مراقبون: صحوات (اتحاد القبائل العربية) تشكيل مسلح يخرق الدستور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 4 مايو 2024    وكالة فيتش ترفع آفاق تصنيف مصر الائتماني إلى إيجابية    هل تقديم طلب التصالح على مخالفات البناء يوقف أمر الإزالة؟ رئيس «إسكان النواب» يجيب (فيديو)    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    استشهاد فلسطينيين اثنين خلال اقتحام الجيش الإسرائيلي بلدة دير الغصون شمال طولكرم    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    حسين هريدي ل«الشاهد»: الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول رفح متعلق بطريقة الاجتياح    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    تصريح دخول وأبشر .. تحذير من السعودية قبل موسم الحج 2024 | تفاصيل    سيول وفيضانات تغمر ولاية أمريكية، ومسؤولون: الوضع "مهدد للحياة" (فيديو)    مصرع 37 شخصا في أسوأ فيضانات تشهدها البرازيل منذ 80 عاما    رسالة محمود الخطيب لسيدات السلة بعد التتويج بكأس مصر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    فوزي لقجع يكشف حقيقة تدخله في تعيين الحكام بالاتحاد الأفريقي.. وكواليس نهائي دوري أبطال 2022    أول تعليق من رئيس مكافحة المنشطات على أزمة رمضان صبحي    طارق خيري: كأس مصر هديتنا إلى جماهير الأهلي    فريدة وائل: الأهلي حقق كأس مصر عن جدارة    سيدات سلة الأهلي| نادين السلعاوي: التركيز وتنفيذ تعليمات الجهاز الفني وراء الفوز ببطولة كأس مصر    ملف يلا كورة.. اكتمال مجموعة مصر في باريس.. غيابات القطبين.. وتأزم موقف شيكابالا    أمن القليوبية يضبط «القط» قاتل فتاة شبرا الخيمة    حالة الطقس اليوم السبت.. «الأرصاد» تحذر من ظاهرتين جويتين مؤثرتين    "التموين" تضبط 18.8 ألف طن دقيق مدعم و50 طن سكر مدعم بالجيزة    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    لا ضمير ولا إنسانية.. خالد أبو بكر يستنكر ترهيب إسرائيل لأعضاء الجنائية الدولية    قناة جديدة على واتساب لإطلاع أعضاء "البيطريين" على كافة المستجدات    وقف التراخيص.. التلاعب فى لوحة سيارتك يعرضك لعقوبة صارمة    بالفضي والأحمر .. آمال ماهر تشغل السعودية بأغاني أم كلثوم    حظك اليوم برج الجدي السبت 4-5-2024 مهنيا وعاطفيا    استعدادات لاستقبال شم النسيم 2024: الفرحة والترقب تملأ الأجواء    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    مينا مسعود أحد الأبطال.. المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    رشيد مشهراوي عن «المسافة صفر»: صناع الأفلام هم الضحايا    آمال ماهر تتألق بإطلالة فضية في النصف الثاني من حفلها بالسعودية    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    حدث بالفن| مايا دياب تدافع عن نيشان ضد ياسمين عز وخضوع فنان لجراحة وكواليس حفل آمال ماهر في جدة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    5 فئات ممنوعة من تناول الرنجة في شم النسيم    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    في عيد العمال.. تعرف على أهداف ودستور العمل الدولية لحماية أبناءها    حسام موافي يوجه نصائح للطلاب قبل امتحانات الثانوية العامة (فيديو)    بالصور| انطلاق 10 قوافل دعوية    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جان شمعون هوى سينمائي بين لبنان وفلسطين
نشر في صوت البلد يوم 19 - 08 - 2017

باكراً يتساقطون واحدهم بعد الآخر، بالموت بخاصة (مارون بغدادي، رندة الشهال...)، وبالمرض أحياناً (برهان علوية...)، وبما يشبه الصمت والمنفى واليأس في أحيان أخرى (جوسلين صعب...)، أولئك الذين صنعوا للبنان مشروعه السينمائي العربي الكبير منذ بدايات السبعينات ولا سيما مع اندلاع الحرب الأهلية. جان شمعون الذي أسقطه الموت بعدما أسكته المرض طويلا، كان من المؤسسين بين أبناء هذا الجيل، وما غيابه اليوم سوى غياب آخر لسينما أسست فنا لبنانيا بات اليوم عريقا وإن كان من الصعب القول إن ورثته، حتى في إبداعاتهم الكبيرة (من زياد دويري إلى نادين لبكي ودانيال عربيد وغسان سلهب وميشال كمون...) يبدون مفعمين بالطموح التأسيسي ذاته الذي كاد في البدايات أن يكون رسوليّاً...
