محمد راسم الحاضر ابدا في ذاكرة التراث الفني، ظل رمزا جزائريا متجددا أعاد تأثيث فصول مدرسة المنمنمات الجزائرية، ومنحها بعدها العالمي المعاصر، حين جعلها جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحركة التشكيلية العالمية، فاستحق بجدارة احياء ذاكرته الأبدية في كتاب "محمد راسم الجزائري روح الشرق في الفن التشكيلي العالمي "الذي انجزه الناقد الفني العراقي عبدالرحمن جعفر الكناني مؤخرا وقدمه للمكتبة العربية الباحثة عن نص عربي يستقريء ويؤرخ تفاصيل حياة مبدع جزائري كبير ارتقى عاليا بمباديء السماح والانفتاح في الحوار الحضاري الإنساني. وجاء الكتاب الذي يعد الأول من نوعه في مجلد فني فاخر، ضم ابرز أعمال "راسم" وهي تقدم الشخصية الجزائرية في محيطها الإنساني، وهي تتغذى دون انقطاع بالمعرفة العلمية والتاريخية والحضارية، فتكشف عن جرأة فنان يعي دوره في كون بشري مفتوح من خلال ثراء عطائه الفني باعتباره اول رسام يضع المنمنمة في عالمها التشكيلي المعاصر بجرأة لم يسبقه اليها أحد وينتشلها من بدائيتها التي ظلت اسيرة لقوانينها التقليدية الجامدة على مدى عصور طويلة. ظهرت المنمنمة الإسلامية وكأنها على موعد تاريخي مع ولادة محمد علي راسم عام 1896 لتشكل اجزاء انقلاب فني في بداية القرن العشرين، خاضع لمنطق التطور الحتمي ومنفتح على أزمنة جديدة تحكمها قوانين فنية مغايرة، تسقط إلى الأبد خارطة البناء التقليدي لمنمنمة شدتها القيود زمنا لقواعد القرون الوسطى، وظلت مجرد مشهد مسطح بلا عمق او ابعاد. ويكشف لنا الناقد الكناني ملامح هذا الانقلاب على المنمنمة التقليدية الخالية من الأبعاد، حين يحلل التناسق المنهجي الذي اعتمده "راسم" في بناء منمنمته الحديثة، والتي يضع فيها الحدث في إطاره الزمني والمكاني، مبرزا العالم الداخلي للإنسان الشرقي في المجتمع الإسلامي بتفصيل خصائص بنيته الأخلاقية في حدود المشهد المرئي، وتسجيل عالمه الخارجي باعتماد تقنية فائقة الدقة، تفصح عن جماليات البنية الشرقية في أشكال العمارة المزينة بزخارفها وفسيفسائها، فقد استثمر مساحات لوحته تطبيقا لقاعدة المنظور التي اتاحت له اعداد مكان اوسع لعناصر البنية الشرقية في عالميها الداخلي والخارجي مع اكتشاف اسرار عجينة لونية منحت "المنمنمة" هوية تشكيلية معاصرة. جماليات معاصرة، يمتزج فيها التقليد بالحداثة، في ريشة محمد راسم، تجلت بإسهاب في قراءة عبدالرجمن جعفر الكناني اذ رأى فيها الإنجاز الأصعب في خضم الاشكاليات الفكرية – الفلسفية العالمية الكبرى حين وضع التراث في حركيته التاريخية لكشف مضمونه الواقعي في موضوعة لا تنفصل عن بعدها الاجتماعي من خلال احياء العلاقة الحية بين القانون الداخلي في بناء الإنجاز الفني وبين القانون العام لحركة الواقع الاجتماعي. وذلك ما جعل الفن الجزائري يرتقي متآلفا مع اكتشافات العالم المعاصر، وهو يطلق شرارة ثورة التحرير الوطني وفق منهج حضاري يستنهض القدرات الانسانية ويضع التراث في حركيته التاريخية التي عرت زيف "نظرية الجنس" التي تصف الانسان العربي والانسان المسلم بأنه محكوم بالقصور الطبيعي المطلق عن الابداعات العقلية. ويعود بنا كتاب "منمنمات محمد راسم الجزائري – روح الشرق في الفن التشكيلي العالمي" إلى قلب الذاكرة حين يفضح فعل الاستعمار الفرنسي ومحاولاته اليائسة في طمس معالم مدرسة المنمنمات الجزائرية وتغييبها عن انظار مؤرخي الفن في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ويبرز دور "راسم" في إعادة معالمها إلى الوجود بخصائصها الابداعية المتميزة ورموزها وادواتها التعبيرية، وفتح بواباتها واسعة وجعلها طرفا رئيسيا في قلب حوار حضاري أغنى الحياة الفنية في العالم، حتى اضحت واحدة من أهم المدارس المنتشرة في العراق وبخارى وسمرقند وطشقند وبلاد فارس واسطنبول، تنتقل عبر مراحل التاريخ دون انقطاع رغم تحديات الصراع المرير الذي عاشته الأمة الجزائرية دفاعا عن وجودها أمام مستعمر سعى عبثا لإلغاء هويتها الوطنية. وجسدت المدرسة الجزائرية التي استعرض الكتاب تفاصيل مراحلها التاريخية انفتاحها الحضاري على مثيلاتها في قارات العالم بإحياء المهرجان الثقافي الدولي للمنمنمات والزخرفة كتقليد سنوي يجمع مدارس المنمنمات ويقدم احدق ابداعاتها، مرتقيا بمبادئ وحدة الفن الإسلامي المنفتح على حضارات لها إرثها الفني في نسيج إنساني متكامل يتجاوز كل الحواجز.