اليوم.. مجلس النواب يناقش حساب ختامي موازنة 2022/2023    سعر اليورو اليوم الثلاثاء 7-5-2024 مقابل الجنيه المصري في البنوك    341 مركزا تكنولوجيا تبدأ استقبال طلبات التصالح في مخالفات البناء.. اعرف الخطوات    أسعار الخضروات اليوم الثلاثاء 7-5-2024 في قنا    تثبيت سعر الفائدة في أستراليا    أسعار الأسمنت اليوم الثلاثاء 7 - 5 - 2024 في الأسواق    سعر كيلو العدس، أسعار العدس اليوم الثلاثاء 7-5-2024 في الأسواق    جوتيريش: الاجتياح الإسرائيلي لرفح سيكون أمرا لا يُحتمل    ماذا نعرف عن مدينة رفح التي تهدد إسرائيل باجتياحها عسكرياً؟    الجيش الإسرائيلي: تم إجلاء الغالبية العظمى من السكان في منطقة العمليات العسكرية شرقي رفح    الأهلي يتحدى الاتحاد في الدوري لمواصلة الانتصارات    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024 والقنوات الناقلة..الأهلي ضد الاتحاد    ميدو: الزمالك رفض التعاقد مع علي معلول    «الأرصاد»: انخفاض درجات الحرارة اليوم على القاهرة والسواحل الشمالية    بعد قليل.. أولى جلسات محاكمة المتهم بقتل وهتك عرض طفلة مدينة نصر    عرض عصام صاصا على الطب الشرعي لإجراء تحليل مخدرات    مصابو حادث تصادم الفيوم يغادرون المستشفى بعد استقرار حالتهم    الوطنية للطوارئ ترصد ظهور دلافين بمياه فايد في الإسماعيلية (فيديو )    7 نصائح لعلاقة ودية بعد الانفصال مثل ياسمين والعوضي.. «ابتعدي عن فخ المشاكل»    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 7-5-2024    «القاهرة الإخبارية» تعرض لقطات لفض شرطة الاحتلال بالقوة المظاهرات في تل أبيب    العاهل الأردني يطالب بمضاعفة المساعدات الإنسانية إلى غزة وإيصالها دون معيقات أو تأخير    ياسمين عبدالعزيز: ولادي مش بيحبوا «الدادة دودي» بسبب مشاهد المقالب    ياسمين عبد العزيز:" عملت عملية علشان أقدر أحمل من العوضي"    ياسمين عبدالعزيز: «مشاكل بيني وبين العوضي قبل نبوءة ليلى عبد اللطيف»    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الثلاثاء 7 مايو 2024    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    مصطفى شوبير يتلقى عرضا من الدوري السعودي.. الحقيقة كاملة    صدقي صخر: تعرضت لصدمات في حياتي خلتني أروح لدكتور نفسي    مصر تستعد لتجميع سيارات هيونداي النترا AD الأسبوع المقبل    وسائل إعلام أمريكية: القبض على جندي أمريكي في روسيا بتهمة السرقة    رامي صبري يحيي واحدة من أقوى حفلاته في العبور بمناسبة شم النسيم (صور)    ميلكا لوبيسكا دا سيلفا: بعد خسارة الدوري والكأس أصبح لدينا حماس أكبر للتتويج ببطولة إفريقيا    خبير لوائح: أخشي أن يكون لدى محامي فيتوريا أوراق رسمية بعدم أحقيته في الشرط الجزائي    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    وكيل صحة قنا يجري جولة موسعة للتأكد من توافر الدم وأمصال التسمم    مصرع سائق «تروسكيل» في تصادم مع «تريلا» ب الصف    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    ميدو: تقدمت باستقالتي من الإسماعيلي بسبب حسني عبد ربه    وفد قطري يتوجه للقاهرة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس اليوم    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثين منفصلين بإدفو شمال أسوان    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين تكتب إيزابيل الليندي عن إدواردو غاليانو
نشر في نقطة ضوء يوم 14 - 12 - 2015

حين غادرت الروائية إيزابيل الليندي وطنها تشيلي،إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الرئيس سلفادور الليندي المنتخبة شرعيا في ايلول عام 1973،لم تحمل معها سوى كتابين احدهما كان ذو غلاف اصفر وعنوانه(الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية) لادواردو غاليانو،كانت ايزابيل الليندي تعتبر غاليانو من أعظم ما أنجبت اميركا اللاتينية،في نيسان 2015 رحل عن عالمنا ادواردو غاليانو بعد ان ألف ثلاثين كتابا منوعا.
