«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع تزفيتان تودوروف
نشر في نقطة ضوء يوم 26 - 01 - 2010

ولد تزفيتان تودوروف سنة 1939، بمدينة صوفيا البلغارية. سنة 1963 حصل على تأشيرة للقيام بزيارة إلى فرنسا، لكنه استقر بها نهائيا، قريباً من رولان بارت وجيرار جنيت، فصار أحد رواد النقد النصي. بداية سنوات الثمانينات، التفت تودوروف شيئا فشيئا نحو القضايا التاريخية والأخلاقية حيث انصبت اهتماماته على محاور:
* التوتاليتارية: مواجهة المغالاة (1991). ذاكرة الخير، السعي إلى الشر (2000).
* العلاقة مع الآخر: الحياة المشتركة (1995).
* التداخل الثقافي: غزو أمريكا (1982). الخوف من الأجانب (2008).
* تاريخ النزعة الإنسانية والأنوار: نحن والآخرون (1989)، الحديقة اللامكتملة (1998).
فاز، تودوروف سنة 2008 بجائزة Prince des Asturies، تقديرا لمجمل لبنات مشروعه الذي ترجمت أطروحاته إلى أكثر من خمس وعشرين لغة. أما، آخر ما كشف عنه قلم تودوروف، فقد جاء في غضون السنة الجارية (2009)، تحت عنوان: la signature Humaine . كتاب، جمع بين دفتيه، أهم الدراسات التي أنجزها بين سنوات 1983 و 2008، يتحدث تودوروف هنا بلسان رموز كبيرة في ساحة الفن والفكر بناء على الحدس التالي: إن الإنساني، لا يؤسس ما هو ذو دلالة إلا انطلاقا من تاريخه الخاص.
قامة طويلة، نظرة مرحة، يصنع جمله بإيقاع بطيء ومتناغم. ذاك هو: تزفيتان تودوروف. لكنه قبل كل شيء، حضور. رجل لطيف ومفعم بالحماسة، تدور حياته في منزل تتوزعه غرف منحنية السقف، حيث كان قد أجري هذا اللقاء معه. قضى شبابه، داخل بلده الأصلي بلغاريا في ظل هيمنة الديكتاتورية الشيوعية. ثم، جاءت هجرته إلى فرنسا، وتجليات أولى أبحاثه التي انصبت على الصيغ السردية في الأدب، إلى جانب رولان بارت في تلك الفترة تغيا تودوروف فقط، صياغة نظرية علمية للأدب، مقتفيا آثار الشكلانيين الروس واللسانيات البنيوية على طريقة ميخائيل باختين ورومان جاكبسون. كتاباته، بهذا الخصوص تحيل على: مدخل إلى الأدب العجائبي (1970)، شعرية النثر (1971)، نظريات الرمز (1977)، وقد ارتقت منذ صدورها إلى مرتبة الإنتاجات النظرية النموذجية والكلاسيكية، فيما يخص أسئلة الأدب.
ثم تغيرت الأشياء، يفسر تودوروف ببساطة سيرورته. بعد أن درس بدقة متناهية الأشكال السيميوطيقية، طيلة عشرين سنة يتحمس كثيرا إلى الجوهري. هكذا، فإن مؤرخ الغزو الإسباني، شارح مونتين، ومؤول الرسامين الفلامانيين، وكذا الكاتب الأخلاقي ثم مفكر التعدد الثقافي، سيترك النظرية البنيوية بغاية التحول إلى موضوعات سياسية وأخلاقية. يقول تودوروف: ( السجال حول الأفكار الذي كان محظورا في بلغاريا فترة شبابي، قد خرج من المنطقة الحمراء).
