موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 بورسعيد    العمل تنظم فعاليات "سلامتك تهمنا" بالمنشآت الحكومية في المنيا    «المالية»: نصف مليار جنيه تمويلًا إضافيًا لدعم سداد أجورالعاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    رئيس الوزراء: برامج التعاون مع البنك الدولي تستهدف دعم القطاع الخاص    انطلاق «عمومية المنشآت الفندقية» بحضور رئيس إتحاد الغرف السياحية    كيفية الحفاظ على كفاءة التكييف في فصل الصيف    تطهير شبكات ومواسير المياه بقرية الأبطال في الإسماعيلية    السعودية ترحّب باعتراف 3 دول أوروبية بفلسطين    يديعوت أحرونوت: وزارة الخارجية الإسرائيلية تدرس سلسلة من الإجراءات العقابية ضد أيرلندا وإسبانيا والنرويج    بعد الفشل في سداد الديون.. شركة أمريكية تستحوذ على ملكية إنتر ميلان    عاجل..توني كروس أسطورة ريال مدريد يعلن اعتزاله بعد يورو 2024    "الرجل الأول والعقد".. كواليس رحيل بوتشيتينو عن تشيلسي    هاني شكري: الكاف المسؤول عن تنظيم نهائي الكونفدرالية ونتمنى فوز الأهلي بدوري الأبطال    "معيط" يوجه بإتاحة نصف مليار جنيه لدعم سداد أجور العاملين بالصناديق والحسابات الخاصة بالمحافظات    تأجيل محاكمة طبيب نساء شهير وآخرين بتهمة إجراء عملية إجهاض بالجيزة    المشدد 7 سنوات للمتهم بقتل ابن زوجته بالقليوبية    ترقب المصريين لموعد إجازة عيد الأضحى 2024: أهمية العيد في الحياة الثقافية والاجتماعية    انتقاما من والده.. حبس المتهمين بإجبار شاب على توقيع إيصالات أمانة بالمقطم    تطورات الحالة الصحية للفنان عباس أبو الحسن.. عملية جراحية في القدم قريبا    المتحف القومي للحضارة يحتفل باليوم العالمي للمتاحف    أدعية الحر.. رددها حتى نهاية الموجة الحارة    افتتاح ورشة "تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية" في شرم الشيخ    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    غادة عبد الرازق تعود للسينما بعد 6 سنوات غياب، ما القصة؟    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    تريزيجيه جاهز للمشاركة في نهائي كأس تركيا    تراجع جديد.. سعر الريال السعودي اليوم الأربعاء 22-5-2024 مقابل الجنيه المصري بمنتصف التعاملات    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    بروتوكول تعاون بين نقابة السينمائيين واتحاد الفنانين العرب و"الغردقة لسينما الشباب"    « وتر حساس » يعيد صبا مبارك للتليفزيون    رئيس حزب الجيل: فخور بموقف مصر الحاسم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    لمدة يومين.. انطلاق قافلة طبية إلى منطقة أبوغليلة بمطروح    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    التكييف في الصيف.. كيف يمكن أن يكون وسيلة لإصابتك بأمراض الرئة والتنفس؟    قمة عربية فى ظروف استثنائية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    حفظ التحقيقات حول وفاة طفلة إثر سقوطها من علو بأوسيم    صدمه القطار.. مصرع تلميذ أثناء عبوره «السكة الحديد» بسوهاج    جامعة حلوان الأهلية تنظم ندوة حول "تطوير الذات"    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي    رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر يتابع أعمال التطوير بالقطاعين الشرقي والشمالي    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    سيدة «المغربلين»    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    الرئيس الصيني: السياحة جسر مهم بين الشعبين الصيني والأمريكي للتواصل والتفاهم    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    الحكومة العراقية تطالب بإنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي»    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع تزفيتان تودوروف
نشر في نقطة ضوء يوم 26 - 01 - 2010

ولد تزفيتان تودوروف سنة 1939، بمدينة صوفيا البلغارية. سنة 1963 حصل على تأشيرة للقيام بزيارة إلى فرنسا، لكنه استقر بها نهائيا، قريباً من رولان بارت وجيرار جنيت، فصار أحد رواد النقد النصي. بداية سنوات الثمانينات، التفت تودوروف شيئا فشيئا نحو القضايا التاريخية والأخلاقية حيث انصبت اهتماماته على محاور:
* التوتاليتارية: مواجهة المغالاة (1991). ذاكرة الخير، السعي إلى الشر (2000).
