من مدينة البندقية ومهرجانها الذي احتضن العرض العالمي الأول لفيلمه الجديد، إلى تورنتو وغيرها من المدن المهرجانية السينمائية التي سيتجول فيها اللبناني زياد دويري خلال الشهور المقبلة متابعاً عروض فيلمه الروائي الطويل، وهو الرابع خلال أكثر من ربع قرن، مروراً ببيروت نفسها التي تعرض صالاتها الفيلم بعد أيام، ها هو صاحب «بيروتالغربية» و «ليلى قالت» و «الصدمة» يخبط من جديد. ها هو يلقي حجراً، ضخماً هذه المرة أيضاً كعادته، في الركود البليد للسينما اللبنانية في وقت كان يبدو فيه أن الشرائط المتلفزة احتلت إلى الأبد صالات السينما بجمهورها الخارج بعد عرض كل فيلم من الصالات بسمات غبية تفترض أن ما شوهد تحف عالمية طالما أن كاميرات التلفزة هناك تصوّر ذلك «النقد الشعبي» الذي لا مثيل له! القطار على سكته من جديد زياد دويري بفيلمه الجديد «الإهانة» أعاد القطار كما يبدو إلى سكته القويمة. أعاد التذكير بأن السينما شيء آخر غير تلك التفاهات التي تقدّم في لبنان باسم الفن السابع. وأعاد التذكير في طريقه، بذلك الرهط من «القناصة» السينمائيين الذين في ظل غياب أي دعم داخلي وخارجي لهم، لا يزالون مصرين على أن تكون للبنان سينما حقيقية. وبصرف النظر عن أي تقييم يمكن أن نورده في صدد «الإهانة» الذي سنعود اليه في كتابة لاحقة، يمكننا أن نفترض من خلال ردود الفعل المرصودة، على الأقل إثر عرض الفيلم في «البندقية» واستناداً إلى النقد العالمي الذي عاد هنا، للمناسبة، للتعامل بجدية مع سينما آتية من لبنان، بصرف النظر عن هذا، يمكننا الافتراض أن «الإهانة» يعيد ربط المنتوج السينمائي اللبناني بتلك الأعمال التي أتت خلال العقدين السابقين وريثة للنهضة الكبيرة التي عرفتها السينما اللبنانية على خطى مؤسسي انتفاضة سينماها الحربية وسينما ما بعد الحرب (من برهان علوية إلى الراحلين مارون بغدادي وجان شمعون ورندة الشهال، وصولا إلى جوسلين صعب وميشال كمون ونادين لبكي ودانيال عربيد وفيليب عرقتنجي والزوجين جريج/ جاجي توما)، ونعرف أن زياد دوري، ومنذ انقضاء الحرب وتحقيقه «بيروتالغربية» عرف كيف يحتل مكانة أساسية بين أبناء الجيل الوارث، إلى جانب غسان سلهب وسمير حبشي وبهيج حجيج وربما فؤاد علوان ولارا سابا وإيلي خليفة... واللائحة تطول بعض الشيء. غير أن ما يجدر قوله هنا، وما يذكّرنا به فيلم دويري الرابع الذي أعاد السينما اللبنانية الأكثر قوة وجدية، إلى الواجهة، هو أن هذا السينمائي الآتي من الحرفة السينمائية نفسها بأكثر مما هو آت من الإيديولوجيا أو الأدب أو السياسة، يبقى الأكبر شهرة بين أبناء جيله. ولكن كذلك، وهذا أهم، الأكثر قدرة في سينماه على طرح الأسئلة الشائكة إنما الإنتقائية والمتنوعة، والأكثر قدرة على إثارة السجال. ونتذكر بالطبع الموقف من الحرب الذي سجله في «بيروتالغربية» باكرا من خلال نظرة المراهق الذي كانه خلالها إليها، وسجّله في طريقه إلى أكاذيب