لا يصدّق، من زار إيطاليا قبل انتشار وباء كورونا، ما يشاهده الآن على الشاشات من مآس يومية تحل على الشعب الإيطالي، بل من خراب متوالٍ يطاول المدن وناسها، الشوراع والساحات التي كانت دومًا تعج بحياة فريدة، إيطالية صرفة. هذه ليست روما، هذه ليست نابولي، هذه ليست البندقية، هذه ليست فلورنسا... أما ساحة الفاتيكان المقفرة فهي ليست الساحة التي لم تخلُ يومًا من الزائرين حتى في ساعات الليل. الوباء يفتك بالناس والمدن في وقت واحد، يفتك بالحياة اليومية وما تخفي وراءها من أفراح وأحزان، يفتك بالحدائق والشواطئ والروابي... يقول الشاعر الإيطالي فاليريو مانيلي: "كشف لنا الوباء بلدًا آخر". فعلاً هذه إيطاليا أخرى، غير متوقعة، غريبة، مملوءة خوفًا وموتًا وعدوى. لعل الكتّاب من روائيين وشعراء وسواهم، هم الأكثر قدرة على وصف هذه اللحظة الرهيبة التي تجتازها إيطاليا، وعلى عيشها كحادثة قدرية تراجيدية رهيبة، والتعبير عنها وعن أبعادها وآثارها العميقة. طلب ملحق الكتب في صحيفة "لوموند" الفرنسية الشهيرة في عدده الأخير من كتّاب وكاتبات إيطاليين أن يكتبوا عن المأساة التي تشهدها إيطاليا، كل من وجهة نظره وبحسب عيشه هذه المأساة. هنا آراء عشرة من الكتاب والكاتبات الذين شاركوا في الملف. في شهادة الكاتب ماركو أميرغي: "الانعزال أمر مالوف لدي. ولطالما بحثت عنه كي أنصرف إلى التفكير والكتابة. بضعة أيام، أسبوع، ثم أخرج وأعود إلى الحياة. اليوم بعد الحجر الصحي الذي حصل في إيطاليا وفي ألمانيا ليست الاستراحة الإلزامية هي ما يثقل علي، إنما انتفاء المصير. ما الذي سيحصل لنا إذا دام هذا الانعزال طويلاً؟ هل نبقى قادرين على أن نرجع إلى الحياة بين الناس، بعدما ذقنا الثمار المسممة لحياة العزل؟ علينا أن ننتظر، ليس في وسعنا أن نفعل شيئًا آخر". أصبحنا سريعي العطب أما الكاتبة سيلفيا أفاللوني فتقول: "حل فيروس كورونا وكسح كل شيء: مستشفياتنا، اقتصادنا، حياتنا اليومية، عاداتنا، عناقاتنا، عملنا، كبرياءنا. وبدا أنه يهاجم بعنف أكبر العجائز والبالغين، لكن الشباب والأطفال ليسوا في منجى منه. لقد أصبحنا جميعًا سريعي العطب: مبلبلين، مرعوبين وقلقين. ولكن في الحقيقة طالما كنا هكذا. الفيروس نزع القناع عن وجوهنا ويحسن بنا أن نستخلص منه كيف نتحرر: عدم السعي إلى إثبات أي أمر لأي شخص كان، ولكن مساعدته. هذا الفيروس مجهول، وما زلنا نجهل كم من الوقت سيعيث خرابًا، وكيف سيغيرنا. لكننا نستطيع منذ الآن، بين الجدران الأربعة، أن نبدأ في اختبار كل ما لم نتصور أن نفعله من قبل. كلمة أخيرة: خصوصًا إلى جدتي التي تدعى "بيس". كنت سأقول لها: "هل رأيت ماذا يحصل لنا، يا جدتي؟ هل كان بوسعك أن تتخيلي أمرًا كهذا؟". أحفظ في قلبي فراغ جوابها". تقول الكاتبة جينفرا بومبياني: "العيش في زمن الطاعون الجديد يكتسي طابعين: أحدهما ليّن ما يكفي والآخر شرس جدًّا. حل الصمت من حولنا، إننا نسمع زقزقة العصافير، والجميع ينصحون بالقراءة، بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية، أن يغنوا من النوافذ وعلى الشرفات... الجميع يفكرون بقضية واحدة، يعطون نصائح حول قضية واحدة، يخبرون ويستعلمون عن القضية الوحيدة نفسها دومًا. ولكن عندما يلتقي الناس في الشارع، تبدو الابتسامات نادرة، أما النظرات فتكون عدائية