تاريخ الجزائر كاد أن يضيع مرتين: أولاً، بعد أن احتكرت فرنسا أرشيف ثورة التحرير وما سبقها، وانتظر القراء والمهتمون عقوداً قبل الإفراج عن بعض الوثائق المهمة، وكشف جزء محدود من الحقيقة، ثم حين احتكرت السلطة حق الكلام عما حدث، في تسعينيات القرن الماضي، من أحداث دامية، تعددت تسمياتها، من «حرب أهلية» إلى «مأساة وطنية»، أقرت قانوناً يمنع العودة إليها، ومنعت المختصين من الخوض في الموضوع، وانتظر القراء ظهور جيل جديد من الكتاب، من قصاصين وروائيين، عاشوا تلك الحقبة، وتحملوا فظاعتها، بأجسادهم وعقولهم، لينشروا لاحقاً شهاداتهم، بشكل نصوص أدبية. وسيلة سناني، واحدة من الروائيين الجدد، كتبت في باكورتها «المغارة الثانية» (دار فضاءات عمان 2017)، عن الوجه الأنثوي للحرب، عن الاغتصابات الفردية والجماعية، التي تعرض لها البلد، عن ذاكرة الجزائري المثقوبة، عن العدالة المغيبة، وعن مجرمي الحرب الذين صاروا اليوم أسيادًا. يبدو أن وسيلة سناني كانت تشعر بثقل التاريخ، وهي تكتب روايتها الأولى، كانت تتقمص أدوار شخصياتها، تسكن أرواح الموتى وتنفخ الروح فيهم، لتحكي عن المسكوت عنه، وهي القادمة من منطقة شرق البلاد، كان البعض يُطلق عليها اسم «كابل شمال إفريقيا»، كانت تُحاور الجلادين والضحايا في آن، لتكتب رواية شهادة، رواية ضد الصمت، عن فترة كثيراً ما سمعنا عنها، ولكن قليلاً ما كنا نقرأ عنها. كتابة تاريخ الجزائر الحديث تبدأ في الغالب من ثورة التحرير، ثم تقفز بشكل غير مبرر إلى اللحظة الراهنة، كما لو أن ما حصل بين الحقبتين، في ثلاثين سنة، ليس مهماً، ويغض المؤرخون الطرف عن عشرية التسعينيات، كما لو أن تلك الفترة كانت ثقباً أسود، والفظاعات التي وقعت آنذاك وحصدت أرواح آلاف الجزائريين، لم تكن سوى «تجربة للنسيان». لهذا فإن رواية «المغارة الثانية» تأتي كرغبة من صاحبتها في إعادة كتابة ما ضاع منا، مداواة الذاكرة المشوهة، وفي تذكير القارئ بأن البربرية كانت صناعة محلية، خلطة بين الدين والسياسة، وبلغت أشد مراحلها في الجزائر. في «المغارة الثانية» سنجد عائشة أو «عويشة»، شابة في العشرينيات، عاشت حياتين. وُلدت في واحدة من مغارات الجماعات الإسلامية المتطرفة، من أمير جماعة مسلحة، يُدعى عمار، ينادونه «أبو إبراهيم»، اغتصب أمها حمامة، التي ساعدتها في الهروب من الجبل إلى المدينة، ثم تنكرت لها، وتخلت عن أمومتها لها. كانت أمها ترى في ابنتها «لقيطة»، ابنة إرهابي وليست ابنة لها، ونسيت أن تلك المرحلة الدامية خلّفت حشوداً من «اللقطاء»، هكذا ستجد عويشة نفسها وحيدة، غير مرغوب فيها، بلا حاضر، وتستقر في بيت خالة لها، في الجزائر العاصمة، وتتعرف على أشخاص جدد، سيُساعدونها بغير قصد منهم في سرد بعض من سيرتها، وسيرة التيه واللاجدوى التي عرفتها نساء آخريات يشبهنها، وفي التخلص قليلاً من سلوكياتها المتوحشة، التي تعودت عليها في الجبل. ستصير عويشة طالبة في كلية الآداب واللغة العربية، تتعرف على كتاب، وتحكي عن مؤامرات تدور بين مثقفين، ثم يحصل أن تلتقي بعد سنوات من القطيعة مع والدها، الإرهابي السابق، الذي لن يتعرف عليها، فقد خرج من صلبه أطفال كثر، لا يعرف مصيرهم، وتجد أنه صار شخصية مرموقة، بعد أن سلم سلاحه، واستفاد من قوانين العفو، واندمج في المجتمع مُجدداً، وبات يفكر هو أيضاً بأن يصير كاتباً، أو أن يجد أحداً يكتب عنه، لتبييض صورته، ومحو