* العلاقة مع الآخر: الحياة المشتركة (1995).
* التداخل الثقافي: غزو أمريكا (1982). الخوف من الأجانب (2008).
* تاريخ النزعة الإنسانية والأنوار: نحن والآخرون (1989)، الحديقة اللامكتملة (1998).
فاز، تودوروف سنة 2008 بجائزة Prince des Asturies، تقديرا لمجمل لبنات مشروعه الذي ترجمت أطروحاته إلى أكثر من خمس وعشرين لغة. أما، آخر ما كشف عنه قلم تودوروف، فقد جاء في غضون السنة الجارية (2009)، تحت عنوان: la signature Humaine . كتاب، جمع بين دفتيه، أهم الدراسات التي أنجزها بين سنوات 1983 و 2008، يتحدث تودوروف هنا بلسان رموز كبيرة في ساحة الفن والفكر بناء على الحدس التالي: إن الإنساني، لا يؤسس ما هو ذو دلالة إلا انطلاقا من تاريخه الخاص.
قامة طويلة، نظرة مرحة، يصنع جمله بإيقاع بطيء ومتناغم. ذاك هو: تزفيتان تودوروف. لكنه قبل كل شيء، حضور. رجل لطيف ومفعم بالحماسة، تدور حياته في منزل تتوزعه غرف منحنية السقف، حيث كان قد أجري هذا اللقاء معه. قضى شبابه، داخل بلده الأصلي بلغاريا في ظل هيمنة الديكتاتورية الشيوعية. ثم، جاءت هجرته إلى فرنسا، وتجليات أولى أبحاثه التي انصبت على الصيغ السردية في الأدب، إلى جانب رولان بارت في تلك الفترة تغيا تودوروف فقط، صياغة نظرية علمية للأدب، مقتفيا آثار الشكلانيين الروس واللسانيات البنيوية على طريقة ميخائيل باختين ورومان جاكبسون. كتاباته، بهذا الخصوص تحيل على: مدخل إلى الأدب العجائبي (1970)، شعرية النثر (1971)، نظريات الرمز (1977)، وقد ارتقت منذ صدورها إلى مرتبة الإنتاجات النظرية النموذجية والكلاسيكية، فيما يخص أسئلة الأدب.
ثم تغيرت الأشياء، يفسر تودوروف ببساطة سيرورته. بعد أن درس بدقة متناهية الأشكال السيميوطيقية، طيلة عشرين سنة يتحمس كثيرا إلى الجوهري. هكذا، فإن مؤرخ الغزو الإسباني، شارح مونتين، ومؤول الرسامين الفلامانيين، وكذا الكاتب الأخلاقي ثم مفكر التعدد الثقافي، سيترك النظرية البنيوية بغاية التحول إلى موضوعات سياسية وأخلاقية. يقول تودوروف: ( السجال حول الأفكار الذي كان محظورا في بلغاريا فترة شبابي، قد خرج من المنطقة الحمراء).
