عيار 21 بالمصنعية يهبط 90 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الخميس 31-7-2025 (محلياً وعالميًا)    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع كوريا الجنوبية    أمريكا: تحذيرات في كريسنت سيتي بعد أضرار بميناء المدينة جراء موجة مد بحري مفاجئة    «يوم استثنائي».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ورياح مُحملة بالأتربة    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إسرائيل تندد بموقف كندا من الاعتراف بفلسطين: مكافأة لحماس    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    نحن ضحايا «عك»    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين تكتب إيزابيل الليندي عن إدواردو غاليانو
نشر في صوت البلد يوم 14 - 12 - 2015

حين غادرت الروائية إيزابيل الليندي وطنها تشيلي،إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الرئيس سلفادور الليندي المنتخبة شرعيا في ايلول عام 1973،لم تحمل معها سوى كتابين احدهما كان ذو غلاف اصفر وعنوانه(الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية) لادواردو غاليانو،كانت ايزابيل الليندي تعتبر غاليانو من أعظم ما أنجبت اميركا اللاتينية،في نيسان 2015 رحل عن عالمنا ادواردو غاليانو بعد ان ألف ثلاثين كتابا منوعا.
وبعد حياة حافلة بالكفاح من أجل الحرية،وكان كتابه الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية وهو الكتاب الذي أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز الى الرئيس الاميركي باراك اوباما،كان هذا الكتاب سفرا تاريخيا يوثق خمسة قرون من تاريخ قارة اميركا اللاتينية،هذه القارة التي تعرضت لشتى أنواع الغزوات والحروب الاستعمارية التي كانت تبغي نهب ثرواتها واستعباد شعوبها،كان غاليانو يريد بكتابه هذا أن يوثّق ويحلل تلك الاحداث،وكان اهتمامه منصبا على إستعادة الذاكرة والحفاظ عليها،كتاب غاليانو الشهير الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية بيع منه أكثر من مليون نسخة في الاوروغواي وتشيلي والارجنتين مع إن السلطات العسكرية في جميع هذه البلدان قد منعت تداوله،تقول إيزابيل الليندي عنه (هناك قوة غامضة في سرد قصص غاليانو،يستخدم حرفته ليغزو خصوصية عقل القارئ،ليحثه على ان يقرأويستمر في القراءة الى النهاية،مستسلما لسحر كتابته وسلطة مثاليته) لذلك فقد سرّها كثيرا أن تكتب مقدمة كتابه الشهير الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية والتي تستعرض فيه سيرة حياة هذا الكاتب الكبير وأعماله الخالدة والتي تقول فيها:
قبل عدة سنوات، عندما كنت صغيرة السن، وعندما كنت مازلت أعتقد أن العالم يمكن أن يتشكل وفقا لأفضل رغباتنا وآمالنا،أعطاني احدهم كتابا ذو غلاف أصفر، التهمته خلال يومين مع رغبة جامحة بان اعيد قراءته ثانية بضعة مرات، لكي استوعب جميع معانيه، كان ذلك الكتاب بعنوان:الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية من تأليف ادواردو غاليانو.
في بدايات سبعينيات القرن العشرين ، كانت شيلي جزيرة صغيرة في بحر عاصف أغرق التاريخ فيه أمريكا اللاتينية، تلك القارة التي تظهر في الخارطة على شكل قلب رجل مريض. كنا آنذاك في أيام حكم الرئيس الاشتراكي سلفادور الليندي، وهو أول ماركسي على الاطلاق يصبح رئيسا في انتخابات ديمقراطية، وكان سلفادور الليندي هو ذلك الرجل الذي كان لديه حلم تحقيق المساواة والحرية وكان مندفعا لجعل هذا الحلم حقيقة. ورغم هذا فان ذلك الكتاب ذو الغلاف الاصفر، أثبت أنه ليس هناك جزر آمنة في منطقتنا، فنحن جميعا تشاركنا في 500 عام من الاستغلال والاستعمار، وكان يربطنا جميعا مصير مشترك ، وكنا جميعا ننتمي إلى نفس العرق من المظلومين. إذا كنت قد تمكنت من قراءة ما بين السطور، فيمكنني أن استنتج أن حكومة سلفادور الليندي كان محكوم عليها بالفشل منذ البداية. كان ذلك زمن الحرب الباردة، وكانت الولايات المتحدة مصممة على عدم السماح لنجاح اي تجربة يسارية في المنطقة التي كان هنري كيسنجر يدعوها ب"حديقتهم الخلفية". كانت الثورة الكوبية كافية.