نطل هنا على مسيرة الراحل جان شمعون ومكانته من خلال نصّ عنه سينشر قريباً في «الموسوعة النقدية للمخرجين» التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ضمن مشروع «السينما والمجتمع في الوطن العربي».
المدينة وطيفها
إذا كان ممكناً التحدث عن جان شمعون وسينماه، بوصفه هو الآخر واحداً من ذلك الجيل الذي تربى على السينما والرغبة في تحقيقها، في فرنسا حيث كانت دراسته الجامعية، ولكن أيضاً السياسية، حيث ظل حتى أيامه الأخيرة، وبعد نحو ثلث قرن من الزمن، يفخر بخوضه النضالات في سبيل القضية الفلسطينية بخاصة، ولكن أيضاً غيرها من القضايا النضالية التي كانت تشكل غداء الشبيبة المتمردة في ذلك الحين، فإن شمعون يختلف عن رفاقه في هذا الجيل (علوية، بغدادي، الشهال، وكذلك بهيج حجيج وجان كلود قدسي لاحقاً) بكونه لم يعد بعد ذلك للإقامة في الخارج إلا لفترات متقطعة في لندن للإشراف على إنتاج بعض أفلامه وإنجازها تقنياً. فهو، وكما كانت حاله في فرنسا، ظل مؤمناً بالقضايا التي ناضل طويلاً من أجلها ليضيف إليها لاحقاً القضية اللبنانية. لكن شمعون لم يضف هذه القضية إلا بعد زمن طويل، ذلك أنه منذ وصوله إلى لبنان، في الوقت ذاته الذي وصل فيه الآخرون (خلال النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين)، وجد نفسه تلقائياً يحقق شرائط متتالية عن الحرب اللبنانية، وإنما أكثر قرباً من الجانب الفلسطيني منها، وفي أحيان كثيرة، تحت رعاية قسم السينما في منظمة التحرير الفلسطينية وشراكة مع السينمائي الفلسطيني الراحل لاحقاً، مصطفى أبو علي، في الوقت الذي انهمك فيه، أيضاً بتدريس السينما في الجامعة اللبنانية، كما في تقديم أعمال إذاعية شراكة مع الموسيقي زياد الرحباني (ما أمَّن له شهرة تفوق عشرات المرات شهرته كمخرج سينمائي). أما أول ظهور لشمعون كمخرج، فكان من خلال فيلم «تل الزعتر» (1976)، الذي حققه مع مصطفى أبو علي، ومع الإيطالي بيبينو أدريانو. ولسوف يحوز هذا الفيلم، جوائز عديدة لاحقاً، منها جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان قرطاج (1978).
طبعاً لا نريد هنا التوقف عند كل الأفلام الوثائقية التي حققها شمعون منذ ذلك الحين، بمفرده أحياناً، وشراكة– لاحقاً وفي أحيان أخرى– مع زوجته السينمائية مي مصري. فقط هنا الحديث العابر عن أفلام جان شمعون المتنوعة، ثم الوقوف مطولاً بعض الشيء عند فيلمه الروائي الطويل الأول (والأخير) «طيف المدينة»، الذي كان مساهمة جان شمعون الأساسية في مسار السينما اللبنانية.
في «طيف المدينة» الذي اشتغل عليه شمعون نحو ثلاثة أعوام، كان من الواضح أن المخرج اشتغل عليه ذهنياً منذ ما قبل ذلك بكثير. من هنا، لئن كان بعضهم رأى تشابهاً بين جزء من أحداث «طيف المدينة» وشخصياته من ناحية، وجزء من فيلم مزامن له تقريباً هو «بيروت الغربية»، لزياد دويري، من المؤكد أن التشابه ناتج من توارد أفكار لا أكثر، حتى ولو بدا أكثر من ذلك كثيراً.