كتابه الجديد: الإمضاء البشري، دراسات 1983- 2008 (2009)، يتماثل معه، لأنه: انتقائي ذاتي وثاقب. ينتقل بالقارئ إلى قلب أنماط للوجود مع شخصيات استثنائية: جيرمان تيليون، ريمون آرون، إدوارد سعيد، رومان جاكبسون، ميخائيل باختين، لاروش فوكو، موزار، ستاندال وغوته. على ضوء هاته اللقاءات، يرسم تودوروف صورته الذاتية، بتأمل عميق لنصوص هؤلاء. توظيف مجازي، نحته، تذوقه للآخرين، إننا لا نفكر إلا بما ينعكس يؤكد تودوروف. يمكننا، اعتبار هذا العمل، بمثابة رواق تؤثثه لوحات صور رجال ونساء، تميزوا بمعاشرتهم الملهمة، أو تأبين لشخصيات عظيمة، متاح لهواة مستنيرين. الإنساني إذن، يتموضع في مكان آخر. سيعرض، تودوروف أطروحة قوية، مفادها: أن المشتغل بالعلوم الإنسانية مثل الكاتب، يخوض في الوقائع بناء على تجربته الشخصية، وبخلاف زميله في العلوم الطبيعية، عليه إلغاء كل حاجز بين حياته وإنتاجه. لا يتعلق الأمر في كل الأحوال، الاستسلام لخدع الاستبطان والانطلاق بحثا عن أنا حقيقية، بل فقط التعامل بثقابة فكر مع اللقاءات التي تخلقنا. يقول: ( إجمالا، نحن من صنع الآخرين. عطاؤهم، انطباعاتهم وتفاعلاتهم. فالأنا العميقة، لا وجود لها).
قطعا، هو سيميولوجي، وليس كليا بالفيلسوف، فقد تميز تودوروف دائما بمواهبه التأويلية: وظف مجمل ذكائه في خدمة كتابات الآخرين. فكره متمرد، لأنه قائم على الارتياب، تطوراته النظرية من السيميوطيقا إلى فلسفة النزعة الإنسانية واستطراداته حول الشر ثم خطاباته المرتجلة عن الفن والحب، وكذا ولاءاته وصراعاته: كل ذلك أكسبه صوتا فريدا بين مَشَاهد الفكر الأوروبي. يمتزج عند تودوروف التواضع الحقيقي بطموح لا حد له. يريد تناول الماهية الإنسانية، اقتناعا منه بأن الحكمة الإنسانية تتوقف على هاته المعرفة، وقد بلغ من العمر سبعين سنة، بوسع تودوروف التوقف عن العمل والتفرغ للاعتناء بحديقته، لكنه فضل باستمرار الانخراط في مشاريع جديدة، محاضرات، أبحاث، مُؤلفات. يقول: ( يبدو لي بأنه يمكننا الذهاب أبعد في فهم الكائنات الإنسانية، ما دام أن كثيرا من الأمور ليست واضحة بعد). حتى أقصى الحدود، قرر فحص أوضاع وتصدعات وكذا تحققات الكائنات البشرية التي هي نحن.
فيما يلي نص اللقاء:
* أية دلالة لكتابكم الجديد: [La signature Humaine]؟
*فكرت سابقا في هاته العبارة: الإمضاء البشري، وأنا أصادفها في كتاب لجيرمان تيليون. أثارتني، لأنها تختزل على نحو ما، مساري الذاتي، وجدت فيها نقطة انطلاقي الإمضاء ثم إشارة انتهاء الكائن الإنساني ! حينما شرعت في إنجاز أبحاثي سنوات 1960، مثلت دراسة العلامات عبر كل تنوعها إطارا عاما. توخيت سبر أوجهها من خلال نظرية للغة، الأدب والفنون. بعدها، حاولت تبين ما يتوارى خلف العلامات. أحسست، بانجذاب لفهم سلوكات البشر كما هي في ذاتها، وليس مجرد الاكتفاء بحالات تعبيرهم. في الآن ذاته، وجدت نفسي ضمن تيار الأنسية، أو التقليد الفلسفي القائم على نزعة إنسانية. بالتالي، تساءلت دوما عن طبيعة الاختيارات الإنسانية: السياسية، الأخلاقية والاجتماعية. لا أتوفر على تعريف مطلق للإنسان، لأنني تأملت بالأحرى المواقف التي يتبناها البشر في مواجهة تحدياتهم الوجودية.