السياسة والمحرمات الجنسية والمسألة الطائفية وما إلى ذلك. ونتذكر أيضاً القلبة التي أحدثها مع ثاني أفلامه «ليلى قالت» الذي ابتعد فيه كلية من لبنان ليتحرى أحوال الهجرة والعنصرية في الجنوب الفرنسي هو الذي كان يعلن أن فيلمه الجديد سيكون عن السياسة الخارجية الفرنسية(!). لكنه عاد مرة أخرى وأحدث قلبة جديدة في سينماه، إذ أوصلها هذه المرة، في الثالث الذي حققه قبل خمس سنوات داخل فلسطين وعبر فيلم ذي موضوع شائك صعب جرّ عليه المشاكل ومنع من العرض حتى في وطنه لبنان: الفيلم هو «الصدمة» - أو «الاعتداء» - المأخوذ عن رواية للكاتب الجزائري «ياسمين خضرا»، والذي ربما سيُكتشف يوماً أنه كان واحداً من أذكى الأفلام وأصدقها في طرحه غير المتبرج لقضية الإرهاب وأسبابه ودوافعه... المحاكم «الوطنية» البائسة لكن هذا كله لم يبد أنه أثار اهتمام «محاكميه» في لبنان وربما غير لبنان من الذين يدفعهم إيثارهم السلامة ولعبة المزايدات «الوطنية» إلى إبقاء الأمور عند السطح فكان السؤال: لماذا دخل دويري إلى فلسطينالمحتلة وصوّر فيها معظم مشاهد الفيلم؟ بدلاً من أن يتعلق بماذا صوّر هناك؟ وأي سجال حقيقي يمكن للعرب أن يخوضوه بصدد الإرهاب الذي دمرهم قبل أن يدمر من شاء الإرهابيون تدميرهم؟! من جديد هذه المرة إذاً، في فيلمه الرابع «الإهانة»، يعود زياد دويري إلى المشاكسة ومن خلال موضوع لا يقل صعوبة عن مواضيعه المطروحة سابقاً كما يبدو. موضوع رحبت به الصحافة الغربية التي واكبت العروض البندقية متحدثة عن تلك المحاكمة التي تشكل العمود الفقري في الفيلم، والتي يتجابه فيها لبناني مسيحي كاره عادة للفلسطينيين ورئيس عمال فلسطيني يائس من وضعه وعمله والظروف التي جعلته يقبل في الحي الذي يقيم فيه اللبناني المسيحي ويعمل، وظيفة تقل شأناً عن معرفته ودراسته. هما كائنان لكل منهما إحباطاته وآلامه التي ستجد هنا فرصة لتتجابه مع ما لدى الآخر الذي حُوّل عدواً له من دون ان يخوضا حرباً أو يكون ثمة ما يفرق بينهما شخصياً. لكن شتيمة عارضة تأتي في ظرف شديد العادية توقظ الشياطين النائمة وتقودهما إلى المحكمة بعد أن كادت تشعل حرباً أهلية جديدة. طبعا لن نتحدث عن هذا العمل الجديد أكثر من هذا هنا، وذلك في انتظار العودة إليه في الأسبوع المقبل، وربما كخطوة في الطريق إلى اكتشاف أفلام لبنانية جديدة أخرى، ربما تكون في طور الإعداد الآن لتعرض في العديد من المهرجانات العالمية والعربية المقبلة. أفلام ربما ستأتي بتواقيع نادين لبكي وميشال كمون وسمير حبشي وحتى أسد فولادكار ودانيال عربيد وغيرهم من الذين نتوقع انجازهم جديدا ما خلال الشهور المقبلة، لتعيد إلى السينما اللبنانية.... الحقيقية نعني، مكانتها وألقها فيكون الحجر الذي ألقته «إهانة» زياد دويري فاتحة خير، تماماً كما كان حجره السابق قبل سنوات عديدة حاملاً اسم «بيروتالغربية»، إشارة يومها إلى مولد نهضة سينمائية لبنانية جديدة.