وبعد حياة حافلة بالكفاح من أجل الحرية،وكان كتابه الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية وهو الكتاب الذي أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز الى الرئيس الاميركي باراك اوباما،كان هذا الكتاب سفرا تاريخيا يوثق خمسة قرون من تاريخ قارة اميركا اللاتينية،هذه القارة التي تعرضت لشتى أنواع الغزوات والحروب الاستعمارية التي كانت تبغي نهب ثرواتها واستعباد شعوبها،كان غاليانو يريد بكتابه هذا أن يوثّق ويحلل تلك الاحداث،وكان اهتمامه منصبا على إستعادة الذاكرة والحفاظ عليها،كتاب غاليانو الشهير الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية بيع منه أكثر من مليون نسخة في الاوروغواي وتشيلي والارجنتين مع إن السلطات العسكرية في جميع هذه البلدان قد منعت تداوله،تقول إيزابيل الليندي عنه (هناك قوة غامضة في سرد قصص غاليانو،يستخدم حرفته ليغزو خصوصية عقل القارئ،ليحثه على ان يقرأويستمر في القراءة الى النهاية،مستسلما لسحر كتابته وسلطة مثاليته) لذلك فقد سرّها كثيرا أن تكتب مقدمة كتابه الشهير الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية والتي تستعرض فيه سيرة حياة هذا الكاتب الكبير وأعماله الخالدة والتي تقول فيها:
قبل عدة سنوات، عندما كنت صغيرة السن، وعندما كنت مازلت أعتقد أن العالم يمكن أن يتشكل وفقا لأفضل رغباتنا وآمالنا،أعطاني احدهم كتابا ذو غلاف أصفر، التهمته خلال يومين مع رغبة جامحة بان اعيد قراءته ثانية بضعة مرات، لكي استوعب جميع معانيه، كان ذلك الكتاب بعنوان:الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية من تأليف ادواردو غاليانو.
في بدايات سبعينيات القرن العشرين ، كانت شيلي جزيرة صغيرة في بحر عاصف أغرق التاريخ فيه أمريكا اللاتينية، تلك القارة التي تظهر في الخارطة على شكل قلب رجل مريض. كنا آنذاك في أيام حكم الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، وهو أول ماركسي على الاطلاق يصبح رئيسا في انتخابات ديمقراطية، وكان سلفادور الليندي هو ذلك الرجل الذي كان لديه حلم تحقيق المساواة والحرية وكان مندفعا لجعل هذا الحلم حقيقة. ورغم هذا فان ذلك الكتاب ذو الغلاف الاصفر، أثبت أنه ليس هناك جزر آمنة في منطقتنا، فنحن جميعا تشاركنا في 500 عام من الاستغلال والاستعمار، وكان يربطنا جميعا مصير مشترك ، وكنا جميعا ننتمي إلى نفس العرق من المظلومين. إذا كنت قد تمكنت من قراءة ما بين السطور، فيمكنني أن استنتج أن حكومة سلفادور الليندي كان محكوم عليها بالفشل منذ البداية. كان ذلك زمن الحرب الباردة، وكانت الولايات المتحدة مصممة على عدم السماح لنجاح اي تجربة يسارية في المنطقة التي كان هنري كيسنجر يدعوها ب"حديقتهم الخلفية". كانت الثورة الكوبية كافية.
ولن يتم التسامح مع اي مشروع اشتراكي آخر، حتى لو كان نتيجة لانتخابات ديمقراطية. في 11 ايلول 1973، حدث إنقلاب عسكري في تشيلي والذي أنهى قرن من التقاليد الديمقراطية في تشيلي وبدأ عهد طويل من حكم الجنرال أوغستو بينوشيه. وتبع ذلك حدوث انقلابات مماثلة في بلدان أخرى، وسرعان ما اصبح نصف سكان القارة يعيشون في ظل انظمة ترعبهم. كانت هذه الستراتيجية قد رسمت في واشنطن وفرضتها على شعوب اميركا اللاتينية قوى اليمين الاقتصادية والسياسية. في كل حالة من الحالات كان افراد الجيش يتصرفون مثل مرتزقة للمجموعات المهيمنة على السلطة. كان القمع يمارس على نطاق واسع.وأصبح التعذيب ومعسكرات الاعتقال، والرقابة، والسجن دون محاكمة، وصدور احكام الإعدام بعد محاكمات سريعة من الممارسات الشائعة.إختفى الآلاف من الناس الجماهير وهرب العشرات من المنفيين واللاجئين من بلدانهم حفاظا على حياتهم. أضيفت جروح جديدة إلى الندبات القديمة والحديثة التي كانت القارة قد تحملتها من قبل. في خضم هذا الجو السياسي،صدر كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية. جعل هذا الكتاب من إدواردو غاليانو بين عشية وضحاها إنسانا مشهورا، على الرغم من انه كان من قبل صحافيا سياسيا معروفا في بلده الأوروغواي.