* في هذا العمل، رسمتم سلسلة من الصور لجيرمان تيليون، وريمون آرون، وإدوارد سعيد، وميخائيل باختين، إلخ. هل يمكن لحياة الكُتَّاب أن تضيء أعمالهم؟
*أتذكر، حينما كنت طالبا، تلك الصيغة الدوغماطيقية: ينبغي علينا معرفة الرجل وعمله. كما، أن أساتذتنا سلموا بعلاقة سببية بين المصير الفردي لكاتب ما ثم مضمون إنتاجه، لكن أفراد جيلي، رفضوا هذه العقيدة. سنوات 1960، اعتبرنا بأن حياة كاتب ما، كيفما هي تقدم قليلا من المساعدة لتوجيه القراءة. لقد كنا جميعا، مثل مارسيل بروست ضد سانت بوف. أما، مع المنظور البنيوي، فقد اتجه الاهتمام إلى القوانين التي تحكم الحكايا والمعاني المجازية للقصيدة، بالتالي لا توجد من أهمية للإحالة على السيرة الذاتية. اليوم، لا أظن في كل لحظة تفسير الحياة للعمل، بل الحياة بدورها عمل. كما، أن حياتنا ليست إلا سلسلة آثار، بعضها شفوي والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما دال جدا.
*بأي طريقة؟
*نقف مع جيرمان تيليون على مثال حاسم. فقد قامت بأبحاث إثنولوجية سنوات 1930، ثم انتقلت إلى الميدان في الجزائر. بعد الهزيمة، انضمت إلى المقاومة، لكنها اعتُقلت وسُجنت ثم أُبعدت إلى معسكر للاحتجاز. حين رجوعها، طُلب منها تهييء تقرير عن جماعة الشاوية التي كانت موضوع دراستها. غير أنها أدركت عدم إمكانية تكرار أطروحاتها لفترة ما قبل الحرب، ولم تتوصل إلى أية معلومة جديدة عن تلك الإتنية ! الشيء الوحيد الذي تغير هو السيدة تيليون ذاتها. حياتها، في رافنسبروك Ravensbrck علمتها تفسيرا تعدديا للتصرفات الإنسانية: تأثيرات الجوع، مكانة الشرف، معنى التضامن. إذن هويتها امتزجت باشتغالها العلمي. نفس الأمر، يمتد إلى العلوم الإنسانية الأخرى. ما يجعل منك مؤرخا كبيرا وسوسيولوجيا متميزا أو فضلا عن ذلك كاتبا عظيما، ليس الاكتفاء بتجميع الوقائع، بل موضعتها في إطار علاقة تضفي عليها دلالة ما. عمل، تنجزه الذات بمساعدة جهاز ذهني يشكل ثمرة وجودنا ذاته. كي ندرك العمل، لا ينبغي أن نضع بين قوسين هوية العالِم أو الكاتب. ذلك، ما سعيت إليه في لوحاتي.
*بناء على حياتكم الخاصة، ما الذي قادكم إلى إعادة توجيه فكركم؟
*تبرز في المقام الأول تجربة الأبُوّة، كأفضل تأطير للسياق الذي أتواجد فيه. حين ولادة ابني الأول سنة 1974، انتابتني أحاسيس جديدة، اتصفت بحدتها الانقلابية، كما انطوت أيضا على شعور بالمسؤولية. في إطار حياة شخص ما، ينعدم لديه كل إرساء اجتماعي، ويعيش خاصة بدون أطفال، يبقى احتمال تأمل العمل مثلا الأطروحة التي نقاربها كشيء قائم في ذاته . إذا أحسستم دوما بنداء طفلكم، سيصبح من الصعب الاحتفاظ بحد فاصل بين حياتكم وفكركم. لقد سعدت وأنا أتجاوز مرحلة الاحتجاز داخل عالم منفصل في أفق البحث عن علاقة ذات مغزى بين ما كنت أعيشه ثم ما اشتغلت عليه بغير توظيف للسيرة الذاتية. هذا، قادني إلى الاهتمام أكثر بالعالم الذي يحيطني وليس فقط المعرفة المجردة.
