أقام الفنان التشكيلي محمد رزق مؤخرا معرضه بقاعة "أحمد صبري" بمركز الجزيرة للفنون، عرض فيه أعماله التصويرية التي تنتمي إلي التجريدية التعبيرية، وهي المدرسة التي تري أن تفسير الأعمال لا يخضع لمقارنتها بمفردات الواقع، بل يعتمد علي مفردات حسية. قدم الفنان "رزق" مجموعة من الأعمال التجريدية مستقلة عن موضوعات الواقع، ارتبط فيها مع مشاعره وإيقاعه النفسي مستخدماً اللغة التشكيلية، وتخلي عن التخطيط المسبق، مستخدماً الألوان والمساحات والأشكال المجردة في حالة تعبير فني فوري، له دلالات وتفسيرات علي حسب إشارات يصدرها اللاوعي، بمعني أننا نتوغل في اللوحة لنفهمها بإحساسنا وليس بعقولنا. أبحر الفنان نفسيا في أعماق نبض الإنسان والفنان علي السواء، وأكد من خلال هذا الإبحار أنه ليس هناك فصل بين مشاعر الفنان التشكيلي ومشاعر الإنسان العادي، فكلاهما نبض واحد، الفرق الوحيد بينهما هو أن الفنان التشكيلي قادر علي التعبير بأدواته الفنية التي يشكلها من صيغ وجدانية قريبة متشابهة مع الإنسان العادي، من غضب وشجون وهموم وتوتر وسكون وأحلام ورغبات وغيرها من الانفعالات الحرة غير المقيدة بمنطق عقلي. الرحلة التشكيلية لتجريدية رزق اعتمدت علي لغة الألوان وموسيقي المساحات ودلالاتها الحسية، فجاءت لوحاته محملة بصرخة مسموعة ذهنياً ووجدانياً لمتناقضات تدرجت من الهمس الهادي إلي البوح بأصوات صاخبة. اختزل الفنان الواقع الداخلي في مجموعات لونية زيتية شفافة ومتراكمة، ولكل مجموعة معني ومضمون يدرك بالبصيرة وليس بمجرد النظر، وجاءت ضربات الألوان باتجاهات مختلفة طولياً وعرضياً في تقاطع متزن، حاملة نغمات تخاطب المشاعر تمثل إيقاع حركيا انفعاليا أبدعه الفنان واعتمد فيه علي توافقات الألوان وانسجامها الغامض. ففي إحدي اللوحات جاء اللون الأحمر الناري الصارخ يمثل نغماً وصوتاً إيقاعياً، وجملة حسية استعارها من مفردات شعر العامية، أكده في التعبير الحر بكل الألوان، وإضاءة مباشرة للون دون تدريج ملحوظ، وهي لوحة تعبر عن مشهد حسي ووجداني للقاء في حوار تم بين اللون الأحمر مع اللون الأزرق، يتخلله بعض همسات من اللون الأبيض، توحي بوجود مساحة من النقاء والصفاء والشاعرية مازالت موجودة في أعماق كل من الفنان والإنسان العادي، أما مساحات اللون الأزرق المسيطرة بتواجدها في لوحات الفنان فهي تمثل اتجاها ميتافيزيقياً روحانياً، وهذا الاتجاه يشغل الفنان ويلح عليه باستقراره بين كل المجموعات اللونية الحارة الأصفر والبرتقالي والأحمر، والألوان الباردة، والألوان المركبة. مجموعة أخري من اللوحات جاء فيها ارتباط الألوان بدلالات سيكولوجية درامية المضمون والتشكيل تعبر عن حالة خوف وتوتر يعاني منها الإنسان، ترجمها الفنان في بعض المساحات اللونية المركبة من البني مع البرتقالي، وعبر عنها في عدة اتجاهات جاء بها من زوايا مختلفة في اللوحة، تتوغل بداخلها بعض المساحات من اللون الأصفرالذي يمثل بكل إضاءته ترجمة لحالة انتظار الآخر أو الأمل للخروج من حالة التوتر النفسي. أما حيرة الإنسان ومحاولته قبول الحياة بكل ما فيها من متغيرات وتطورات وتدهورات، التي قد تنتهي بوجود بعض الثوابت التراثية لحماية القيم الإنسانية، فعبر عنها الفنان من خلال بعض المساحات الهندسية من المثلث المقلوب متعدد الألوان، والمربع الأحمر الحاد الأطراف الذي يحيط بالمثلث ليحميه من التفكك، رسمها في مسار بصري يثير تساؤلات عند المتلقي، فوجود الألوان المتعددة هو تعبير عن متغيرات الحياة، لكنها محصورة داخل ثوابت تراثية هو شكل المثلث رغم أن المثلث مقلوب، هذا المثلث الهرمي أو الحافظ التراثي الفرعوني يمثل القيم الإنسانية والهوية المصرية والأصالة، ولابد من الاحتفاظ والتمسك بالهوية مقابل ما يطرأ من تطورات، فاستطاع الفنان في كل اللوحات أن يطرح ترجمة مختزلة للواقع الداخلي وعناصره بكل إيقاعاته ومتناقضاته، باستخدامه للغة التشكيلية، والبلاغة الحسية اللونية.