كتابه الجديد: الإمضاء البشري، دراسات 1983- 2008 (2009)، يتماثل معه، لأنه: انتقائي ذاتي وثاقب. ينتقل بالقارئ إلى قلب أنماط للوجود مع شخصيات استثنائية: جيرمان تيليون، ريمون آرون، إدوارد سعيد، رومان جاكبسون، ميخائيل باختين، لاروش فوكو، موزار، ستاندال وغوته. على ضوء هاته اللقاءات، يرسم تودوروف صورته الذاتية، بتأمل عميق لنصوص هؤلاء. توظيف مجازي، نحته، تذوقه للآخرين، إننا لا نفكر إلا بما ينعكس يؤكد تودوروف. يمكننا، اعتبار هذا العمل، بمثابة رواق تؤثثه لوحات صور رجال ونساء، تميزوا بمعاشرتهم الملهمة، أو تأبين لشخصيات عظيمة، متاح لهواة مستنيرين. الإنساني إذن، يتموضع في مكان آخر. سيعرض، تودوروف أطروحة قوية، مفادها: أن المشتغل بالعلوم الإنسانية مثل الكاتب، يخوض في الوقائع بناء على تجربته الشخصية، وبخلاف زميله في العلوم الطبيعية، عليه إلغاء كل حاجز بين حياته وإنتاجه. لا يتعلق الأمر في كل الأحوال، الاستسلام لخدع الاستبطان والانطلاق بحثا عن أنا حقيقية، بل فقط التعامل بثقابة فكر مع اللقاءات التي تخلقنا. يقول: ( إجمالا، نحن من صنع الآخرين. عطاؤهم، انطباعاتهم وتفاعلاتهم. فالأنا العميقة، لا وجود لها).
قطعا، هو سيميولوجي، وليس كليا بالفيلسوف، فقد تميز تودوروف دائما بمواهبه التأويلية: وظف مجمل ذكائه في خدمة كتابات الآخرين. فكره متمرد، لأنه قائم على الارتياب، تطوراته النظرية من السيميوطيقا إلى فلسفة النزعة الإنسانية واستطراداته حول الشر ثم خطاباته المرتجلة عن الفن والحب، وكذا ولاءاته وصراعاته: كل ذلك أكسبه صوتا فريدا بين مَشَاهد الفكر الأوروبي. يمتزج عند تودوروف التواضع الحقيقي بطموح لا حد له. يريد تناول الماهية الإنسانية، اقتناعا منه بأن الحكمة الإنسانية تتوقف على هاته المعرفة، وقد بلغ من العمر سبعين سنة، بوسع تودوروف التوقف عن العمل والتفرغ للاعتناء بحديقته، لكنه فضل باستمرار الانخراط في مشاريع جديدة، محاضرات، أبحاث، مُؤلفات. يقول: ( يبدو لي بأنه يمكننا الذهاب أبعد في فهم الكائنات الإنسانية، ما دام أن كثيرا من الأمور ليست واضحة بعد). حتى أقصى الحدود، قرر فحص أوضاع وتصدعات وكذا تحققات الكائنات البشرية التي هي نحن.
فيما يلي نص اللقاء:
* أية دلالة لكتابكم الجديد: [La signature Humaine]؟
*فكرت سابقا في هاته العبارة: الإمضاء البشري، وأنا أصادفها في كتاب لجيرمان تيليون. أثارتني، لأنها تختزل على نحو ما، مساري الذاتي، وجدت فيها نقطة انطلاقي الإمضاء ثم إشارة انتهاء الكائن الإنساني ! حينما شرعت في إنجاز أبحاثي سنوات 1960، مثلت دراسة العلامات عبر كل تنوعها إطارا عاما. توخيت سبر أوجهها من خلال نظرية للغة، الأدب والفنون. بعدها، حاولت تبين ما يتوارى خلف العلامات. أحسست، بانجذاب لفهم سلوكات البشر كما هي في ذاتها، وليس مجرد الاكتفاء بحالات تعبيرهم. في الآن ذاته، وجدت نفسي ضمن تيار الأنسية، أو التقليد الفلسفي القائم على نزعة إنسانية. بالتالي، تساءلت دوما عن طبيعة الاختيارات الإنسانية: السياسية، الأخلاقية والاجتماعية. لا أتوفر على تعريف مطلق للإنسان، لأنني تأملت بالأحرى المواقف التي يتبناها البشر في مواجهة تحدياتهم الوجودية.