ومرتابة. يبدو العالم المادي كأنه ابتُلع بلقمة واحدة، وفي مقدم الذين يسقطون كيفما كان في هذا "الحلقوم" الضخم هم العجائز، الذين لن يلقوا علاجًا، والذين بسبب وحدتهم ينتهون لا أحد يعلم أين، ثم أولئك الذين نسميهم المشردين الذين لا سقف يؤويهم، المهاجرين والفقراء، الذين سيقضي الجوع عليهم قريبًا. الثقافة تزهر بينما الحضارة تنهار... أهذا ما نسميه عالماً افتراضيًّا؟" الكاتبة كاترينا بونفينيني تقول في شهادتها: "إنني أقيم في ميلانو، معزولة في منزلي مع زوجي منذ 22 فبراير (شباط). من حسن حظنا أننا نحب بعضنا بعضًا كثيرًا. العالم، مثل بقية إيطالياوروما حتى الجنوب، يعاملنا وكأننا مصابان بحال من البارانويا. إننا نطرح على أنفسنا فقط كمًّا من الأسئلة. وفي أيام لم يكن قد تم الاشتباه فيها، ألغينا كل التزاماتنا ولم نخرج من بيتنا، هذا قبل أن يصدر أي قرار. اليوم تبدو الحياة هنا قاسية: الفيروس يتطور، ليس من أمكنة في غرف العناية الفائقة، وزوجي عمره 70 سنة. على الرغم من ذلك فنحن لم نندم على هذا الخيار. منذ البداية فهمنا المشكلة بوضوح. كان يكفي أن نستمع إلى علماء الأوبئة. ولئلا نذرف الدموع متقطعة بغزارة، كلما قرأنا بيان الحماية المدنية، لا يسعنا إلا أن نخترع أوقاتًا سعيدة. نمارس الرياضة على آلة المشي. وعند الساعة السادسة مساء، نغني كل يوم، على الشرفة مع الجيران الذين يفتحون أيضًا نوافذهم. نحضّر مشهّيات من خلال الفيديو. ومنذ بضعة أيام، صرنا زوجي وأنا ، وكأننا اكتشفنا جديدًا، نرقص كل مساء على وقع أغنية معينة. أما في ما تبقى، فالأيام تمضي بسرعة قصوى. بين التدبير المنزلي، غسالة الثياب، غسالة الأواني، المطبخ. عندما تفجّر كل شيء في إيطاليا، كنا زوجي وأنا، في ميلانو. كان في وسعنا أن نغادر. لكننا فضلنا أن نبقى هنا. المهاجرون لا يختارون شيئًا، فهم ليس لديهم هذا الحظ. كانت أمامنا خيارات عدة يمكننا القيام بها. ولا أعلم إن قمت بالخيار الصحيح، لأحمي زوجي. لا أدري. إلا بعدما أغلقت الحدود، نملك الفرصة الملائمة لنفكر معًا". هشاشة الوضع البشري يقول الكاتب ريكاردو كاليماني: "مدينة البندقية، من نافذتي، تبدو مقفرة تمامًا: الشوارع والساحات فارغة. لا مركب آليًّا كي يحرك ماء القناة الكبيرة، لا جلبة لراكب غوندول. حتى لا ضجة عادية لأي عابرين. لا صوتًا بشريًّا. اليوم، السماء الزرقاء اللازوردية، الصافية كما في النادر، وشمس الربيع، تناقضان الأفكار القاتمة التي تساور أهل البندقية المحبوسين في منازلهم. ومن بين التجار القليلين، باعة علب السجائر ما زالوا يفتحون محالهم، حتى لو رفعوا شعارًا يقول: "التدخين يضر بالصحة كثيرًا". كثيرون من أصدقائي لا يحتملون هذا الانعزال الجبري. ويواصلون اندهاشهم إزاء هشاشة الوضع البشري وتعرضه لتقلبات الرياح والثروة. تُحوّل أوقات الأزمة رؤيتنا إلى العالم وحياتنا اليومية، وتستخرج منا بقوة شعورًا قديمًا، هو الخوف، الذي يفاقم بدوره الريبة واللايقين ويُحدث فينا قلقًا يستحيل تبديده. هذا الوباء يفيدنا بأن كل السياسيين، كلهم، يحكمون وهم ناسون كل النسيان، الرؤية ذات المدى البعيد، ذاك أن السياسة هي فن الطارئ أو المحتمل في المدى القريب. هل هو الوقت المناسب لاستخلاص أمثولات للمستقبل؟ لا أعتقد. الذاكرة هي نبتة يصعب زرعها، بينما تجعل سرعةُ التكنولوجيات الحديثة كل شيء عارضًا ومتحركًا برهبة. هل يقي مثل هذا الكلام؟ القراءة، التأمل والتفكير: إنها ما يصارع الخوف ويمنح الأمل". جمال الفراغ الكاتبة كريستينا كومنشيني تقول: "شوارع روما مقفرة في شكل لا يصدق، مثلها مثل شوارع باريس ونيويورك ... لا شيء مثل المدن يمكنه أن يُظهر عمل البشر: أشكال متوازنة، فضاءات، ارتفاعات، مملوءة أو فارغة. لكننا كبشر لا نتمكن من الفهم التام لجمال ما بنيناه إلا عندما نفرغه منا نحن. تصبح هذه المدن آنذاك أثرًا لحياتنا وعملنا. ثم فجأة، نعي هذا فيها، ونتلقى فيها المعجزة. إنها تكشف اللامرئي. حتى ميلانو نفسها، المدينة المقفرة والصامتة، تذرع سيارات الإسعاف شوارعها، ذاهبة وعائدة". تقول الكاتبة ميلينا أغوس:"في هذه الأيام التي تقفل فيها المكتبات، يبقى لنا منفذ وحيد: أن نعيد قراءة الكتب التي لدينا والتي قرأناها منذ زمن بعيد. في هذه الحكايات، نبحث عما اعتدنا البحث عنه دومًا في كتاب جديد: شيء ما يحدّثنا عن حياتنا، شيء يبدو كأنه كتب خصوصًا لنا، الآن. هكذا وجدت مقطعًا من رواية "الدكتور جيفاكو" للروسي باسترناك، أكاد أحفظه غيبًا، ما دمت قد قلت لنفسي غالبًا، إن بطل الرواية يوري هو على حق". يقول الكاتب موريزيو دو جيوفاني: "هنا في نابولي، إنني محظوظ بأن لدي شرفة أرى منها كل المدينة. امتداد هائل من قصور، قديمة وحديثة، متعددة العلو والألوان، مع شوراع أيضًا وسماء تعج بالحياة، وتزخر بالسيارات والطائرات والقطارات والشاحنات والدراجات النارية وأناس هم في حركة ذهاب وإياب في كل الوجهات. اليوم كل شيء مغلق، غارق في الصمت. ولكن نشعر كأنّ ثمة تخبطًا، ثمة ضجة تأتي من العمق. إنها إرادة مواصلة الحياة. الرجاء. مدينتي تنتظر. مدنيتي ما زالت حية". نظرات مرتابة وستائر مرفوعة تقول الكاتبة ناديا تيرانوفا: "ما يتغير هو برأيي، النظرات التي يتبادلها الجيران، طريقتنا في تقاسم مكان عام كنا نعيش فيه سابقًا بحال من اللامبالاة. ستائر النوافذ التي كانت دائمًا مسدلة، رفعت الآن: عند الغروب نتبادل السلام، نبتسم بعضًا لبعض، وأحيانًا نغني معًا، أو نرفع أنخابنا بين نافذة وأخرى. في البناية التي أسكنها، كتب بعض الجيران أسماءهم على درابزين الشرفات، وكأنهم يبغون التعريف بأنفسهم. وهذا يهم خصوصًا الأشخاص المتقدمين في السن والأولاد، كي يشعروا بأنهم أقل وحدة. من يعلم إذا كنا سنتذكر هذه الأمور عندما تعود المياه إلى مجاريها". أنام كثيرًا يقول الشاعر غويزي توريغروسا: "إنني أنام كثيرًا، وهذا لم يحصل لي منذ سنوات. أكتب قليلاً، مقاطع من أربعين أو خمسين كلمة، ولا حتى "تويت". آكل قليلاً، وأخاف أن تنقص المؤن وأن يؤثر انخفاض سكر الدم سلبًا على جسدي. أقرأ قليلاً، فقط روايات ضخمة وذات وزن، العواصف في فنجان ماء، كما يقال، ولو كانت مكتوبة جيدًا، لم تعد تغريني. أترك مسافة بيني وبين وسائل التواصل الاجتماعية، لأتحاشى كل جرعة مميتة من التوصيات، وكذلك أفلام الفيديو المباشرة، الصور، والموسيقى الركيكة التذكارية والمعزية والتي تشد العزم. أنتظر بقلق نهاية الحظر لأقوم بما كان علي أن أقوم به منذ سنوات: أن أحطم بضربات مطرقة، المثوى الزجاجي الرهيب، الذي كانت بنته ابنة عمّ لي مجنونة، فوق مقبرة أجدادي. ستكون لهم حرية الخروج الآن ما داموا قد ماتوا".