ومثل جميع مواطنيه، أراد ادواردو أن يكون لاعب كرة قدم. وأراد أيضا أن يكون قديسا، ولكن كما اتضح فيما بعد، فقد انتهى به المطاف الى ارتكاب معظم الخطايا المميتة، وكما اعترف هو ذات مرة."لم يسبق لي أن قتلت شخصا، هذا صحيح، ولكن كان ذلك بسبب أنني كنت افتقر إلى الشجاعة أو الوقت، وليس لكوني افتقر إلى الرغبة"، وقال انه عمل ادواردو غاليانو في المجلة السياسية الأسبوعية مارتا، وعلى مدى ثمانية وعشرين عاما أصبح رئيس تحرير صحيفة ايبوكا وهي من الصحف المهمة في الاوروغواي. كتب مؤلفه الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية في ثلاثة أشهر، في الايام التسعين الأخيرة من عام 1970، بينما كان يعمل خلال النهار في الجامعة، وتحرير الكتب والمجلات، والنشرات الإخبارية.يقول غاليانو في كتابه:
كانت تلك من الأوقات العصيبة في أوروغواي.كانت الطائرات والسفن مليئة بالشباب الذين كانوا يهربون من الفقر والرداءة في بلد أجبرهم على أن يكونوا طاعنين في السن وهم لم يكملوا العشرين من العمر، وكان ينتج من العنف اكثر مما ينتج من اللحوم أو الصوف.وبعد الكسوف الذي استمر قرنا من الزمان، غزا الجيش المشهد بحجة محاربة العصابات. فقضى على فضاءات الحرية والتهم السلطة المدنية،و التي كانت أقل ما يقال عنها انه مدنية.
بحلول منتصف عام 1973 حدث انقلاب عسكري، وتم إعتقال غاليانو، وبعد فترة وجيزة غادر بلاده إلى المنفى في الأرجنتين، حيث أصدر مجلة أزمات. ولكن بحلول عام 1976 حدث انقلاب عسكري في الأرجنتين كذلك، و بدأت "الحرب القذرة" ضد المثقفين واليساريين والصحفيين والفنانين.
فبدأ غاليانو حياة جديدة في منفى آخر، وكان هذه المرة في إسبانيا، مع زوجته هيلينا فياغرا، . وفي اسبانيا كتب (أيام وليال من الحب والحرب)، وهو كتاب جميل حول الذاكرة، وبعد وقت قصير بدأ نوعا من الحوارات مع الروح الأميركية: فكتب (ذكريات من النار)،وهو لوحة جدارية ضخمة عن تاريخ أمريكا اللاتينية منذ عصر ما قبل كولومبوس الى العصور الجليدية الحديثة."لقد تخيلت ان أميركا كانت امرأة وكانت تقول في أذني أسرارها،وتخبرني عن أعمال الحب والظلم التي خلقت منها اميركا التي نعرفها". وقد عمل لمدة ثمانية اعوام يكتب بخط يده الاجزاء الثلاثة من هذا الكتاب،."أنا لست مهتم بشكل خاص في توفير الوقت؛ أنا أفضل أن استمتع به". وأخيرا، في عام 1985، بعد اجراء استفتاء هزمت فيه الديكتاتورية العسكرية في أوروغواي، أصبح غاليانو قادرا على العودة إلى بلده.
أستمرت حياته في المنفى أحد عشر عاما، لكنه لم يتعلم أن يكون في الظل ولم يتعلم الصمت؛ بمجرد أن وطأت قدماه مونتيفيديو عاصمة بلاده كان يعمل مرة أخرى لتحصين الديمقراطية الهشة التي حلت محل المجلس العسكري، واستمر في تحدي السلطات وعرض حياته للخطر لتنديده بجرائم النظام الدكتاتوري.