ومهما يكن، فإن الحكم على الفيلم الأول لجان شمعون- ضمن إطار السينما الروائية– ما كان يمكنه إلا أن يكون إيجابياً على رغم نواقص في السيناريو (أين اختفت بقية أسرة رامي خلال النصف الثاني من الفيلم؟) وعلى رغم عدم الاشتغال كما يجب على التطور الدرامي لبعض الشخصيات الأساسية. ويمكن النظر إلى «طيف المدينة» باعتباره يعكس تطوراً في النظرة إلى الحرب، من خلال وقوفه إلى جانب البراءة ضد قسوة ذلك القتال الهمجي الذي عاشه هذا البلد.
في النهاية، أتى فيلم «طيف المدينة» إضافة طيبة إلى سينما لبنانية وعربية معينة، وخطوة جديدة في مسار شمعون، وإشارة إلى أن في إمكانه حقاً، أن ينتقل من السينما الوثائقية (التي ارتبط بها، وجاء فيلمه هذا، بعد كل شيء، استمراراً لها ولو ارتدى الطابع الروائي)، إلى سينما روائية واضح أن في جعبة شمعون ما يقوله في إطارها. لكن الذي حدث هو أن شمعون توقف مع السينما الروائية عند ذلك الحد. ولعل ما يلفت النظر هنا هو أن شمعون، بعدما كان طوال مرحلته السابقة قد حقق أفلاماً عديدة، شراكة مع مي مصري، فإنه في هذا الفيلم عمل، كمخرج، وحيداً، حيث اكتفت مي مصري بدور المنتجة المنفذة. ولا بد من أن نذكر هنا أن فيلم جان شمعون هذا قد نال عدداً لا بأس به من الجوائز في مهرجانات شارك فيها مثل «كان جونيور» و «تطوان» و «قرطاج»... إلخ.
تباطؤ
والحال أن ما يجب التوقف عنده هنا هو أن جان شمعون، لا يحمل في «الفيلموغرافيا» الخاصة به، أي اسم لأي عمل حققه خلال أربع سنوات مرت بين فيلمه الوثائقي «رهينة الانتظار» (1994) و «طيف المدينة» (2000) وهو واقع يتناقض مع ما هو معتقد من أن شمعون هو الأكثر غزارة في العمل من بين أبناء جيله. أما بعد «طيف المدينة» فإنه أمضى أربع سنوات قبل أن يحقق «أرض النساء» (2004)، ضمن سلسلة عن نساء مميزات أنتجتها المصرية ماريان خوري ضمن إطار مشروع ل «أفلام مصر العالمية» (يوسف شاهين وشركاه). وشمعون نفسه لم يعلق على هذا. لكنه، في الوقت ذاته، وفي حوار أجرته معه الزميلة فيكي حبيب («الحياة» 23/4/2004) لمناسبة عرض «أرض النساء»، يعلق على كونه كان دائماً موزع النشاط بين السينما الفلسطينية والسينما اللبنانية، وإذ لاحظت الناقدة أنه «ساهم دائماً في السينما الفلسطينية من خلال السنيما الوثائقية بينما قدّ رؤيته للحرب اللبنانية من خلال فيلم روائي» متسائلة: هل هذا مقصود أو جاء بالصدفة؟ يعلق قائلاً: «حسب الموضوع. هناك مواضيع لا يمكنك معالجتها في الأفلام الوثائقية ويكون لا بد من الروائي لتقديم كل جوانب الموضوع، إلا أن مشكلة الفيلم الروائي الأساسية هي غياب الإنتاج. وأمام هذه المشكلة لا تملكين خياراً آخر إلا تصوير الأفلام الوثائقية، مع العلم أنهما بالأهمية ذاتها حتى أن الأفلام الوثائقية توزع أكثر من الأفلام الروائية والمثل على ذلك فيلم «أحلام معلقة» الذي صنعته وزوجتي مي المصري سنة 1992 ووزع في تسعين تلفزيوناً في العالم. وهنا أسأل: أي سينمائي عربي وزع فيلماً روائياً واحداً على 90 تلفزيوناً في العالم؟».
