أخذ الحرف العربي خصائصه المعاصرة في الفن التشكيلي العربي، وصاغ مبادئ مذهب فني حديث يوظف حروف الأبجدية في إنجاز مكونات جمالية تطلق المعنى الخفي في امتدادات حروفية، تؤسس نوعا مغايرا للمشهد البصري المتحرر من خصائصه التقليدية الثابتة في مدارس فنية، تقتفي آثار التجديد في عالم متغير. ويقف الفنان الجزائري محمود طالب فوق أحد مرتكزات العالم التشكيلي، وهو يخوض في تجاربه التشكيلية رغبة في الإرتقاء بجماليات الحرف العربي عبر توظيف حسي تجريدي، تتجلى فيه بناءات حروفية بحركة نحتية لرؤية ذاتية تأخذ أشكالها المرئية في لوحات خطية تعددت أبعادها المؤثرة بمكونات عصرية. وتمتد حروفيات محمود طالب في عمق الكون الخارجي مجسدا الروح الصوفية في التعاطي مع التقنيات التشكيلية، الخالقة لأشكال بصرية غيبية لكنها متخيلة، في فلسفة تجريدية، يرى فيها التجريدي الأشياء كما لا يراها أحد. والمتخيل في بناءات حروفية ليست من البساطة في شكل، فتجربة محمود طالب صاغت أشكالها ومضامينها في مختبرات تشكيلية، عناصرها الريشة واللون والخامة التي تتآلف في إنجاز مخلوق فني، هو نتاج لقدرة فنان يرى الأشياء بعينين مغمضتين ليتلمسها بإدراك صوفي يمنح الغيبي شكله المحسوس. والتجربة الصوفية أنتجت مخلوقات تشكيلية تلتقي بأبعادها الحسية في معرض شخصي بأروقة المتحف الوطني للمنمنمات والزخرفة والخط بقصر مصطفى باشا في قلب العاصمة الجزائرية، يتسامى فيه الخط العربي إلى رؤى حسية تجسدها دلالات فنية لفك رموز صوفية أفرزتها مشاعر ذاتية اعتادت أن تمارس طقوسها في فرائض يومية تحت قبة السماوات العلا. وعملية البناء التشكيلي في عالم صوفي لا تسلك مسارات النشوة لبلوغ أوج ذروتها، فالصوفية إن لم تكن في الرؤية الإسلامية مذهبًا له شرائعه وأحكامه، فهي مذهب في المبدأ الجمالي المعاصر، يجسد رؤاه بأدوات الفن الحديث في الفنون والموسيقى والتشكيل والمسرح، رغبة في الإرتقاء لمقام الرؤيا الأعلى في: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، لتنتهي المسارات برؤاها الجمالية المتصوفة عند الله جل وعلا، إثر بلوغ أعلى مراحل النقاء. نفس تتربى على قيم السماء، وقلب يتطهر من الدنس الوضعي. وتضحى الصوفية التي تتجلى في "حروفيات جزائرية" تزكية لفعل ذاتي، صار له شكلا في أبجدية لغوية، تحاكي الصفاء المنشود. وتأخذ اللوحات التجريدية المتحركة حسيا بتموجات الحرف العربي، روح المنجز الفني الذي تخطى أكبر المخاضات قبل أن يفرض خصائص وجوده في عالم لا يزال يتمسك المتنفذون فيه بالمبادئ التقليدية لقواعد الخط إلى حد الصرامة، ولم يأذنوا بعد في بعث روح الحداثة فيه. فتبرز جماليات محمود طالب بمضامينها المتمردة على قواعد أصولية ليمنح الحرف العربي المشكل أساسا بالتواءات تشكيلية لها معانيها وحيزها البصري، وروحه المعاصرة بتوظيف تجريدي ينفتح دون انغلاق على مذاهب الفن التشكيلي الحديث. ويضحى الإرتقاء بالحداثة في لوحات خطية واستخدام تقنياتها المعاصرة والتحكم بأدواتها إبرازا للمضمون الإنساني في عمل تشكيلي لا يستقيم بوجوده إلا إذا أخذ أشكال الواقع المتخيل وأعاد صياغاتها بآليات جمالية، وجسد تجليات الذات في مشهد بصري ملموس. وعرض أعمال محمود طالب في أروقة المتحف الوطني للمنمنمات والزخرفة والخط إدراك لقيمتها الفنية المتجددة، واقتراب من الأصول الجمالية التراثية المنتعشة بروح معاصرة.