مزيد من الليالى القاسية والشاحبة تمر على مدينتى الصغيرة والأليفة، نامت فيها مدينتى يتيمة، اختفى ضجيج الباعة من شوارعها، جثم ذلك الصمت على كل معالمها، وقد انتويت أن أسير متفحصاً هذه المرة، لا لوجوه الناس، حيث خلت شوارع المدينة من الوجوه، قررت تأمل طرقات المدينة.. شوارعها، أزقّتها، أبنيتها ومشاهدة المصابيح من خلف أستار نوافذ الغرف، وكلما كنت أوغل فى السير كان الليل ينفخ فى الأمكنة زفيراً يصبغ الجو ببرودة مالحة، برودة غير مستساغة ولا محببة. كل الشواهد تبعث للحزن. والوحدة وهيبة الليل بلا أنيس أو رفيق، كأنما كان الطواف بالمدينة فى هذه الليلة طوافاً انفرادياً، لا يخلو إلا من بعض حراك تحدثه سيارات تمرق وتجرى على عجل. أطفئت المصابيح، وأغلقت أبواب المقاهى، نادى أولو الأمر ببقاء الناس فى المنازل، مخافة انتشار الوباء، واهنة تلك النفس البشرية، ومزيفة أيضاً، تتبدى صورتها الأصلية لحظات الضعف والهزيمة، تتبدى بلا أقنعة ولا تجبر أو كبر، تتجلى فى صورتها العدمية قليلة الحيلة، حيث الحقيقة المطلقة التى نتوارى منها إما هروباً وإما تكبراً وغطرسة، حقيقة أن ذلك الإنسان ما هو إلا حركة شهيق وحركة زفير ولا يعلم هو، ذلك البائس، موعد توقف الشهيق أو الزفير. لعدة ليال كست العتمة الميدان الكبير للمدينة، اختفى الزوار والوافدون، ندر الأطفال أمام أكوام الحمص والحلاوة، لم تعد بهجتهم متواجدة، احتفاء بتذوق الحمص وحب العزيز والحلاوة الشعر. غير أن الرجفة تتملكنى كلما شاهدت قبة صاحب المقام مطفأة، موحش فى نفسى هذا المشهد، أشد قسوة وألماً على روحى أن أرى المسجد الأحمدى بلا مصابيح تنير تواجد السلطان فى مرقده ومقامه، قديماً كانت أمى كلما مرت، تشد يدى طفلاً من أمام المسجد والمقام تقرأ له الفاتحة، تقول لى الله يرزقنا ويحفظنا ببركة الصالحين، تحكى لى قصة رجل كان ينتمى لقوم موسى، منع الله عنهم المطر لأنه كان يعصى الله، فلما تاب إلى الله أرسل الله للناس المدد والغوث، تقص لى حكاية الصالحين الذين هم بنيان الأرض، وسرهم مع الله الذى أطلع عليه بعض عباده المخلصين والصادقين. تشدنى فاطمة من يدى وتقرأ الفاتحة جهراً للولى صاحب المقام، ونواصل السير، كانت فاطمة ذات ملامح حلوة وروح طيبة قبل أن يهزمها الألم وتحفر الأيام بعضاً من التجاعيد كأنهار صغيرة فى صفحة وجهها، تغوص يدى الصغيرة فى يدها، مكتفياً بذلك الدثار وتلك الطمأنة التى تسكننى وقت مرورنا، ثم تعاقبت الأيام، القانون الحتمى لصيرورة الزمن وتجدد لياليه، وكبرت «فاطم»، كما كنت أنادى عليها، وكانت هى إلى جوارى مرة أخرى، لكن مصابيح القبة كانت مطفأة، خبطت فاطمة على صدرها، ثم قالت يا لطيف بالعباد يا رب، هنا التفت إلى وجهها محاولاً الفهم، سر سبب هذا الفزع، أخبرتنى بأن مصابيح القبة إذا أطفئت فهذا يعنى ثمة أمراً جللاً يدور فى علم الغيب، وأنه إنذار بأن ثمة شيئاً سيحدث فى بر مدينتنا الصغيرة، مدينتنا التى ذاع صيتها تشريفاً بقدوم الولى وسكنه فيها، طنطا وشيخ العرب. كأنما يعاود المشهد تجدده مرة أخرى لكن مرورى وسيرى هذه المرة بلا «فاطم»، سيرى بمفردى