ولن يتم التسامح مع اي مشروع اشتراكي آخر، حتى لو كان نتيجة لانتخابات ديمقراطية. في 11 ايلول 1973، حدث إنقلاب عسكري في تشيلي والذي أنهى قرن من التقاليد الديمقراطية في تشيلي وبدأ عهد طويل من حكم الجنرال أوغستو بينوشيه. وتبع ذلك حدوث انقلابات مماثلة في بلدان أخرى، وسرعان ما اصبح نصف سكان القارة يعيشون في ظل انظمة ترعبهم. كانت هذه الستراتيجية قد رسمت في واشنطن وفرضتها على شعوب اميركا اللاتينية قوى اليمين الاقتصادية والسياسية. في كل حالة من الحالات كان افراد الجيش يتصرفون مثل مرتزقة للمجموعات المهيمنة على السلطة. كان القمع يمارس على نطاق واسع.وأصبح التعذيب ومعسكرات الاعتقال، والرقابة، والسجن دون محاكمة، وصدور احكام الإعدام بعد محاكمات سريعة من الممارسات الشائعة.إختفى الآلاف من الناس الجماهير وهرب العشرات من المنفيين واللاجئين من بلدانهم حفاظا على حياتهم. أضيفت جروح جديدة إلى الندبات القديمة والحديثة التي كانت القارة قد تحملتها من قبل. في خضم هذا الجو السياسي،صدر كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية. جعل هذا الكتاب من إدواردو غاليانو بين عشية وضحاها إنسانا مشهورا، على الرغم من انه كان من قبل صحافيا سياسيا معروفا في بلده الأوروغواي.
ومثل جميع مواطنيه، أراد ادواردو أن يكون لاعب كرة قدم. وأراد أيضا أن يكون قديسا، ولكن كما اتضح فيما بعد، فقد انتهى به المطاف الى ارتكاب معظم الخطايا المميتة، وكما اعترف هو ذات مرة."لم يسبق لي أن قتلت شخصا، هذا صحيح، ولكن كان ذلك بسبب أنني كنت افتقر إلى الشجاعة أو الوقت، وليس لكوني افتقر إلى الرغبة"، وقال انه عمل ادواردو غاليانو في المجلة السياسية الأسبوعية مارتا، وعلى مدى ثمانية وعشرين عاما أصبح رئيس تحرير صحيفة ايبوكا وهي من الصحف المهمة في الاوروغواي. كتب مؤلفه الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية في ثلاثة أشهر، في الايام التسعين الأخيرة من عام 1970، بينما كان يعمل خلال النهار في الجامعة، وتحرير الكتب والمجلات، والنشرات الإخبارية.يقول غاليانو في كتابه:
كانت تلك من الأوقات العصيبة في أوروغواي.كانت الطائرات والسفن مليئة بالشباب الذين كانوا يهربون من الفقر والرداءة في بلد أجبرهم على أن يكونوا طاعنين في السن وهم لم يكملوا العشرين من العمر، وكان ينتج من العنف اكثر مما ينتج من اللحوم أو الصوف.وبعد الكسوف الذي استمر قرنا من الزمان، غزا الجيش المشهد بحجة محاربة العصابات. فقضى على فضاءات الحرية والتهم السلطة المدنية،و التي كانت أقل ما يقال عنها انه مدنية.
بحلول منتصف عام 1973 حدث انقلاب عسكري، وتم إعتقال غاليانو، وبعد فترة وجيزة غادر بلاده إلى المنفى في الأرجنتين، حيث أصدر مجلة أزمات. ولكن بحلول عام 1976 حدث انقلاب عسكري في الأرجنتين كذلك، و بدأت "الحرب القذرة" ضد المثقفين واليساريين والصحفيين والفنانين.
فبدأ غاليانو حياة جديدة في منفى آخر، وكان هذه المرة في إسبانيا، مع زوجته هيلينا فياغرا، . وفي اسبانيا كتب (أيام وليال من الحب والحرب)، وهو كتاب جميل حول الذاكرة، وبعد وقت قصير بدأ نوعا من الحوارات مع الروح الأميركية: فكتب (ذكريات من النار)،وهو لوحة جدارية ضخمة عن تاريخ أمريكا اللاتينية منذ عصر ما قبل كولومبوس الى العصور الجليدية الحديثة."لقد تخيلت ان أميركا كانت امرأة وكانت تقول في أذني أسرارها،وتخبرني عن أعمال الحب والظلم التي خلقت منها اميركا التي نعرفها". وقد عمل لمدة ثمانية اعوام يكتب بخط يده الاجزاء الثلاثة من هذا الكتاب،."أنا لست مهتم بشكل خاص في توفير الوقت؛ أنا أفضل أن استمتع به". وأخيرا، في عام 1985، بعد اجراء استفتاء هزمت فيه الديكتاتورية العسكرية في أوروغواي، أصبح غاليانو قادرا على العودة إلى بلده.