نشر إدواردو غاليانو أيضا العديد من الأعمال الروائية والشعرية.وهو مؤلف للعديد من المقالات التي لا حصر لها، ولديه الكثير من المقابلات، والمحاضرات. وحصل على العديد من الجوائز والدرجات الفخرية، تقديرا لموهبته الأدبية ونشاطه السياسي. وهو واحد من الكتاب الأكثر إثارة للاهتمام الذي انتجته أمريكا اللاتينية على الاطلاق، وهي منطقة معروفة بالاسماء الأدبية العظيمة. العمل عنده هو مزيج من التفاصيل الدقيقة و المعتقد السياسي، والتذوق الشعري، و رواية القصص على احسن ما يكون. وقد جاب أمريكا اللاتينية كلها وهو يستمع إلى أصوات الفقراء والمظلومين، وكذلك استمع الى القادة والمثقفين. و عاش مع الهنود والفلاحين والمتمردين والجنود والفنانين، والخارجين عن القانون. و تحدث إلى الرؤساء والطغاة،الى الشهداء، والكهنة، والأبطال،وقطاع الطرق، والأمهات اليائسات، والعاهرات المرضى. تعرض الى لدغات الثعابين، وعانى من الحمى الاستوائية، وسار في الغابات، ونجا من نوبة قلبية شديدة؛ وعانى من اضطهاد من الأنظمة القمعية وكذلك، من مضايقاتالإرهابيين المتعصبين. و عارض الدكتاتوريات العسكرية وكافة أشكال الوحشية والاستغلال، وتعرض الى مخاطر لا يمكن تصورها في طريق دفاعه عن حقوق الإنسان.لديه المعرفة االهائلة والعميقة باحوال أمريكا اللاتينية اكثر من أي شخص آخر يمكن أن يخطر على البال، ويستخدمها ليخبرنا عن عالم من الأحلام وخيبات الامل، عن آمال وإخفاقات شعوبها. وهو مغامر يمتلك موهبة الكتابة، وذوقلب رحيم، ويمتلك حسا عاليا ولطيفا من الفكاهة."نحن نعيش في عالم يعامل الموتى افضل من الأحياء، ونحن، الأحياء، من يسأل الأسئلة ويقدم الاجوبة، ونحن من لديه العيوب الخطيرة الأخرى التي لا تغتفر من قبل النظام الذي يرى ان الموت، مثل المال، يحسن من حياة الناس."
جميع هذه المواهب كانت بارزة للعيان بالفعل في كتابه الأول، الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية كما تجلت فيه عبقريته في رواية القصص. أنا اعرف إدواردو غاليانو شخصيا: فهويمكن له أن يصرخ بعدد لا نهاية له من القصص من دون ان يبذل جهدا يذكر ، ولفترة غير محددة من الزمن. في أحد المرات حدث وان تقطعت بنا السبل في فندق على الشاطئ في كوبا ولم تتوفر لنا وسائل نقل ولا اجهزة تكييف الهواء.
ولعدة أيام أمتعني غاليانو بقصص مذهلة، هذه الموهبة الخارقة في رواية القصص هي التي جعلت كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية كتابا من السهل جدا قرائته – كأنه رواية عن القراصنة، كما وصفه هو ذات مرة حتى بالنسبة لأولئك الذين ليسوا على دراية بشكل خاص بالمواضيع السياسية أو الاقتصادية. يتدفق الكتاب بسرد تلقائي؛ ومن المستحيل ان يتركه المرء. و حججه، والغضب الكامن فيه، والعاطفة المتقدة في ثناياه،ستتلاشى إذا لم يعبر عنها بهذا الاسلوب الرائع، مع مثل هذا التوقيت البارع والتشويق. كان غاليانو يحارب الاستغلال بشراسة لا هوادة فيها، ولكن هذا الكتاب يحمل وصفا شاعريا للتضامن بين الناس والقدرات البشرية على البقاء على قيد الحياة في خضم أسوأ انواع السلب لحقوق الانسان ونهبه واستغلاله. هناك قوة غامضة في طريقة غاليانو في رواية القصص. انه يستخدم حرفته لغزو خصوصية عقل القارئ، لإقناع القارئ او القارئة في مواصلة القراءة حتى النهاية، وفي الاستسلام لسحر كتاباته وقوة مثاليته.
في كتابه عن العناق، هناك قصة لادواردو غاليانو احببتها كثيرا. بالنسبة لي كانت استعارة رائعة من الكتابة بشكل عام ومن كتاباته على وجه الخصوص.