في «رهينة الانتظار»، يقدم جان شمعون ما هو أكثر كثيراً مما كان يمكن توقعه من فيلم تسجيلي (المخرج يفضل دائماً صفة «وثائقي» على صفة تسجيلي)، فهو هنا يأتي بطبيبة لبنانية شابة تعكس في حد ذاتها حال براءة لبنانية متكاملة، يأخذها معه إلى الجنوب، تحديداً إلى مخيمات الفلسطينيين في الجنوب اللبناني، بعد أن زالت سلطة منظمة التحرير من تلك المناطق، ليتساءل مع الطبيبة ومن خلالها: هل لا يزال ثمة من يتذكر هؤلاء الفلسطينيين في خضم ما نعيش؟ واصلاً إلى سؤال أساسي عبر سجالات يقول شمعون بعدها: من قال أن الحرب انتهت؟ فالأمور منظوراً إليها من بيروت– أو من أوروبا حتى– هي، بالتأكيد، غيرها منظوراً إليها من الجنوب، أو من داخل مخيم فلسطيني، أو من بيت يطل على مواقع عسكرية إسرائيلية... أو من خلال نقاش حاد بين شقيق أصولي وشقيقته العلمانية. غير أن أهمية «رهينة الانتظار» لا تكمن فقط هنا، أي في ما يقوله، بل في الكيفية التي بها يقول موضوعه. ففي هذا المجال كان واضحاً أن أسلوب جان شمعون قد تطور كثيراً، وبات هذا المخرج يتعامل مع شخصياته تعامل مخرج الأفلام الروائية مع ممثليه... حيث كاميرا، لا تكتفي بأن تسجل ما يحصل أمامها، بل إنها تتبع حركة و «ميزانسين» المخرج المتميز والمدروس بعناية. في «رهينة الانتظار» كانت سينما جان شمعون، كمن يجري «بروفة» نهائية للكيفية التي سوف تكون عليها السينما الروائية حين سيقدم عليها بعد نحو عقدين من التردد والصعوبات. ومن هنا ربما نجد قواسم مشتركة بين «رهينة الانتظار» و «طيف المدينة» أكثر كثيراً مما نجد بين «رهينة الانتظار» و «زهرة القندول» (1985) و «أنشودة الأحرار» (1978) و «بيروت جيل الحرب» (1989) و «أحلام معلقة» (1992).
ولعل في إمكاننا أن نقول انطلاقاً من هنا أن «أرض النساء» (آخر أعمال جان شمعون المنجزة) ينتمي إلى «طيف المدينة» أيضاً، إنما بواسطة انتمائه المباشر إلى «رهينة الانتظار». وفي فيلم «أرض النساء» يوثق جان شمعون، إنما على طريقته، لتجربة المناضلة ثم الأسيرة المحررة كفاح عفيفي (الفلسطيني من لبنان) مع المعتقل، وتحديداً معتقل الخيام. ونكتفي هنا، للحديث عن هذا الفيلم في سياق هذا الكلام عن جان شمعون وسينماه، باقتباس ما كتبته فيكي حبيب (المرجع السابق ذاته). تقول الناقدة من خلال مراجعة للفيلم وطرح أسئلة على مخرجه في شأنه: «الفيلم يأتي ضمن سلسلة «نساء رائدات» يحكي تجربة كفاح مع اللحظات الحلوة والمرة، الذكريات والأحلام والأماني. ندخل معها إلى المعتقل لنستعيد وإياها بعض الثواني التي لا تنسى. نتعرف إلى الغرفة حيث عاشت معظم فترة الاعتقال، تخبرنا عن الصداقات المتينة التي نسجت مع رفيقاتها خلف القضبان وعن علاقتهن بسجن الرجال... ضحكة كفاح البارزة تكسر جمود السجن، إنها شخصية مميزة تشدك بعفويتها واندفاعها».