أستمرت حياته في المنفى أحد عشر عاما، لكنه لم يتعلم أن يكون في الظل ولم يتعلم الصمت؛ بمجرد أن وطأت قدماه مونتيفيديو عاصمة بلاده كان يعمل مرة أخرى لتحصين الديمقراطية الهشة التي حلت محل المجلس العسكري، واستمر في تحدي السلطات وعرض حياته للخطر لتنديده بجرائم النظام الدكتاتوري.
نشر إدواردو غاليانو أيضا العديد من الأعمال الروائية والشعرية.وهو مؤلف للعديد من المقالات التي لا حصر لها، ولديه الكثير من المقابلات، والمحاضرات. وحصل على العديد من الجوائز والدرجات الفخرية، تقديرا لموهبته الأدبية ونشاطه السياسي. وهو واحد من الكتاب الأكثر إثارة للاهتمام الذي انتجته أمريكا اللاتينية على الاطلاق، وهي منطقة معروفة بالاسماء الأدبية العظيمة. العمل عنده هو مزيج من التفاصيل الدقيقة و المعتقد السياسي، والتذوق الشعري، و رواية القصص على احسن ما يكون. وقد جاب أمريكا اللاتينية كلها وهو يستمع إلى أصوات الفقراء والمظلومين، وكذلك استمع الى القادة والمثقفين. و عاش مع الهنود والفلاحين والمتمردين والجنود والفنانين، والخارجين عن القانون. و تحدث إلى الرؤساء والطغاة،الى الشهداء، والكهنة، والأبطال،وقطاع الطرق، والأمهات اليائسات، والعاهرات المرضى. تعرض الى لدغات الثعابين، وعانى من الحمى الاستوائية، وسار في الغابات، ونجا من نوبة قلبية شديدة؛ وعانى من اضطهاد من الأنظمة القمعية وكذلك، من مضايقاتالإرهابيين المتعصبين. و عارض الدكتاتوريات العسكرية وكافة أشكال الوحشية والاستغلال، وتعرض الى مخاطر لا يمكن تصورها في طريق دفاعه عن حقوق الإنسان.لديه المعرفة االهائلة والعميقة باحوال أمريكا اللاتينية اكثر من أي شخص آخر يمكن أن يخطر على البال، ويستخدمها ليخبرنا عن عالم من الأحلام وخيبات الامل، عن آمال وإخفاقات شعوبها. وهو مغامر يمتلك موهبة الكتابة، وذوقلب رحيم، ويمتلك حسا عاليا ولطيفا من الفكاهة."نحن نعيش في عالم يعامل الموتى افضل من الأحياء، ونحن، الأحياء، من يسأل الأسئلة ويقدم الاجوبة، ونحن من لديه العيوب الخطيرة الأخرى التي لا تغتفر من قبل النظام الذي يرى ان الموت، مثل المال، يحسن من حياة الناس."
جميع هذه المواهب كانت بارزة للعيان بالفعل في كتابه الأول، الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية كما تجلت فيه عبقريته في رواية القصص. أنا اعرف إدواردو غاليانو شخصيا: فهويمكن له أن يصرخ بعدد لا نهاية له من القصص من دون ان يبذل جهدا يذكر ، ولفترة غير محددة من الزمن. في أحد المرات حدث وان تقطعت بنا السبل في فندق على الشاطئ في كوبا ولم تتوفر لنا وسائل نقل ولا اجهزة تكييف الهواء.
ولعدة أيام أمتعني غاليانو بقصص مذهلة، هذه الموهبة الخارقة في رواية القصص هي التي جعلت كتاب الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية كتابا من السهل جدا قرائته – كأنه رواية عن القراصنة، كما وصفه هو ذات مرة حتى بالنسبة لأولئك الذين ليسوا على دراية بشكل خاص بالمواضيع السياسية أو الاقتصادية. يتدفق الكتاب بسرد تلقائي؛ ومن المستحيل ان يتركه المرء. و حججه، والغضب الكامن فيه، والعاطفة المتقدة في ثناياه،ستتلاشى إذا لم يعبر عنها بهذا الاسلوب الرائع، مع مثل هذا التوقيت البارع والتشويق. كان غاليانو يحارب الاستغلال بشراسة لا هوادة فيها، ولكن هذا الكتاب يحمل وصفا شاعريا للتضامن بين الناس والقدرات البشرية على البقاء على قيد الحياة في خضم أسوأ انواع السلب لحقوق الانسان ونهبه واستغلاله. هناك قوة غامضة في طريقة غاليانو في رواية القصص. انه يستخدم حرفته لغزو خصوصية عقل القارئ، لإقناع القارئ او القارئة في مواصلة القراءة حتى النهاية، وفي الاستسلام لسحر كتاباته وقوة مثاليته.
في كتابه عن العناق، هناك قصة لادواردو غاليانو احببتها كثيرا. بالنسبة لي كانت استعارة رائعة من الكتابة بشكل عام ومن كتاباته على وجه الخصوص.