كان هناك رجل عجوزيعيش وحيدا يقضي معظم وقته في السرير. وكانت تدور شائعات عن أنه كان يخفي كنزا في منزله.وفي احد الايام جاءبعض اللصوص،و فتشوا في كل مكان ووجدواخزانة في القبو.فاخذوها معهم، وعندما فتحوها وجدوا أنها كانت مليئة بالرسائل كانت تلك رسائل حب كانت قد بعثت الى الرجل العجوز على مدار سنين حياته الطويلة.وكان اللصوص في طريقهم لحر ق تلك الرسائل ، لكنهم تجادلوا فيما بينهم وقرروا أخيرا إعادتها. واحدة تلو الآخرى.وكانوا يعيدون رسالة واحدة في الأسبوع. ومنذ ذلك الحين،كان الرجل العجوز وفي ظهيرة كل يوم اثنين ينتظر ظهور ساعي البريد وحالما يراه، يبدأ بالجري و ساعي البريد الذي يعرف كل القصة، يحمل الرسالة في يده. وكان يمكن سماع دقات قلب ذلك الرجل العجوز من امكنة بعيدة،الذي كان مجنونا من الفرح لتلقيه رسالة من امرأة.
أليس هذا هو جوهر التلاعب في الأدب؟ تحويل الاحداث من خلال الحقيقة الشعرية، الكتاب هم مثل اولئك اللصوص، يأخذون شيئا حقيقيا، مثل الرسائل، وبخدعة سحرية يقومون بتحويله إلى شيء آخر، جديد تماما.
في حكاية غاليانو كانت الرسائل موجودة عند الرجل العجوز في المقام الأول، ولكنها بقيت غير مقروءة وفي ظلام القبو، لقد كانت ميتة. ومن خدعة بسيطة عن طريق إرسالها بالبريد الواحدة تلو الآخرى،فقد قام هؤلاء اللصوص ببعث حياة جديدة في هذه الرسائل وخلق أوهام جديدة عند ذلك الرجل العجوز.
بالنسبة لي هذا هو ما يعجبني في عمل غاليانو: العثور على كنوز مخبأة، وإيقاد النار في أحداث أصبحت بالية، وتنشيط الروح المتعبة بإيقاد نار العاطفة كتاب الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية هو دعوة لاستكشاف ما وراء ظهور الأشياء. الأعمال الأدبية العظيمة مثل هذا العمل توقظ الوعي، وتجمع الناس معا، تفسر، وتشرح، وتهمل، وتسجل، وتحرض على التغيير. وهناك جانب آخر يلهمني عند إدواردو غاليانو. هذا الرجل الذي لديه مثل هذه المعرفة الهائلة والذي -من خلال دراسة القرائن والاشارات – يحمل الإحساس بالتنبؤ، هو انسان متفائل. في نهاية كتابه قرن من الرياح، وهو الجزء الثالث من كتاب ذاكرة النار، وبعد 600 صفحة تثبت الإبادة الجماعية، و القسوة وسوء المعاملة والاستغلال التي مورست بحق شعوب اميركا اللاتينية بعد إعادةحساب صبور لكل ما قد سرق وما زال يسرق من القارة الآن، فانه يكتب ما يلي:
شجرة الحياة تعرف تماما أنه مهما يحدث، فان الموسيقى الدافئة حولها لن تتوقف أبدا.مهما كان حجم الموت الكبير الذي قد يأتي، وحجم الدم الكثير الذي قد يتدفق، فان الموسيقى ستجعل الرجال والنساء يرقصون بقدر ما يتنفسونه من الهواء وبقدر ما تعطيهم الأرض وتحبهم. نٌفٌس الأمل هذا هو ما يثيرني أكثر في اعمال غاليانو. ومثل الآلاف من اللاجئين في جميع أنحاء القارة، كان علي أن أغادر بلدي بعد الانقلاب العسكري عام 1973. ولم أخذ الكثير معي: بعض الملابس، وصور عائلية،و حقيبة صغيرة فيها حفنة تراب من حديقتي، وكتابين: الاول طبعة قديمة من قصائد كتبها بابلو نيرودا، والثاني كتاب ذو غلاف أصفر، عنوانه الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية. وبعد مرور أكثر من عشرين عاما لا زلت أحمل نفس الكتاب معي. وهذا هو السبب في أنه لا يمكنني أن أفوت هذه الفرصة لكتابةهذه المقدمة واشكر إدواردو غاليانو على الملأ لحبه المدهش للحرية، ومساهمته في صقل وعيي بصفتي كاتبة وبصفتي مواطنة من أمريكا اللاتينية.و كما قال ذات مرة:"يجدر بنا ان نموت من أجل تلك الأشياءالتي بدونها لا يجدر بنا أن نعيش".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.