باكراً يتساقطون واحدهم بعد الآخر، بالموت بخاصة (مارون بغدادي، رندة الشهال...)، وبالمرض أحياناً (برهان علوية...)، وبما يشبه الصمت والمنفى واليأس في أحيان أخرى (جوسلين صعب...)، أولئك الذين صنعوا للبنان مشروعه السينمائي العربي الكبير منذ بدايات السبعينات ولا سيما مع اندلاع الحرب الأهلية. جان شمعون الذي أسقطه الموت بعدما أسكته المرض طويلا، كان من المؤسسين بين أبناء هذا الجيل، وما غيابه اليوم سوى غياب آخر لسينما أسست فنا لبنانيا بات اليوم عريقا وإن كان من الصعب القول إن ورثته، حتى في إبداعاتهم الكبيرة (من زياد دويري إلى نادين لبكي ودانيال عربيد وغسان سلهب وميشال كمون...) يبدون مفعمين بالطموح التأسيسي ذاته الذي كاد في البدايات أن يكون رسوليّاً...
نطل هنا على مسيرة الراحل جان شمعون ومكانته من خلال نصّ عنه سينشر قريباً في «الموسوعة النقدية للمخرجين» التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ضمن مشروع «السينما والمجتمع في الوطن العربي».
المدينة وطيفها
إذا كان ممكناً التحدث عن جان شمعون وسينماه، بوصفه هو الآخر واحداً من ذلك الجيل الذي تربى على السينما والرغبة في تحقيقها، في فرنسا حيث كانت دراسته الجامعية، ولكن أيضاً السياسية، حيث ظل حتى أيامه الأخيرة، وبعد نحو ثلث قرن من الزمن، يفخر بخوضه النضالات في سبيل القضية الفلسطينية بخاصة، ولكن أيضاً غيرها من القضايا النضالية التي كانت تشكل غداء الشبيبة المتمردة في ذلك الحين، فإن شمعون يختلف عن رفاقه في هذا الجيل (علوية، بغدادي، الشهال، وكذلك بهيج حجيج وجان كلود قدسي لاحقاً) بكونه لم يعد بعد ذلك للإقامة في الخارج إلا لفترات متقطعة في لندن للإشراف على إنتاج بعض أفلامه وإنجازها تقنياً. فهو، وكما كانت حاله في فرنسا، ظل مؤمناً بالقضايا التي ناضل طويلاً من أجلها ليضيف إليها لاحقاً القضية اللبنانية. لكن شمعون لم يضف هذه القضية إلا بعد زمن طويل، ذلك أنه منذ وصوله إلى لبنان، في الوقت ذاته الذي وصل فيه الآخرون (خلال النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين)، وجد نفسه تلقائياً يحقق شرائط متتالية عن الحرب اللبنانية، وإنما أكثر قرباً من الجانب الفلسطيني منها، وفي أحيان كثيرة، تحت رعاية قسم السينما في منظمة التحرير الفلسطينية وشراكة مع السينمائي الفلسطيني الراحل لاحقاً، مصطفى أبو علي، في الوقت الذي انهمك فيه، أيضاً بتدريس السينما في الجامعة اللبنانية، كما في تقديم أعمال إذاعية شراكة مع الموسيقي زياد الرحباني (ما أمَّن له شهرة تفوق عشرات المرات شهرته كمخرج سينمائي). أما أول ظهور لشمعون كمخرج، فكان من خلال فيلم «تل الزعتر» (1976)، الذي حققه مع مصطفى أبو علي، ومع الإيطالي بيبينو أدريانو. ولسوف يحوز هذا الفيلم، جوائز عديدة لاحقاً، منها جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان قرطاج (1978).
طبعاً لا نريد هنا التوقف عند كل الأفلام الوثائقية التي حققها شمعون منذ ذلك الحين، بمفرده أحياناً، وشراكة– لاحقاً وفي أحيان أخرى– مع زوجته السينمائية مي مصري. فقط هنا الحديث العابر عن أفلام جان شمعون المتنوعة، ثم الوقوف مطولاً بعض الشيء عند فيلمه الروائي الطويل الأول (والأخير) «طيف المدينة»، الذي كان مساهمة جان شمعون الأساسية في مسار السينما اللبنانية.