* في هذا العمل، رسمتم سلسلة من الصور لجيرمان تيليون، وريمون آرون، وإدوارد سعيد، وميخائيل باختين، إلخ. هل يمكن لحياة الكُتَّاب أن تضيء أعمالهم؟
*أتذكر، حينما كنت طالبا، تلك الصيغة الدوغماطيقية: ينبغي علينا معرفة الرجل وعمله. كما، أن أساتذتنا سلموا بعلاقة سببية بين المصير الفردي لكاتب ما ثم مضمون إنتاجه، لكن أفراد جيلي، رفضوا هذه العقيدة. سنوات 1960، اعتبرنا بأن حياة كاتب ما، كيفما هي تقدم قليلا من المساعدة لتوجيه القراءة. لقد كنا جميعا، مثل مارسيل بروست ضد سانت بوف. أما، مع المنظور البنيوي، فقد اتجه الاهتمام إلى القوانين التي تحكم الحكايا والمعاني المجازية للقصيدة، بالتالي لا توجد من أهمية للإحالة على السيرة الذاتية. اليوم، لا أظن في كل لحظة تفسير الحياة للعمل، بل الحياة بدورها عمل. كما، أن حياتنا ليست إلا سلسلة آثار، بعضها شفوي والآخر سلوكي، والتفاعل بينهما دال جدا.
*بأي طريقة؟
*نقف مع جيرمان تيليون على مثال حاسم. فقد قامت بأبحاث إثنولوجية سنوات 1930، ثم انتقلت إلى الميدان في الجزائر. بعد الهزيمة، انضمت إلى المقاومة، لكنها اعتُقلت وسُجنت ثم أُبعدت إلى معسكر للاحتجاز. حين رجوعها، طُلب منها تهييء تقرير عن جماعة الشاوية التي كانت موضوع دراستها. غير أنها أدركت عدم إمكانية تكرار أطروحاتها لفترة ما قبل الحرب، ولم تتوصل إلى أية معلومة جديدة عن تلك الإتنية ! الشيء الوحيد الذي تغير هو السيدة تيليون ذاتها. حياتها، في رافنسبروك Ravensbrck علمتها تفسيرا تعدديا للتصرفات الإنسانية: تأثيرات الجوع، مكانة الشرف، معنى التضامن. إذن هويتها امتزجت باشتغالها العلمي. نفس الأمر، يمتد إلى العلوم الإنسانية الأخرى. ما يجعل منك مؤرخا كبيرا وسوسيولوجيا متميزا أو فضلا عن ذلك كاتبا عظيما، ليس الاكتفاء بتجميع الوقائع، بل موضعتها في إطار علاقة تضفي عليها دلالة ما. عمل، تنجزه الذات بمساعدة جهاز ذهني يشكل ثمرة وجودنا ذاته. كي ندرك العمل، لا ينبغي أن نضع بين قوسين هوية العالِم أو الكاتب. ذلك، ما سعيت إليه في لوحاتي.
*بناء على حياتكم الخاصة، ما الذي قادكم إلى إعادة توجيه فكركم؟
*تبرز في المقام الأول تجربة الأبُوّة، كأفضل تأطير للسياق الذي أتواجد فيه. حين ولادة ابني الأول سنة 1974، انتابتني أحاسيس جديدة، اتصفت بحدتها الانقلابية، كما انطوت أيضا على شعور بالمسؤولية. في إطار حياة شخص ما، ينعدم لديه كل إرساء اجتماعي، ويعيش خاصة بدون أطفال، يبقى احتمال تأمل العمل مثلا الأطروحة التي نقاربها كشيء قائم في ذاته . إذا أحسستم دوما بنداء طفلكم، سيصبح من الصعب الاحتفاظ بحد فاصل بين حياتكم وفكركم. لقد سعدت وأنا أتجاوز مرحلة الاحتجاز داخل عالم منفصل في أفق البحث عن علاقة ذات مغزى بين ما كنت أعيشه ثم ما اشتغلت عليه بغير توظيف للسيرة الذاتية. هذا، قادني إلى الاهتمام أكثر بالعالم الذي يحيطني وليس فقط المعرفة المجردة.