ومرورى وحيداً أمام قبة ولى الله، صاحب اللثام وشيخ العرب كما أطلق عليه محبوه، مطفأة المصابيح فتوغل المدينة فى وحشة ويتم. يُتم قاس مع تلك الليالى التى ينفخ فيها الليل بزفيره فتنتشر فى المكان برودة مدببة. السبب الظاهرى معلوم كما تناقلته الصحف ومحطات النشرات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعى، أن وباء هذه الأيام «كورونا» وصل إلى بر مصر. بينما كلمات فاطمة لا تزال تدق رأسى بأن ثمة أمراً جللاً، وكلما مررت وشاهدت مصابيح صاحب المقام مطفأة تملكت قلبى رجفة كرجفة ذلك الطفل الذى كان قابضاً على يد أمه بينما هو الآن يسير متفرداً وحيداً. . الموت الأسود فى نهاية القرن الثالث عشر، غزا جزيرة صقلية فى القارة الأوروبية وباء لم يعرفه من يمتهنون الحكمة والتطبيب فى ذلك الوقت، لقبوه بالموت الأسود، نظراً لما يتركه المرض من بقع سوداء على جسد الضحية التى يفتك بها ويفترسها، ثم أدرك البعض أن المرض هو الطاعون الذى بدأ من صقلية وانتقل مع حراك البحارة إلى وسط أوروبا حتى استبد بسكان البرتغال واسبانيا وايطاليا وفرنسا، فضرب وسط أوروبا وشرقها وغربها، فى هذا التوقيت خرج القساوسة إلى شوارع المدينة، يعلنون غضب السماء على أهل البندقية، ونابولى، وتوالت الحرائق وطردت المحظيات من المدن الأوروبية تقرباً إلى الرب حتى يرفع البلاء، لكن البلاء كان يتفشى بشكل أكثر، فخرجت مجموعة من الناس حملوا الصلبان على أعناقهم ووقفوا أمام الأعمدة الرخامية فى ميادين أوروبا عارى الثياب ثم يناوبون جلد أنفسهم بكرباج «سوط» بثلاثة حبال غليظة، وعقب هذا التأديب يسيرون فى شوارع روما منحسرى الثياب ليبينوا للعوام أثر الجلد لعل الرب يتقبل قربان الدم لرفع الوباء. وربما كان العمل الأدبى للكاتب الفذ وليام شكسبير «تاجر البندقية» نافذة تناولت بعضاً من مآسى فترة الموت الأسود ووباء الطاعون داخل تلك البقعة من الكرة الأرضية. وعبر مرور متسارع إلى صفحات العالم الافتراضى والتواصل الاجتماعى، النافذة البديلة لتداول الخبرات والأخبار والمعلومات، تجد تلك الصيحة التى تطالب العوام بالرجوع إلى الله، وأنه ما نزل وباء إلا بذنب، ولكن أى رجوع نقصده وأى رجوع يجب أن يكون؟، هل نقصد هنا رجوع النفس إلى الله أم رجوع الروح إلى الله أم رجوع الجسد إلى الله؟ وكيف يكون الرجوع؟ وأى رجوع تحديداً يجب أن يكون؟ عفواً أيها القارئ. ..عفواً أيها السادة، أى رجوع نقصد؟، كانت مساجد المسلمين لا تزال تعج فى صلوات الجمعة بالمئات من البشر، المسجد الحرام كانت حلقات الطواف ما تزال دائرة مستمرة، الناس هنا تؤدى مناسك العبادة لله، فلمَ أصابنا الوباء؟!....لم تتوقف فينا حركات المصلين ولم تتوقف صيحات مشايخ النفط صاحبى الذقون الطويلة والجلابيب القصيرة بالصراخ والتهليل والتخويف والترهيب. ...أين إذن المشكلة؟ المشكلة فى آلية العودة. ..هل نحن بحاجة إلى العودة للروح أولا أم العودة بنفس آلية العودات القديمة؟ بمثل صيحات الدعاء المتكررة فى كل مساجد الأرض بتحرير القدس وصد عدوان الظالمين، غير أن لا القدس حُررت ولا أضحينا بقادرين على صد عدوان الظالمين، أى بر نقصد تقرباً إلى الله؟ وكم من مصلٍ يصلى وبجبهته بارزة زبيبة الصلاة، بينما هو يستطعم الظلم ويستبيح لنفسه الرشوة ولا ضرر أن يأكل مال اليتيم وتجد نفاقه صار طقساً حياتياً يؤديه لرئيسه فى العمل ولا غضاضة أن يعمل واشياً....وهل صدقنا مع أنفسنا؟...يقول السيد أبوالحسن الشاذلى، رضى الله عنه، وهو أحد كبار أعمدة التصوف «وعمدة طريقنا الحب» هذا الحب الذى انتفى من القلوب فلم نعد نستطعم أو نترجم المعنى الفقهى لمناسك العبادة، بل يحضرنى قول أحد تلامذة الشاذلى وهو السيد عبدالرحيم النشابى، رضى الله عنه، أحد أولياء الله ببر مدينتى طنطا، حيث يقول: «ونق قلبك من ذى الخسر تتصل»، والخسر يقصد به مظالم العباد والجشع والشره والكذب والإفك والنفاق، ثم إننى وجدت ضالتى وأنا أحادثك أيها القارئ عبر هذا الجواب القرآنى الجامع والمانع والقاطع، أدعوك لتأمله وتدبره كدستور للعودة لله، تأمل معى وتحديداً فى سورة البقرة التى تتصدر المصحف الشريف :«لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».. هذه الآية التى تمثل دستوراً إنسانياً عظيماً تتفق فيه القيم الإنسانية وتتوجه كتاج للرقى الإنسانى، فليس المقصود بالبر والتقرب والعودة إلى الله أن يولى الإنسان وجهه للصلاة ويقيمها ويؤدى مناسك العبادة كما نفعل نحن بينما البر يقتضى الإيمان بالله ثم تأتى واو العطف للمشاركة فيكون الإيمان بالملائكة والكتاب ويوم البعث والحساب وتستمر واو العطف للمشاركة فى قواعد هذا الايمان، ليكون إنفاق المال ليس بدافع الزكاة وإنما نوع من أنواع التأديب النفسى للذات البشرية، إتيان المال للأقارب المتعسرين الذين ضاق بهم الحال واليتامى والمساكين والمسافرين ومن يتعثر فيسألك أن تعطيه من مالك ليسدد دينه أو يقضى حاجته، هذا التقديم يجب أن تتدبره معى وأنا أكتب لك، وبعدها تؤدى الصلاة عقب إتيانك وإنفاقك لهذا المال الذى تحبه، ولا أخفيك سراً عزيزى القارئ أننى اعتقدت ان المعنى القرآنى «على حبه» هى أن تفعل الانفاق عن حب، فوجدت أن التفسير يقر أيضاً بأن المقصود بقوله تعالى على حبه أى على حب المال لنفسك وحب النفس للمال فيخاف الإنسان أن ينفقه فيصير فقيراً أو يقل ماله فيلجأ إلى العوز والاقتراض، العجيب فى هذه الآية العظيمة أن هذا الانفاق ليس هو الانفاق وفق المنسك الشرعى للصرف وهى فريضة الزكاة، إنما جاءت الآية لتوضح أن سبيل هذا الإنفاق هو سبيل آخر غير الزكاة المفروضة، وعقب ذلك تتأتى صفة الصبر فى الفرح والحزن ليكون التفصيل مقدما على الإجمال فيكون الإجمال هنا بقوله: «أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون»، الدستور القرآنى عرف البر والعودة إلى الله بمفهوم مغاير لما ثبت فى عقولنا فأصبحنا نؤدى مناسك العبادة كنوع من أنواع الحراك الذى اعتاده الجسم، عبادة بلا روح، بلا تدبر، وقبيل هذه المناسك كان الحب الذى مستودعه القلب، هذا القلب الذى هو المسكن الأول للإيمان، المُضغة التى فى الجسد بقول الرسول الكريم صلوات ربى عليه وآله وصحبه الأطهار، تلك المضغة التى بصلاحها يكون صلاح الجسد. د. رامى المنشاوى