في «طيف المدينة» الذي اشتغل عليه شمعون نحو ثلاثة أعوام، كان من الواضح أن المخرج اشتغل عليه ذهنياً منذ ما قبل ذلك بكثير. من هنا، لئن كان بعضهم رأى تشابهاً بين جزء من أحداث «طيف المدينة» وشخصياته من ناحية، وجزء من فيلم مزامن له تقريباً هو «بيروت الغربية»، لزياد دويري، من المؤكد أن التشابه ناتج من توارد أفكار لا أكثر، حتى ولو بدا أكثر من ذلك كثيراً.
ومهما يكن، فإن الحكم على الفيلم الأول لجان شمعون- ضمن إطار السينما الروائية– ما كان يمكنه إلا أن يكون إيجابياً على رغم نواقص في السيناريو (أين اختفت بقية أسرة رامي خلال النصف الثاني من الفيلم؟) وعلى رغم عدم الاشتغال كما يجب على التطور الدرامي لبعض الشخصيات الأساسية. ويمكن النظر إلى «طيف المدينة» باعتباره يعكس تطوراً في النظرة إلى الحرب، من خلال وقوفه إلى جانب البراءة ضد قسوة ذلك القتال الهمجي الذي عاشه هذا البلد.
في النهاية، أتى فيلم «طيف المدينة» إضافة طيبة إلى سينما لبنانية وعربية معينة، وخطوة جديدة في مسار شمعون، وإشارة إلى أن في إمكانه حقاً، أن ينتقل من السينما الوثائقية (التي ارتبط بها، وجاء فيلمه هذا، بعد كل شيء، استمراراً لها ولو ارتدى الطابع الروائي)، إلى سينما روائية واضح أن في جعبة شمعون ما يقوله في إطارها. لكن الذي حدث هو أن شمعون توقف مع السينما الروائية عند ذلك الحد. ولعل ما يلفت النظر هنا هو أن شمعون، بعدما كان طوال مرحلته السابقة قد حقق أفلاماً عديدة، شراكة مع مي مصري، فإنه في هذا الفيلم عمل، كمخرج، وحيداً، حيث اكتفت مي مصري بدور المنتجة المنفذة. ولا بد من أن نذكر هنا أن فيلم جان شمعون هذا قد نال عدداً لا بأس به من الجوائز في مهرجانات شارك فيها مثل «كان جونيور» و «تطوان» و «قرطاج»... إلخ.
تباطؤ
والحال أن ما يجب التوقف عنده هنا هو أن جان شمعون، لا يحمل في «الفيلموغرافيا» الخاصة به، أي اسم لأي عمل حققه خلال أربع سنوات مرت بين فيلمه الوثائقي «رهينة الانتظار» (1994) و «طيف المدينة» (2000) وهو واقع يتناقض مع ما هو معتقد من أن شمعون هو الأكثر غزارة في العمل من بين أبناء جيله. أما بعد «طيف المدينة» فإنه أمضى أربع سنوات قبل أن يحقق «أرض النساء» (2004)، ضمن سلسلة عن نساء مميزات أنتجتها المصرية ماريان خوري ضمن إطار مشروع ل «أفلام مصر العالمية» (يوسف شاهين وشركاه). وشمعون نفسه لم يعلق على هذا. لكنه، في الوقت ذاته، وفي حوار أجرته معه الزميلة فيكي حبيب («الحياة» 23/4/2004) لمناسبة عرض «أرض النساء»، يعلق على كونه كان دائماً موزع النشاط بين السينما الفلسطينية والسينما اللبنانية، وإذ لاحظت الناقدة أنه «ساهم دائماً في السينما الفلسطينية من خلال السنيما الوثائقية بينما قدّ رؤيته للحرب اللبنانية من خلال فيلم روائي» متسائلة: هل هذا مقصود أو جاء بالصدفة؟ يعلق قائلاً: «حسب الموضوع. هناك مواضيع لا يمكنك معالجتها في الأفلام الوثائقية ويكون لا بد من الروائي لتقديم كل جوانب الموضوع، إلا أن مشكلة الفيلم الروائي الأساسية هي غياب الإنتاج. وأمام هذه المشكلة لا تملكين خياراً آخر إلا تصوير الأفلام الوثائقية، مع العلم أنهما بالأهمية ذاتها حتى أن الأفلام الوثائقية توزع أكثر من الأفلام الروائية والمثل على ذلك فيلم «أحلام معلقة» الذي صنعته وزوجتي مي المصري سنة 1992 ووزع في تسعين تلفزيوناً في العالم. وهنا أسأل: أي سينمائي عربي وزع فيلماً روائياً واحداً على 90 تلفزيوناً في العالم؟».