*بين صفحات مؤلفكم الأخير، تهتمون بمبدعين انطلاقا من شبح اختبارات مؤلمة: المرض، الحزن، معسكرات الاعتقال...، هل ينبغي على المرء أن يعاني كي يفكر؟
*إنه سؤال مرعب، ولا أمتلك جرأة الإجابة عنه. ربما، لأني لم أكابد إلا قليلا في حياتي...، مع ذلك ألاحظ وجود صلة مزعجة بين الانكسار والمعاناة، ثم القدرة على الذهاب بعيدا جدا في معرفة الإنسان، كما لو أن السعادة تسد الطريق أمام الفهم الأكثر توقدا... . قد تخطئ نظريتي، فأكون مطمئنا، أو على العكس صحيحة، بالتالي أنا مفكر تافه ! ربما، أهدف إلى تعويض غياب هذه التجربة المؤلمة على مستوى مسار وجودي الذاتي، وذلك بالافتتان بوجود الآخرين ! وبالضبط، الأفراد الذين تميزت حياتهم بالانكسار والجرح بل والتراجيديا. لا يستهويني الأبطال ولا الأشرار، أفضل فهم كائنات قابلة للوقوع في الخطأ، تشبه حياتهم حديقة غير مكتملة كما جاء على لسان مونتين لأنهم في ظني، يجسدون الوضع الإنساني، أكثر من غيرهم.
*لقد كتبتم الآتي: ( كل مفكر هو بمثابة مغترب عن معطيات ولادته). أنتم بدوركم، عشتم المنفى بعد مغادرتكم بلغاريا نحو فرنسا. كيف لواقعة كهاته أن تمكن من تأمل العالم؟
*أعتبر نفسي شخصا مغتربا، ليس فقط لأنني غيرت البلد، لكن في إطار سعيي بالتأكيد، إلى رؤية اغترابية للعالم. بهذا المعنى، يختلف المفكر عن المناضل. لا يتحدد دوره في الاهتداء لسيرورة تنتهي عند غاية، لكن أن يفهم العالم بطريقة أفضل، حينما ينتشله من البداهات. يرفض المنفيُّ اقتسام العادات، يقف مستغربا أمام ما يمارسه بسهولة مواطنوه الجدد، فيؤسس مسافة بين ما هو في ذاته ثم ما يحيط بنا باعتباره ملائما للفكر. لكن، ليس ضروريا ! كثيرة هي الشخصيات التي عانت من هذا الانفصال، دون أن تختبر واقعيا تجربة الاغتراب الفيزيقي. نقول فقط، بأنه حينما ننتقل من بلد إلى آخر بغير مأساة، يسهل التخلص من التمزق كأساس للعمل الذهني والذي يتحقق بشكل سيىء حينما يحدث تداخل مع الفاعلين الذين ندرسهم.
*طبيعة الصلة التي تحافظون عليها مع الالتزام السياسي؟
*لقد ترعرعت في بلغاريا سنوات ما بعد الحرب، حيث ترفض التوتاليتارية السائدة آنذاك داخل الحرب الشيوعي مبدأ الالتزام، ولا تبقى إلا على طريقتين أساسيتين: إما أن ترتقي داخل الحزب الشيوعي، أو تنسحب كليا من الحياة العمومية. مثل كثير من المواطنين البلغاريين، اخترت المسلك الثاني، فأقمت قطيعة جذرية بيني ومن يدبرون شؤون البلد. هكذا، تمتعت بنوع من التلقيح أعطاني مناعة ضد كل مصلحة سياسية. لكنني تغيرت ابتداء من سنة 1973، وهي فترة حصولي على الجنسية الفرنسية، فبدأت أشعر تدريجيا توجّه اهتمامي صوب موضوعات مشبعة بمضامين أخلاقية وسياسية: الالتقاء مع الآخرين، مصادر العنف، تجربة المعتقلات، تجاوزات الذاكرة، في هذا السياق يتموضع كتابي الصغير عن حرب العراق ! لا يعني الأمر بأني صرت مناضلا. لا أتوفر على بطاقة أي حزب ونادرا ما أوقع على عرائض. لكن، حدث أن اتخذت موقفا. مثلا، تدخلت لحظة الإعلان عن مشروع وزارة الهوية الوطنية، بدت لي الفكرة في الآن ذاته غير منطقية على المستوى الأنثروبولوجي ثم غير ناضجة سياسيا.
