيحات أهم جوائز الموسم؛ خسرت الغونكور بفارق صوتين فقط، ونالت في الأخير جائزة الأكاديمية الفرنسية، وليس هذا فقط، فقد بيع منها، في العام الأول، قرابة المليون نسخة، والآن تجاوزت الستة ملايين نسخة. هكذا تحولت رواية «ما حصل لهاري كيبار»، التي تبحث عن قاتل المراهقة نولا كيلرغان، في جريمة اتهم فيها شخص اسمه هاري كيبار قبل أن يخرج منها بريئا، إلى ظاهرة أدبية جديدة، ليس في فرنسا فقط، بل خارجها أيضا. هذا العام، أصدر جويل ديكار روايته الرابعة، بعنوان «اختفاء ستيفاني ميلر»، ولم يتزحزح من مكانته ضمن أعلى المبيعات، وأعادنا إلى سؤال كلاسيكي، في كل مرة تتغير الإجابة عليه: من يصنع «البيست سيلر»؟ وكيف؟ من المعروف أن أفيش الرواية الفرنسية، وأعلى المبيعات، يقتسمها اثنان: غيوم ميسو ومارك ليفي، وتلتحق بهما البلجيكية أميلي نوتومب، في الخريف، مع كل إصدار جديد لها، تتصدر لشهر واحد أو شهرين، ثم تعود إلى سباتها، إلى الخريف الموالي، إلى أن جاء جويل ديكار، وقسم تلك الثنائية، التي استمرت طويلا. من قراءة الروايات الأربع، التي أصدرها ديكار (مع العلم أنه يقول بأنه كتب غيرها لكنه لم ينشرها)، يُمكن أن نخرج ببعض الخلاصات، أهمها أنه لم يسقط في الوصفات القديمة، ولم يهتم بكتابة رواية «جماهيرية»، تتجه إلى الطبقات الاجتماعية الوسطى، أو تلك التي تحاول اللعب على المشاعر، وكسب ود القراء، فرواياته من نوع آخر، شخصوها، في الغالب، من أعمار شبابية، تشبه كاتبها، كما إنها من طبقات بورجوازية، يعيشون حياة هانئة، في ديكور كله أمريكي، ولا شيء للوهلة الأولى يوحي بأنهم مؤهلون لخوض تجارب استثنائية. ثم إن هناك ثيمات تتكرر: من بينها السلطة، العنف، تجارب حب فاشلة، وتجنب مقصود للدين، وكل المعتقدات، هي روايات خالية من الدين، ومن الروحانيات. وحين نالت روايته «ما حصل لهاري كيبار» جائزة الأكاديمية الفرنسية، طرأ السؤال: كيف تُمنح جائزة، لها قيمتها النقدية، لرواية تُراهن على القصة، وتلغي الأسلوب؟ وهذه من العلامات، التي لا ينفيها الكاتب عن نفسه، ففي كل رواياته، الأسلوب هو الغائب الأكبر، لا يهتم أيضا بالبحث عن لغة له أو مفردات، بل يكتب نصوصا نهرية، بلغة عادية، كما لو أنه بصدد رسالة، أو تقرير عادي. وبينما روايات «البيست سيلر»، التي تعودنا عليها، تنتهي، في العموم، بنهايات سعيدة، ضاحكة، فإن روايات ديكار تأخذ اتجاها آخر، في كل واحد من نصوصه، تتناوب الشخصيات في الاختفاء، تسقط موتا أو قتلا، ونهاياتها دائما درامية، لا ينجو منها سوى اثنتين أو ثلاث شخصيات، من الشخصيات التي بدأ منها القصة. إن الخطوة الأولى في مشروع رواية ناجحة، ولكي تصل إلى عتبة الأكثر مبيعا، هو قدرتها على حشد الميديا، ووسائل الإعلام الثقيلة حولها، وكسب مقالات محفزة عليها، في المطبوعات الورقية، وهذا الأمر لم يحصل مع جويل ديكار، فحين صدرت «ما حصل لهاري كيبار»، كان لحظتها كاتبا مغمورا، من دار نشر لا تاريخ لها، في النجاحات، لكنها لعبت على ورقة أخرى، لم تخض في البحث عن البروباغندا، وإنما ركزت على توزيع جيد وواسع للكتاب، وحتى عندما بلغ ترشيحات الجوائز الأساسية، بدأت بعض الشاشات تهتم بحاله، لكن ليس بالشكل الذي تستحقه رواية ستُباع منها ستة ملايين نسخة، وجاء المنعطف الأهم، بعد الإعلان عن اقتباسها، في سلسلة تلفزيونية، أخرجها جان جاك آنو، عمل عليها، في السنوات الأربع الماضية، ولم تصل إلى المشاهد، سوى الربيع الماضي. لكن منذ أن صرح المخرج بمشروعه، دخل الروائي الشاب حياة ثانية، فالسينما أو التلفزيون، يرفعان منطقيا من رواج أي كتاب. وقد كتب ديكار في روايته الثالثة «كتاب بالتيمور»، على لسان واحد من الشخصيات: «السينما هي الملجأ الأخير، لا شيء يحفظ الأدب من التلف أكثر من تحوله إلى الشاشة». كما لو أن نجاحاته، في الأوساط النقدية، وارتفاع أسهم مبيعاته، ليس كافيا، ويفكر رغم حداثة سنه من الآن في الخلود، وكونه يعيش في مجتمع غربي متحول، وغير قابل للثبات، فهو يرى أبعد مما يرى كتاب آخرون، يُريد أن يسمع عنه أو يقرأ له كل شخص، وليس فقط كل قارئ، ومن لم يصله نبأ جويل ديكار، من المكتبات أو المطبوعات، سيصله على الشاشات وعلى ملصقات الأفلام. جويل ديكار، الذي دخل، من فترة قريبة، الثانية والثلاثين من عمره، حقق نجاحات متوالية، مع كل واحدة من الروايات التي يصدرها، أعاد تعريف «البيست سيلر»، ألغى قوانين سابقة، وأضاف أخرى جديدة، ومحى خصوصا فكرة الميديا في صناعة النجوم، فهو الوحيد، على خلاف الكتاب الآخرين المشهورين، الذي لا يظهر في المجلات الصفراء، ولا يبالي بنشر صور أو حكايات من حياته الشخصية، التي يتكتم عليها كثيرا، ولا نعرف منها شيئا، وأكثر شيء يؤرقه الآن، «ماذا سأكتب؟»، يقول، فبعد كل كتاب يشعر بأنه أفرغ كل ما يملك. أما من جهتنا، كقراء فنتسأل: ما هي مدة حياة البيست سيلر؟ وهل تستطيع الكتب الأكثر مبيعا أن تنوب، يوما، عن الكلاسيكيات، التي حين صدرت لم يُبع منها سوى بضع مئات؟