يستعيد التلفزيون السويدي أول فيلم وثائقي للمخرج المعروف إريك غانديني. ويبدو من السهولة عمل مقارنة بأفلامه الأخرى لمعرفة حال النضج التي وصل اليها هذا المخرج الموهوب. لن يكون عسيراً تلمّس الفارق في مستويات أفلامه، لو تمّ استدعاء فيلمه الأخير «النظرية السويدية في الحب» على سبيل المثل. ولكن ليس هنا مجال المقارنة بالطبع، إذ تدور أحداث فيلمه المقصود «عصابة ساراييفو» (1994) في العاصمة البوسنية ساراييفو، وهو اختيار ذكي باعتبار أنها تشكل رمزاً لتوحيد الشرق والغرب، وإذا بها تتحول الى لطخة عار في جبين القارة العجوز حين نعلم أن 100 ألف بوسني قُتلوا إبان الحرب في البوسنة والهرسك. وتم تهجير أكثر من مليونين في الأعوام 1992 – 1995 وكان أطول حصار تعيشه مدينة في وقتنا الحالي. نزول المخرج الى شوارع العاصمة للقائه مع أبطال فيلمه (ليلى سينغيتش، إنس زلاتار، فارس آرابوفيتش، آسيا هافيتز ونيبويشا سيريش) في المقاهي والمطاعم وأماكن التزلج القريبة من عيون القناصين غير استعراضي، من خلال لقطات المتابعة الطويلة التي يقوم بها على أصوات دوي المدافع وسقوط قذائف الهاون في الأحياء، كما في كل الحروب الأهلية التي ساهمت التلفزة بتغطيتها في أماكن متفرقة في العصر الحديث. القول إن هذه اللقطات من باب الاحتراف تشكل «آفة» في الفيلم الوثائقي يحمل نوعاً من «الأسى النقدي» في محاولة تعريف هذا النوع من الارتجال البصري والمكثّف الذي تتيحه الحرب لصناع الأفلام. ليس الأمر كذلك بالطبع، وإن حسم الأمر نظرياً على الأقل، إذ تظل هذه اللقطات تحمل طابعاً أخلاقياً تارة، وتارة طابعاً فنياً، وإن لم يكن الأمر إشكالياً ويمس الفن السينمائي عموماً. الدمار الذي يعيد الفيلم إنتاجه بصرياً يعتمد على ذاكرة خمسة أصدقاء يبدأون الحديث عن مأساة البوسنة والهرسك ليلة العام الجديد 1994. من الاحتفال الذي يضم هؤلاء الفتيان في عتمة الحرب سوف يتردد صدى التفسخ الإثني الذي تعيشه البلاد بعدما اتخذ قرار الاستقلال. الفتيان الخمسة من قوميات مختلفة، عاشوا تحت مظلة يوغسلافيا الموحدة قبل أن تدركهم الحرب ومعصياتها. لكنهم سيواصلون الاحتفال معاً. ليلى سويدية من أصل بوسني تكون بمثابة محرك البحث في ذاكرة مشتتة قوامها ذكريات قريبة أمكن المخرج غانديني أن يعيد توظيفها في سياق تركيب الفيلم، بنهجه الحكائي المضطرب، أو المشوش قليلاً، فلم تنضج أدواته بعد، ومن ثم ننتظر بعض الوقت حتى يتضح معنى ذلك في أفلامه الأخرى مثل «غوانتانامو» أو «شر الشرور». المقاتل الشاب نيبويشا سيريش الذي يعشق الموسيقا والغناء وفقد دراسته نتيجة الحرب، قبل أن يتحول الى مجند في القوات البوسنية يقود الفيلم في منحى مختلف حين يتردد على مبنى كلية الفنون المدمر تدميراً كاملاً. هنا يسقط في أيدي هؤلاء الفتيان الذين يتخذون من المبنى رمزاً لسيادة أعمارهم الفتية على حرب بشعة يتخبط فيها الجميع ويسقط فيها الجميع. يقول سيريش حين تزأر طائرات الناتو في الليل وهي تنفذ طلعات جوية وعمليات قصف لقوات صرب البوسنة التي غيرت شاراتها فقط، وكأنّ البشر مجرد شارات ثابتة أو متغيرة، ولا وجود لهم من دونها. أهمية الفيلم يدركها الشبان قبل غيرهم. ويثبت المخرج غانديني هنا أهمية المعايشة التي تفرضها السينما الوثائقية اذ لم يغرق في مواد مصورة ويعيد تركيبها على طاولات مونتاج بعيدة. عدسة متمعنة تتيح التعمق بآليات التفسخ الذي يطال الطوائف والاثنيات التي تشارك به في احتفاليات موحدة لا تنهيه الموسيقى، ولا يسلبه الغناء المشترك: يقول فارس آرابوفيتش عنها على أطلال مشفى المدينة إنها بمثابة بحث موسع عن إمكان النجاة بعيداً من جحيم البلاد الغارقة في أتون الحرب، وهذا يعني أن تفكيك هذه الشارات المجتمعية سيصل مدى أبعد مما يفكرون. لن يظل شيء على حاله في الأبنية التي تشكل خطاً روائياً في الفيلم، ويبرز هنا عنوان ليشكل أحجية من نوع ما «رايا ساراييفو» قد تعني وفق ما ينبه المخرج الايطالي– السويدي اريك غانديني في شارة البداية إن رايا قد تعني باللغة السويدية: جماعة، أصدقاء، زملاء، عصابة.