*بين صفحات مؤلفكم الأخير، تهتمون بمبدعين انطلاقا من شبح اختبارات مؤلمة: المرض، الحزن، معسكرات الاعتقال...، هل ينبغي على المرء أن يعاني كي يفكر؟
*إنه سؤال مرعب، ولا أمتلك جرأة الإجابة عنه. ربما، لأني لم أكابد إلا قليلا في حياتي...، مع ذلك ألاحظ وجود صلة مزعجة بين الانكسار والمعاناة، ثم القدرة على الذهاب بعيدا جدا في معرفة الإنسان، كما لو أن السعادة تسد الطريق أمام الفهم الأكثر توقدا... . قد تخطئ نظريتي، فأكون مطمئنا، أو على العكس صحيحة، بالتالي أنا مفكر تافه ! ربما، أهدف إلى تعويض غياب هذه التجربة المؤلمة على مستوى مسار وجودي الذاتي، وذلك بالافتتان بوجود الآخرين ! وبالضبط، الأفراد الذين تميزت حياتهم بالانكسار والجرح بل والتراجيديا. لا يستهويني الأبطال ولا الأشرار، أفضل فهم كائنات قابلة للوقوع في الخطأ، تشبه حياتهم حديقة غير مكتملة كما جاء على لسان مونتين لأنهم في ظني، يجسدون الوضع الإنساني، أكثر من غيرهم.
*لقد كتبتم الآتي: ( كل مفكر هو بمثابة مغترب عن معطيات ولادته). أنتم بدوركم، عشتم المنفى بعد مغادرتكم بلغاريا نحو فرنسا. كيف لواقعة كهاته أن تمكن من تأمل العالم؟
*أعتبر نفسي شخصا مغتربا، ليس فقط لأنني غيرت البلد، لكن في إطار سعيي بالتأكيد، إلى رؤية اغترابية للعالم. بهذا المعنى، يختلف المفكر عن المناضل. لا يتحدد دوره في الاهتداء لسيرورة تنتهي عند غاية، لكن أن يفهم العالم بطريقة أفضل، حينما ينتشله من البداهات. يرفض المنفيُّ اقتسام العادات، يقف مستغربا أمام ما يمارسه بسهولة مواطنوه الجدد، فيؤسس مسافة بين ما هو في ذاته ثم ما يحيط بنا باعتباره ملائما للفكر. لكن، ليس ضروريا ! كثيرة هي الشخصيات التي عانت من هذا الانفصال، دون أن تختبر واقعيا تجربة الاغتراب الفيزيقي. نقول فقط، بأنه حينما ننتقل من بلد إلى آخر بغير مأساة، يسهل التخلص من التمزق كأساس للعمل الذهني والذي يتحقق بشكل سيىء حينما يحدث تداخل مع الفاعلين الذين ندرسهم.
*طبيعة الصلة التي تحافظون عليها مع الالتزام السياسي؟
*لقد ترعرعت في بلغاريا سنوات ما بعد الحرب، حيث ترفض التوتاليتارية السائدة آنذاك داخل الحرب الشيوعي مبدأ الالتزام، ولا تبقى إلا على طريقتين أساسيتين: إما أن ترتقي داخل الحزب الشيوعي، أو تنسحب كليا من الحياة العمومية. مثل كثير من المواطنين البلغاريين، اخترت المسلك الثاني، فأقمت قطيعة جذرية بيني ومن يدبرون شؤون البلد. هكذا، تمتعت بنوع من التلقيح أعطاني مناعة ضد كل مصلحة سياسية. لكنني تغيرت ابتداء من سنة 1973، وهي فترة حصولي على الجنسية الفرنسية، فبدأت أشعر تدريجيا توجّه اهتمامي صوب موضوعات مشبعة بمضامين أخلاقية وسياسية: الالتقاء مع الآخرين، مصادر العنف، تجربة المعتقلات، تجاوزات الذاكرة، في هذا السياق يتموضع كتابي الصغير عن حرب العراق ! لا يعني الأمر بأني صرت مناضلا. لا أتوفر على بطاقة أي حزب ونادرا ما أوقع على عرائض. لكن، حدث أن اتخذت موقفا. مثلا، تدخلت لحظة الإعلان عن مشروع وزارة الهوية الوطنية، بدت لي الفكرة في الآن ذاته غير منطقية على المستوى الأنثروبولوجي ثم غير ناضجة سياسيا.
