لم يكن ماركيز وحده الذي عرف العالم من خلاله أمريكا اللاتينية وواقعيتها التي تشبه السحر، لكنه كان نجما جعل الأدب على أنامل ومسامع الجماهير العادية فعرف العالم كله وليس النخبة المثقفة فقط تلك القارة العجائبية المليئة بالسحر والخرافات واللامنطق وبعجينة الحياة في فطرتها المتوحشة. وعرف العالم- ربما بسببه- أن الأدب ليس إرثا أوروبيا فقط بل إن له خارطة واسعة, بفضل ذلك المبدع الذي غير بإبداعه خارطة الكتابة في العالم. وعندما تتذكر كاتبة مثل إيزابيل الليندي الروائية الشيلية التي ولدت في أغسطس 1942، وهى صاحبة روايات مهمة مثل بولا وبيت الأرواح و إيفالونا, والحاصلة على العديد من الجوائز الأدبية الكبيرة، و هى من الأسماء المرشحة دائماً للحصول على جائزة نوبل، عندما تتذكر جابرييل جارسيا ماركيز فإنها إنما تتذكر قارة كاملة وتتذكر مشوارها هى مع الفن والأدب وذكريات العالم السياسي في شيلي وأمريكا الجنوبية. وهذه هى عظمة كاتب يجعلنا نقرأ أنفسنا والعالم بينما هو يكتب عن قريته المنسية. تتحدث الليندي, التي تُصنف كتاباتها أيضاً في إطار الواقعية السحرية، لقناة "ديموكراسي" الأمريكية – فى لقاء تمحور حول أديب نوبل الراحل الكبير - عن عاصفة الأدب الأمريكي اللاتيني التي اجتاحت العالم في النصف الثاني من القرن الماضي.. والتي بدأت في عام 1963، برواية لكاتب مجهول – حينها – اسمه ماريو فارجاس يوسا.. "..كانت تلك هي اللحظة التي انتبه فيها العالم إلى أن لدينا كتابا عظاما. وقد كان هناك بالفعل كورال من أصوات متعددة. لكن الصوت الأهم كان صوت جابرييل جارسيا ماركيز وروايته "مائة عام من العزلة"1967 و ما كتبه بعدها من روايات لم تكن فقط تستقبل بحفاوة بالغة من النقاد وتترجم فورا وتنال الجوائز، لكنها كانت أيضا روايات جماهيرية. كانت قراءة رواياته كقراءة روايات ديكنز أو بلزاك. فرجل الشارع كان يقرأ ماركيز، وهكذا فقد غزا الجمهور بطريقته، بل وغزا العالم وحكى للعالم كله عنا، أبناء أمريكا اللاتينية، كما حكى لنا نحن أيضا عمن نكون.. في صفحاته رأينا أنفسا كما في المرآة". كان ماركيز نجما على طريقة مغني الروك .. كل ما كان يفعله أو يقوله يتناقله الناس, ليس في أمريكا اللاتينية فقط بل وفي كل أنحاء العالم. وهذا أمر شائع في أمريكا اللاتينية، كما تشير ألليندي، فبعض الكتاب، لأنهم كتاب، انتخبوا كرؤساء.. "..الكتاب عندنا يستشارون كما لو كانوا فلكيين أو أنصاف أنبياء. الكل يفترض أنهم يعرفون كل شيء. وهذا يبدو منطقيا نوعا ما لأنه في قارة معقدة وغريبة مثل أمريكا اللاتينية، يلخص الكتاب حقيقتنا وواقعنا، وأحلامنا وآمالنا ومخاوفنا. إنهم يعيدون إلينا تاريخنا، وهو أمر ساحر ومخيف في آن".
متى قرأت “مائة عام من العزلة” للمرة الأولى؟ "الرواية نشرت في عام 1967، وقرأتها بعدها بعام واحد. كنت قد أنجبت ابني نيكولاس في عام 1966، وعدت إلى عملي في مجلة للمرأة. وأذكر أنني عندما بدأت قراءة الرواية لم أذهب إلى العمل. جلست في البيت ومعي الرواية إلى أن انتهيت من قراءتها. كان الأمر وكأن شخصا ما يحكي لي تاريخي أنا.. حكايتي وتاريخ أسرتي وبلدي والناس الذين أعرفهم جميعا. بالنسبة لي لم يكن هناك شيئ سحري فيها.. سوى الجدة. فأنا أيضا نشأت في بيت جدي وجدتي مثله. وما حدث مع ماركيز عندما أرسل أحد مخطوطات