في «رهينة الانتظار»، يقدم جان شمعون ما هو أكثر كثيراً مما كان يمكن توقعه من فيلم تسجيلي (المخرج يفضل دائماً صفة «وثائقي» على صفة تسجيلي)، فهو هنا يأتي بطبيبة لبنانية شابة تعكس في حد ذاتها حال براءة لبنانية متكاملة، يأخذها معه إلى الجنوب، تحديداً إلى مخيمات الفلسطينيين في الجنوب اللبناني، بعد أن زالت سلطة منظمة التحرير من تلك المناطق، ليتساءل مع الطبيبة ومن خلالها: هل لا يزال ثمة من يتذكر هؤلاء الفلسطينيين في خضم ما نعيش؟ واصلاً إلى سؤال أساسي عبر سجالات يقول شمعون بعدها: من قال أن الحرب انتهت؟ فالأمور منظوراً إليها من بيروت– أو من أوروبا حتى– هي، بالتأكيد، غيرها منظوراً إليها من الجنوب، أو من داخل مخيم فلسطيني، أو من بيت يطل على مواقع عسكرية إسرائيلية... أو من خلال نقاش حاد بين شقيق أصولي وشقيقته العلمانية. غير أن أهمية «رهينة الانتظار» لا تكمن فقط هنا، أي في ما يقوله، بل في الكيفية التي بها يقول موضوعه. ففي هذا المجال كان واضحاً أن أسلوب جان شمعون قد تطور كثيراً، وبات هذا المخرج يتعامل مع شخصياته تعامل مخرج الأفلام الروائية مع ممثليه... حيث كاميرا، لا تكتفي بأن تسجل ما يحصل أمامها، بل إنها تتبع حركة و «ميزانسين» المخرج المتميز والمدروس بعناية. في «رهينة الانتظار» كانت سينما جان شمعون، كمن يجري «بروفة» نهائية للكيفية التي سوف تكون عليها السينما الروائية حين سيقدم عليها بعد نحو عقدين من التردد والصعوبات. ومن هنا ربما نجد قواسم مشتركة بين «رهينة الانتظار» و «طيف المدينة» أكثر كثيراً مما نجد بين «رهينة الانتظار» و «زهرة القندول» (1985) و «أنشودة الأحرار» (1978) و «بيروت جيل الحرب» (1989) و «أحلام معلقة» (1992).
ولعل في إمكاننا أن نقول انطلاقاً من هنا أن «أرض النساء» (آخر أعمال جان شمعون المنجزة) ينتمي إلى «طيف المدينة» أيضاً، إنما بواسطة انتمائه المباشر إلى «رهينة الانتظار». وفي فيلم «أرض النساء» يوثق جان شمعون، إنما على طريقته، لتجربة المناضلة ثم الأسيرة المحررة كفاح عفيفي (الفلسطيني من لبنان) مع المعتقل، وتحديداً معتقل الخيام. ونكتفي هنا، للحديث عن هذا الفيلم في سياق هذا الكلام عن جان شمعون وسينماه، باقتباس ما كتبته فيكي حبيب (المرجع السابق ذاته). تقول الناقدة من خلال مراجعة للفيلم وطرح أسئلة على مخرجه في شأنه: «الفيلم يأتي ضمن سلسلة «نساء رائدات» يحكي تجربة كفاح مع اللحظات الحلوة والمرة، الذكريات والأحلام والأماني. ندخل معها إلى المعتقل لنستعيد وإياها بعض الثواني التي لا تنسى. نتعرف إلى الغرفة حيث عاشت معظم فترة الاعتقال، تخبرنا عن الصداقات المتينة التي نسجت مع رفيقاتها خلف القضبان وعن علاقتهن بسجن الرجال... ضحكة كفاح البارزة تكسر جمود السجن، إنها شخصية مميزة تشدك بعفويتها واندفاعها».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.