تاريخه الدموي في القتل والسلب. عويشة التي وُلدت من اغتصاب، من أبوين معلومين ظاهرياً يتجاهلانها، ويتنصلان من واجباتهما تجاهها، هي صورة مصغرة ومكثفة عن جزائر اغتصبت، وسُلب منها شرفها، أكثر من مرة، وراحت تكرر محاولاتها للعيش، والاندماج مع الواقع. عويشة هي مُرادف الخيبة، هي خيبة تربطنا بحبل الحياة القصير، يعيشها الجزائري، من الاستقلال إلى اليوم، هي خيبة لم تمنع عنه العيش، لكنها تحد عن ناظريه أفق الأمل، فكلما علت طموحات الجزائري وارتفع سقف آماله، اصطدم بالخيبة، بالخسارة، بالفقد، إنه يحيا في حلبة دائرية، حيث تاريخ الفجيعة يكرر نفسه، بلا ملل. كل الروايات التي تعرضت لسنوات الدم في الجزائر على قلتها جاءت من منظور الضحية، وتجاهلت النظر في خصوصيات «القاتل» وفهم دوافعه لاختيار طريق المواجهة المسلحة. وغالباً ما يتم تصنيف الإرهابيين في خانة «الإسلاميين»، وهو تصنيف تعسفي، بحكم أن عددا من الشباب، الذين حملوا السلاح، والتحقوا بالجبل، كانوا يعبرون عن إحباطهم وعن خيبتهم من فشل السلطة في توفير العدالة الاجتماعية. الكاتبة وسيلة سناني يبدو أنها فهمت هذا الأمر، لم تفكر في شيطنة الإرهابيين، بل حاولت فهم دوافعهم النفسية، تفسيرها وشرح خياراتهم، فشخصية عمار، أمير الجماعة الإرهابية سابقاً، تظهر، في حالتها البشرية، كرجل «يصلي ويصوم ويغتصب ويذبح الناس».. ثم يستجيب لنداء السلطة، بوضع حد للحرب، ويستفيد من إجراءات المُصالحة، ويصير شخصاً عادياً. يسافر إلى خارج البلد، بدون أن يتخلى عن روح الزعامة، التي سكنته، ويبحث عن طريق لتبيض صورته أمام الآخرين، بحكم أن ما قام به، كان من منظوره بغرض تحقيق مساواة في المجتمع الذي يعيش فيه. تزييف التاريخ وسيلة سناني حاولت أن تقول أشياء كثيرة، في رواية واحدة، عن تزييف التاريخ، من ثورة التحرير إلى اليوم، هكذا جاء نصها مكتظاً بسرديات هامشية، بقصص صغيرة، أثرت على الحكاية الرئيسية وشوشت عليها قليلاً، وجعلت الكاتبة تقفز على بعض التفصيلات المهمة، ولا تنتبه إليها، ربما لأنها وضعت في مخيلتها، لحظة الكتابة، قارئاً جزائرياً، مدركاً لجزئيات ما وقع، ولم تفكر في قارئ أجنبي، غير ملم بالأحداث، لكن يُحسب لها أنها قدمت بورتريه مُتكاملا لشخصية «عويشة»، الضحية التي وُلدت وكبرت في مغارة، قبل أن تتماهى مع جلادها، وتفكر هي أيضاً في ركوب سفينة الانتهازيين، وأن تصير مثلهم، فهي تغفل أنها ضحية تاريخ، ضحية عنف منظم، ضحية اللاعدالة، وليست ضحية شخص بعينه. ستخبرنا الكاتبة، في نهاية الرواية، بشكل غير مباشر، أن الضحية الأكبر، بعدما حصل، هي الحقيقة، هي الثابت، الذي لم نستطع الوصول إليه، فالحقيقة رغم أنها تبدو واضحة، فقد بات من العسير الإمساك بها. منذ اللحظة الأولى، التي بدأت فيها حرب أو مأساة التسعينيات، في الجزائر، كان الهدف هو الوصول إلى الحقيقة وتعميمها، وفي خضم البحث عنها، سيسقط ضحايا بالآلاف، فشخصية عويشة لا تبدو متحسرة، ولا مُستاءة مما حصل لها، فقد عرفت شيئاً من الحقيقة في المغارة التي وُلدت فيها، ما يمنحها أفضلية مقارنة بمواطنات لها، لكنها ستسقط في النهاية في ما يُشبه متلازمة ستوكهولم، حيث تنسجم الضحية في علاقتها مع جلادها، ما ينبئ بأن الجزائري قد تصالح مع تاريخ العنف، قفز فوق التاريخ، بدون أن يخضعه للنقد أو المُحاسبة، وأن سنوات الدم، التي عاشها في السابق، من الممكن أن تعود مجدداً.