من خلال معرض كل من الفنان مصطفى عيسى المعنون ب«وطن لا يصدأ»، المقام حالياً في قاعة الباب في دار الأوبرا المصرية، ومعرض الفنان عادل ثابت الذي أقامه في قاعة «آرت كورنر»، والذي اختار له عنوان «محطات»، ورغم اختلاف الرؤية والتقنية الفنية والأسلوب الجمالي لكل منهما، إلا أن فكرة اللعب من خلال الذاكرة هي التي من الممكن أن تصبح عنواناً كبيراً يجمعهما. والذاكرة هنا تتداخل ما بين الشخصي والذاكرة الجمعية لأشخاص وأحداث مصرية، كيف تفاعل معها الفنان وأعادها إلى الحياة من خلال لوحاته. ما بين رؤية ذاتية وإحساس بحالة عامة تمجد الشخصيات وتتفاعل معها في صدق. هذا ما يبدو واضحاً من خلال اللون والتكوين وإيقاع اللوحات بشكل عام في كل من أعمال عيسى وثابت. وطن لا يصدأ ينطلق الفنان مصطفى عيسى من هذا العنوان الرومانتيكي، ومن خلال خامة الخشب ليرسم عالماً يبدو ظاهرياً ساكناً يعتمد التجريد، وتقنية الكولاج، حيث الصور الفوتوغرافية، رسوم الغرافيتي، عبارات نثرية، قصاصات من الصحف، رسومات أطفال، وعبارات مكتوبة بخط طفولي. المفارقة أن حالة السكون والعمق في التكوين من حيث المساحات اللونية فوق المسطح الخشبي، تتنافي وإيقاع اللوحة الصاخب. هذا الصخب لا يأتي من لون صارخ أو حركة مُفتعلة، لكن من طبيعة التركيب، وجه حقيقي أو عبارة، ولون مشغول من درجات الأحمر والبني. وما بين لعبة التجريد أو فخ التجريد الذي يقع فيه المُلقي بداية، يجعله يتأمل الموقف أكثر، وهو وعي حاد من الفنان بأن يُجبر المتلقي على التوافق مع إيقاعه ومحاولة اكتشاف فكرة العمل، أو هذا العالم المختلف تماماً عما هو كائن. فأسماك نهر النيل وأبو الهول، مع صورة لملامح امرأة مصرية، وطفل وكأنه مصلوب، ورجل مُسن يختلس لحظة راحة، ونظرات متحديّة لعين امرأة يحتجب وجهها بوشاح، ورسومات لوطن حاول أن يتنفس حلمه. لتكن حالة غفلة من الواقع، هذا هو الوطن الذي تجسده أعمال الفنان مصطفى عيسى، في بساطة شديدة وعمق أشد. محطات ويأتي معرض الفنان عادل ثابت «محطات» ليلعب بدوره على وتر الذاكرة الشعبية، وإن كان في شكل مباشر، عبر شخصيات وبيئات مصرية مختلفة، الساحل والصحراء والجنوب. ما يميز اللوحات هو الحِس الاحتفائي بعالمهم، وما يفعلونه، فالشخصيات في حالة فعل دائم، ولعله فعل العزف الموسيقي والمتنوع، من مطرب المدينة العاطفي الكلاسيكي، إلى ضاربات الدفوف، عازف المقهى الشعبي. كذلك لقطات أخرى من الحارة الشعبية كبائع الفول ورواده، وحالات العشق بين رجل وامرأة، الأراجوز، ولعبة الطاولة الشهيرة في المقهى. هذه الشخصيات وعالمها أصبحت بعيدة الآن عن الواقع المصري، معظمها أصبحنا نتذكره من خلال أفلام السينما القديمة نسبياً، فالذاكرة هنا احتفائية، كما يبدو من اللون المبهج، والتشكيلات اللونية التي تقترب من إحساس الأطفال باللون. وما يؤكد ذلك هو الحركة الصاخبة، سواء في مقدمة اللوحة، أو الخلفية التي تصبح جزءا لا ينفصل من العمل، ليس تكميلياً، أو قاصراً على تجسيد الجو العام للمكان.. فعيون الأطفال التي تتابع مشهد الأراجوز على سبيل المثال تتجسد في جزء كبير من خلفية اللوحة، وجوه وعيون في شكل خطوط متشابهة خلق حالة من الإيقاع بالتكرار كما أن فرقة المطرب العاطفي يبدون في الخلفية ويُشكلون معه طرفي المثلث، الذي يمثل هو مقدمته، فيتكون خط الرؤية من هذا المثلث، وهو شكل آخر من أشكال الإيقاع، وهكذا العديد من اللقطات، حيث يأتي إيقاعها المتباين من عالم اللوحة وشخوصها. السمة الأخرى في الأعمال هي المبالغة في تفاصيل الشخوص، إلى حد الكاريكاتير، كما في لوحة لاعبي الطاولة في المقهى، فكرة اللاعب الفائز وتفوقه الجسدي وهو في حالة احتلال كامل للوحة، بينما الآخر الجالس يكاد يختفي. كل من المعرضين ما هما إلا محاولة للقبض على عالم يكاد يختفي، لكن إحساس كل من الفنانين هو ما يستحضر هذا العالم بقوة، سواء في مباشرة واحتفائية كما فعل عادل ثابت، أو في حزن وعمق كبيرين كما في أعمال مصطفى عيسى. التفاصيل هي ما تصوغ هذا العالم، والذاكرة وحدها هي القادرة على إعادة هذه الصياغة في شكل فني مُجهِد، وفي أساليب متباينة وحِرفية واضحة.