كان هناك رجل عجوزيعيش وحيدا يقضي معظم وقته في السرير. وكانت تدور شائعات عن أنه كان يخفي كنزا في منزله.وفي احد الايام جاءبعض اللصوص،و فتشوا في كل مكان ووجدواخزانة في القبو.فاخذوها معهم، وعندما فتحوها وجدوا أنها كانت مليئة بالرسائل كانت تلك رسائل حب كانت قد بعثت الى الرجل العجوز على مدار سنين حياته الطويلة.وكان اللصوص في طريقهم لحر ق تلك الرسائل ، لكنهم تجادلوا فيما بينهم وقرروا أخيرا إعادتها. واحدة تلو الآخرى.وكانوا يعيدون رسالة واحدة في الأسبوع. ومنذ ذلك الحين،كان الرجل العجوز وفي ظهيرة كل يوم اثنين ينتظر ظهور ساعي البريد وحالما يراه، يبدأ بالجري و ساعي البريد الذي يعرف كل القصة، يحمل الرسالة في يده. وكان يمكن سماع دقات قلب ذلك الرجل العجوز من امكنة بعيدة،الذي كان مجنونا من الفرح لتلقيه رسالة من امرأة.
أليس هذا هو جوهر التلاعب في الأدب؟ تحويل الاحداث من خلال الحقيقة الشعرية، الكتاب هم مثل اولئك اللصوص، يأخذون شيئا حقيقيا، مثل الرسائل، وبخدعة سحرية يقومون بتحويله إلى شيء آخر، جديد تماما.
في حكاية غاليانو كانت الرسائل موجودة عند الرجل العجوز في المقام الأول، ولكنها بقيت غير مقروءة وفي ظلام القبو، لقد كانت ميتة. ومن خدعة بسيطة عن طريق إرسالها بالبريد الواحدة تلو الآخرى،فقد قام هؤلاء اللصوص ببعث حياة جديدة في هذه الرسائل وخلق أوهام جديدة عند ذلك الرجل العجوز.
بالنسبة لي هذا هو ما يعجبني في عمل غاليانو: العثور على كنوز مخبأة، وإيقاد النار في أحداث أصبحت بالية، وتنشيط الروح المتعبة بإيقاد نار العاطفة كتاب الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية هو دعوة لاستكشاف ما وراء ظهور الأشياء. الأعمال الأدبية العظيمة مثل هذا العمل توقظ الوعي، وتجمع الناس معا، تفسر، وتشرح، وتهمل، وتسجل، وتحرض على التغيير. وهناك جانب آخر يلهمني عند إدواردو غاليانو. هذا الرجل الذي لديه مثل هذه المعرفة الهائلة والذي -من خلال دراسة القرائن والاشارات – يحمل الإحساس بالتنبؤ، هو انسان متفائل. في نهاية كتابه قرن من الرياح، وهو الجزء الثالث من كتاب ذاكرة النار، وبعد 600 صفحة تثبت الإبادة الجماعية، و القسوة وسوء المعاملة والاستغلال التي مورست بحق شعوب اميركا اللاتينية بعد إعادةحساب صبور لكل ما قد سرق وما زال يسرق من القارة الآن، فانه يكتب ما يلي:
شجرة الحياة تعرف تماما أنه مهما يحدث، فان الموسيقى الدافئة حولها لن تتوقف أبدا.مهما كان حجم الموت الكبير الذي قد يأتي، وحجم الدم الكثير الذي قد يتدفق، فان الموسيقى ستجعل الرجال والنساء يرقصون بقدر ما يتنفسونه من الهواء وبقدر ما تعطيهم الأرض وتحبهم. نٌفٌس الأمل هذا هو ما يثيرني أكثر في اعمال غاليانو. ومثل الآلاف من اللاجئين في جميع أنحاء القارة، كان علي أن أغادر بلدي بعد الانقلاب العسكري عام 1973. ولم أخذ الكثير معي: بعض الملابس، وصور عائلية،و حقيبة صغيرة فيها حفنة تراب من حديقتي، وكتابين: الاول طبعة قديمة من قصائد كتبها بابلو نيرودا، والثاني كتاب ذو غلاف أصفر، عنوانه الشرايين المفتوحة لامريكا اللاتينية. وبعد مرور أكثر من عشرين عاما لا زلت أحمل نفس الكتاب معي. وهذا هو السبب في أنه لا يمكنني أن أفوت هذه الفرصة لكتابةهذه المقدمة واشكر إدواردو غاليانو على الملأ لحبه المدهش للحرية، ومساهمته في صقل وعيي بصفتي كاتبة وبصفتي مواطنة من أمريكا اللاتينية.و كما قال ذات مرة:"يجدر بنا ان نموت من أجل تلك الأشياءالتي بدونها لا يجدر بنا أن نعيش".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.