*سياسيا، يتم تعريفكم كرجل معتدل، قد نعتدل بإفراط؟
*أهم نموذج يقدمه التاريخ الحديث، بخصوص الاعتدال الزائد، يحيلنا على مؤتمر ميونيخ سنة 1938، حينما توخت القوى الغربية مداهنة العدوان النازي ومن ثمة الاستسلام. لكن، هل الأمر يتعلق بموقف معتدل؟ لقد كانت بالأحرى رؤية غير متبصرة بالعواقب. عدم اللجوء إلى العنف، يصبح جائزا حينما ينعدم الخطر. لكن سنة 1938، تجلى التهديد الهتلري بشكل واضح لكل من أراد فتح عينيه. لقد اكتشفت نفسي، داخل بنية للاعتدال. تعلمنا مع مونتسكيو، انتفاء الشرعية عن كل سلطة تفتقد للضوابط. لا يعني الاعتدال الليونة، لكن تقييدا لسلطة من قبل سلطة ثانية مضادة. إنه تنظيم للفضاء العمومي، حيث يؤخذ في الحسبان التعدد الإنساني. لا نستسلم للعنف، بل يجب أن يقع العكس. من خلال الفكر ذاته، أدافع عما اصطلح عليه بالتحضُّر أي قدرتنا على استيعاب اختلافات الآخرين، دون أن نذمها بالضرورة. هل أنا معتدل جدا؟ يبقى الحكم لكم.
*في كتابكم، عدتم مرات عديدة إلى مسألة الشر. وبحسبكم، فإن الشر متجذر في الطبيعة البشرية. إذا كنا جميعا أشرارا، كيف نقاومه؟
*لا أعتقد، بوجود شر كوني وراسخ. صحيح، أننا نعثر على مختلف تمظهراته في كل حقبة تاريخية. أساسه، أن كل واحد في حاجة للآخرين، لكنهم يرفضون منحه تلقائيا ما يريده. نمط للتمركز الذاتي، يصير خاصة خطيرا حينما يأخذ بعدا جماعيا. فأقبح الجرائم، ارتُكبت بدواعي حماية ذواتنا في مواجهة تهديد ينبعث من مكان آخر. هذه المانوية، التي تخلط بين النحن والآخرين، الصديق والعدو أو الأسوأ الخير والشرتعتبر مميتة للجسد. بكل ما أستطيعه من قوتي رغم ضعفها أسعى إلى مقاومة الشر. لذا، أتملى تمظهراته وكيفيات التصدي لها، وقد حكيت عن ذلك بين طيات أعمالي. وفق هذه الدلالة، بقيت قريبا من أفكار الأنوار: أقاوم الشر بواسطة المعرفة.
*ما هي النزعة الإنسانية؟
*تشير النزعة الإنسانية إلى حركة فلسفية تطورت في أوروبا منذ عصر النهضة. اليوم، يُوظف المفهوم في غير ما وضع له: إنه، لا يحدد غالبا غير صيغة لعشق الإنسانية، لكن بطريقة ساذجة شيئا ما. يرفض تزفيتان تودوروف هذه الكاريكاتورية، مدافعا عن نزعة إنسانية تتخلص من كل رؤية مثالية، حيث تبنى موقفا قويا جدا، تأسس تاريخيا بناء على ثلاث اختيارات أنثروبولوجية وأخلاقية كبرى:
الكونية: كل الكائنات الإنسانية، تنتمي إلى ذات النوع، بحيث تنعم بنفس الكرامة.
الحرية الإنسانية: إن الحتمية بيولوجيا، تاريخيا، اجتماعيا، نفسيا ليست قط كلية. لا يعتبر الإنسان، محض ألعوبة في يد قوى تتجاوزه وتحدد مصيره، ما دام يملك دائما وسيلة أن يمتثل أو يقاوم (جان جاك روسو).
الكائن الإنساني، قيمة عليا: تشكل سعادة الكائنات البشرية أقصى أهداف الحياة المجتمعية، بناء عليه، يتميز فكر النزعة الإنسانية عن المشاريع الطوباوية التي تبتغي مستقبلا مُشرقا. تتعارض، أيضا مع النظريات الدينية الملزمة لكل سلوك إنساني بضرورة سعيه إلى خدمة تتصل بالله.
ترجمة: سعيد بوخليط
عن القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.