كتبه في رسالتين على مرتين لأنه لم يكن يملك ثمن إرسالها على بعضها، هذا أيضا حدث معي في كتابي "بيت الأرواح" بعدها بسنوات عديدة. كنت أعيش في فنزويلا ولم يكن معي من المال ما يكفي لإرسال مخطوطة كتابي فأرسلتها على مرتين. كانت هناك أوجه تشابه بيننا. وكان لنا أيضا نفس وكيلة الأعمال، كارمن بالسيلز، التي كانت تقول لي دائما أن ردود أفعالي تشبهه وتذكرها به. مثلا، عندما كنا نتسلم عقد كتاب لم نكن نقرأ العقد. كنا نوقع مباشرة. وفجأة ومن دون سبب واضح نقرأ ونقول: لا .. لن أوقع هذا البند أو ذاك". في رأيك ما الذي جعل "مائة عام من العزلة" رواية مؤثرة هكذا ليس فقط في أمريكا اللاتينية بل في العالم كله ؟ إنها قصة أسرة من عدة أجيال في جزء منسي من كولومبيا، بلدة صغيرة. وأعتقد أن ما حدث مع الواقعية السحرية ،وجعل الناس في العالم كله ترتبط بها هو أن الحياة شديدة الغموض, والإنسان لا يستطيع أن يسيطر على أي شيء فيها. ومع ذلك نحاول دائما أن نعيش في عالم تحت السيطرة، لكي نشعر بالأمان. وفي هذه الرواية، وما تلاها من روايات، كان هناك انفجار من الأمور التي لا تصدق، التي تحيط بنا طوال الوقت. أعتقد أن الأمر يتعلق بقبول حقيقة أننا لا نسيطر على شيء، وليست هناك تفسيرات منطقية لكل شيئ، وأن هناك شيئا اسمه الأرواح. وهناك مصادفات غير عقلانية ، ورؤى، وأشياء تبدو كالسحر لأننا لا نستطيع تفسيرها. أعتقد أنه قبل قرون مضت كان اكتشاف الكهرباء سيبدو سحرا. ربما بعد مائتي عام من العزلة يمكننا أن نجد تفسيرا لما يبدو لنا الآن غامضا وسحريا. في هذه الرواية وربما في الحياة. "الواقعية السحرية".. كيف تم ابتكار هذا المصطلح؟ وما تأثيره عليك ككاتبة وعلى العالم؟ ما أعرفه أن ماركيز لم يخترع هذا المنحا فى الإبداع. لكنه كان من استطاع أن يجمعه ويركبه بشكل مبتكر رائع بحيث يتم تقبله وتداوله. لكنه بدأ قبله بكثير. أعتقد أن الواقعية السحرية بدأت مع المستكشفين الذين جاءوا إلى أمريكا اللاتينية، وكانوا يكتبون الرسائل إلى الملك في إسبانيا، يتحدثون فيها عن القارة التي اكتشفوها، والتي كانت ينبوع الشباب، حيث تستطيع أن تلتقط الذهب والماس من الأرض.. وبذلك بدأت الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية وإسبانيا معا أما المصطلح فقد صكه كاتب كوبي في البداية، ثم استخدمه ماركيز فانتشر في العالم. أحد أهم العوامل التي شكلت ماركيز وحياته -إلى جانب أسرته- كان المناخ السياسي الذي نشأ فيه، منذ حركة العنف سيئة السمعة في كولومبيا، حيث قتل 300 ألف شخص في حرب أهلية، وحتى حروب المخدرات بعدها ، وتدمير المجتمع الكولومبي. كيف ترين أراءه السياسية والطريقة التي عبر بها عنها في أدبه؟ لقد كان يساريا دائما.. من البداية حتى النهاية. وقد نشأت بينه وبين فيدل كاسترو صداقة في وقت مبكر في أثناء الثورة الكوبية. وكان معشوق الجماهير الكوبية، وقد زار كوبا وعاش فيها عدة مرات, وأسس معهدا للسينما في هافانا. وقد جلبت عليه آراؤه اليسارية الكثير من المشاكل في كولومبيا فعاش في المكسيك و عدة أماكن أخرى. وجاءت فترة لم يكن يستطيع فيها أن يعيش في كولومبيا لأنه كان مهددا بالقتل. وقد توفي في المكسيك, ولم يكن وحده من توفي هناك ، لأن عددا كبيرا من كتابنا في ذلك العصر عاشوا في المنفى وكتبوا في المنافي، في أوروبا وغيرها، حيث لم يكونوا آمنين في بلادهم. هذا ما حدث في شيلي أيضا. حيث هاجرت موجة من الكتاب الشيليين بعد الانقلاب العسكري، وكتبوا أدبهم في المنافي. إيزابيل الليندي.. ابن عمك سلفادور الليندي كان رئيسا لشيلي، وأطاح به الجنرال بينوشيه، ومات في قصره في 11 سبتمبر 1973.. كيف ترين ارتباط تلك الأحداث بسيرتك الأدبية ؟ لقد كتب ماركيز عن تلك الأحداث, فقد كان ناشطا بقوة ضد الديكتاتورية, وفي ذلك الوقت كانت شيلي أوضح حالة إنقلاب عسكري وديكتاتورية في العالم, والتفت العالم كله الى شيلي. لكن كانت هناك ديكتاتوريات عدة في أمريكا اللاتينية . كانت هناك الحرب القذرة التي بدأت بعد قليل في الأرجنتين ثم في أوروجواي وفي البرازيل، وغيرها .. لم يكن هناك مفر نلجأ إليه.. كانت الناس تفر من بلادها وتحاول أن تجد ملجأ في مكان آخر، لتجد ديكتاتورية أخرى في ذلك المكان. وهذا ما حدث لكثير من الشيليين الذين ذهبوا إلى الأرجنتين وماتوا هناك. كان ماركيز واعيا بذلك كله و قد عاش في طفولته في بلده ، وكان في ذلك الوقت في باريس هربا من قمع الحكومات ، وقد كتب عن هذا كله. وفي كتابه "خريف البطريرك"، استعارة شديدة البلاغة عن أمريكا اللاتينية كلها، يلخص بها الفزع الذي أحدثته الحكومات الأوتوقراطية، والجهل والاستغلال، والقتل. أعتقد أن هذا الكتاب يكشف كل الديكتاتوريات. ماركيز قال عن الصحافة والرواية: “تحولت إلى الصحافة لأن الشيء الوحيد الذي كان أكثر إثارة من الأدب بالنسبة لي كان الحكي عن أشياء حقيقية واقعية. من هنا يجب أن يُنظر إلى الصحافة على أنها نمط أدبي.خاصة الريبورتاج. الذي اراه نمطا ابداعيا أشبه بقصة قصيرة ضاربة بجذورها في الواقع. والقصة نفسها لا بد أن يكون لها جذور في الواقع فليس هناك رواية مختلقة تماما من الخيال. فماذا عنك- إيزابيل الليندى – أنت أيضا بدأت كصحفية.. كيف تنظرين إلى الصحافة؟ أنا مثل كثير من كتاب أمريكا اللاتينية الذين بدأوا كصحفيين، وحتى عندما أصبحوا روائيين استمروا في العمل بالصحافة. أعتقد أن الصحافة مهمة, لأنها تمنح الكاتب الأفكار عندما يحتك بالواقع .. بالنسبة لي بدأت كصحفية لكني كنت صحفية سيئة ، ولم أستطع أبدا أن ألتزم بالوقائع والحقائق أو أن أكون موضوعية فيما أكتبه . وأعتقد أن ماركيز أيضا لم يكن موضوعيا كصحفي. التقيت الشاعر الكبير بابلو نيرودا قبل وفاته بأيام وحدثك أيضا عن الصحافة.. هل تتذكرين ذلك اللقاء القديم ؟ كان نيرودا ثاني فائز بنوبل للأدب من شيلي. وقد ذهبت إليه قبل وقوع الانقلاب العسكري في 1973 في بيته في ايسلا نيجرا حيث عاد إلى شيلي بعد مرضه لأنه أراد أن يموت ويدفن هناك. وطلبت أن أجري حوارا معه بعد أن تناولنا الطعام وتجاذبنا أطراف الحديث, فرفض وقال لي: لا يمكن أن تجري معي حواراً .. أنت أسوأ صحفيه على وجه الأرض.. أنت تكذبين طوال الوقت، لا يمكنك أن تقولي الحقيقة. أنت تضعين نفسك دائما وسط كل شيء. لا يمكنك أن تكوني موضوعية. وأنا واثق أنه إذا لم يكن لدي ما أقوله فستختلقين قصة ما. لم لا تتجهين لكتابة الأدب، حيث تصبح تلك العيوب كلها مميزات وفضائل؟! ويبدو ان إيزابيل الليندي استمعت إلى نصيحة الشاعر الكبير نيرودا وأصبحت واحدة من أهم كاتبات أمريكا اللاتينية والعالم برواياتها التي تحول بعضها الى افلام شهيرة مثل بيت الأرواح.