*سياسيا، يتم تعريفكم كرجل معتدل، قد نعتدل بإفراط؟
*أهم نموذج يقدمه التاريخ الحديث، بخصوص الاعتدال الزائد، يحيلنا على مؤتمر ميونيخ سنة 1938، حينما توخت القوى الغربية مداهنة العدوان النازي ومن ثمة الاستسلام. لكن، هل الأمر يتعلق بموقف معتدل؟ لقد كانت بالأحرى رؤية غير متبصرة بالعواقب. عدم اللجوء إلى العنف، يصبح جائزا حينما ينعدم الخطر. لكن سنة 1938، تجلى التهديد الهتلري بشكل واضح لكل من أراد فتح عينيه. لقد اكتشفت نفسي، داخل بنية للاعتدال. تعلمنا مع مونتسكيو، انتفاء الشرعية عن كل سلطة تفتقد للضوابط. لا يعني الاعتدال الليونة، لكن تقييدا لسلطة من قبل سلطة ثانية مضادة. إنه تنظيم للفضاء العمومي، حيث يؤخذ في الحسبان التعدد الإنساني. لا نستسلم للعنف، بل يجب أن يقع العكس. من خلال الفكر ذاته، أدافع عما اصطلح عليه بالتحضُّر أي قدرتنا على استيعاب اختلافات الآخرين، دون أن نذمها بالضرورة. هل أنا معتدل جدا؟ يبقى الحكم لكم.
*في كتابكم، عدتم مرات عديدة إلى مسألة الشر. وبحسبكم، فإن الشر متجذر في الطبيعة البشرية. إذا كنا جميعا أشرارا، كيف نقاومه؟
*لا أعتقد، بوجود شر كوني وراسخ. صحيح، أننا نعثر على مختلف تمظهراته في كل حقبة تاريخية. أساسه، أن كل واحد في حاجة للآخرين، لكنهم يرفضون منحه تلقائيا ما يريده. نمط للتمركز الذاتي، يصير خاصة خطيرا حينما يأخذ بعدا جماعيا. فأقبح الجرائم، ارتُكبت بدواعي حماية ذواتنا في مواجهة تهديد ينبعث من مكان آخر. هذه المانوية، التي تخلط بين النحن والآخرين، الصديق والعدو أو الأسوأ الخير والشرتعتبر مميتة للجسد. بكل ما أستطيعه من قوتي رغم ضعفها أسعى إلى مقاومة الشر. لذا، أتملى تمظهراته وكيفيات التصدي لها، وقد حكيت عن ذلك بين طيات أعمالي. وفق هذه الدلالة، بقيت قريبا من أفكار الأنوار: أقاوم الشر بواسطة المعرفة.
*ما هي النزعة الإنسانية؟
*تشير النزعة الإنسانية إلى حركة فلسفية تطورت في أوروبا منذ عصر النهضة. اليوم، يُوظف المفهوم في غير ما وضع له: إنه، لا يحدد غالبا غير صيغة لعشق الإنسانية، لكن بطريقة ساذجة شيئا ما. يرفض تزفيتان تودوروف هذه الكاريكاتورية، مدافعا عن نزعة إنسانية تتخلص من كل رؤية مثالية، حيث تبنى موقفا قويا جدا، تأسس تاريخيا بناء على ثلاث اختيارات أنثروبولوجية وأخلاقية كبرى:
الكونية: كل الكائنات الإنسانية، تنتمي إلى ذات النوع، بحيث تنعم بنفس الكرامة.
الحرية الإنسانية: إن الحتمية بيولوجيا، تاريخيا، اجتماعيا، نفسيا ليست قط كلية. لا يعتبر الإنسان، محض ألعوبة في يد قوى تتجاوزه وتحدد مصيره، ما دام يملك دائما وسيلة أن يمتثل أو يقاوم (جان جاك روسو).
الكائن الإنساني، قيمة عليا: تشكل سعادة الكائنات البشرية أقصى أهداف الحياة المجتمعية، بناء عليه، يتميز فكر النزعة الإنسانية عن المشاريع الطوباوية التي تبتغي مستقبلا مُشرقا. تتعارض، أيضا مع النظريات الدينية الملزمة لكل سلوك إنساني بضرورة سعيه إلى خدمة تتصل بالله.
ترجمة: سعيد بوخليط
عن القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.