إذا كان الحديث الأهم في مصر الآن هو ذلك المرتبط بحصة مصر في مياه نهر النيل، بعد ما يمكن وصفه بانقلاب دول حوض النيل التسع باستثناء السودان، وإذا كان كثيرون يتحدثون عن وجود أياد إسرائيلية في ذلك، فإن هذا الكتاب والدراسة التي قدمتها الدكتورة زبيدة محمد عطا رئيس كلية التاريخ بجامعة حلوان "إسرائيل في النيل" يوثق الوجود الإسرائيلي في دول حوض النيل وكيف أن ذلك الدور الشيطاني كان سببا رئيسيا في الأزمة التي تعاني منها مصر الآن، ويقف أمامها نظام مضطرب حائر غير قادر علي اتخاذ خطوات جادة وكأنه فوجئ بالدور الإسرائيلي في دول حوض النيل رغم أنه معروف منذ سنوات طويلة. الكتاب يؤكد علي أن أزمة مياه النيل ودور إسرائيل فيها لم يكن وليد السنوات الماضية فحسب، بل إن جذور الأزمة مع إثيوبيا تحديدا تعود إلي سنة 1980 عندما دفع "الحماس المبالغ فيه للسلام" الرئيس السادات إلي الحديث عن إمكانية تزويد صحراء النقب الإسرائيلية بمياه النيل في مقابل وقف الاستيطان الإسرائيلي في القدس، وهو مشروع يشير الكتاب إلي أنه كان سببا "لانقلاب" من جهاز المخابرات المصري علي الرئيس السادات ورفضوا ذلك المشروع تماما، لكن إسرائيل استغلته جيدا، ودفعت إثيوبيا للتقدم بمذكرة إلي منظمة الوحدة الإفريقية تعترض فيه علي نقل مياه النيل إلي خارج القارة وتهدد باستخدام القوة العسكرية لمنع حدوث ذلك، في الوقت الذي توافد فيه المهندسون الإسرائيليون علي أديس أبابا لدراسة تنفيذ سدود جديدة وهو أمر دفع الرئيس السادات لأن يقول للمقربين منه بأنه وإذا اعتبر أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، فإنه سيخوض حربا جديدا ضد إسرائيل وإثيوبيا من أجل مياه النيل، وتوترت الأمور حينها بين مصر وإثيوبيا لدرجة أن مصر أرسلت أسطولا بحريا عسكريا صغيرا إلي المياه الجنوبية من البحر الأحمر وكادت الأمور تصل إلي ذروتها لولا أن هدأت مجددا. الكتاب صدر في وقت مناسب تماما، حيث يتزايد الجدل في حوض نهر النيل بين دول المنبع ودول المصب وبخاصة مصر، وحصتها في مياه النهر، ومدي إلزامية الاتفاقيات الدولية المبرمة منذ عقود في الحقبة الاستعمارية، التي تحدد حصص الأطراف المختلفة والتزاماتها تجاه نهر النيل. ويلقي الكتاب الذي نعرض له هذه المساحة الضوء علي جانب آخر من الصورة، حيث يناقش أبعاد الدور الإسرائيلي، منذ أكثر من نصف قرن وحتي الآن، في الوصول بالمشكلة إلي مرحلة الأزمة حالياً. والدكتورة زبيدة عطا مؤلفة الكتاب هي في الأصل متخصصه أكثر في تاريخ اليهود والحركة الصهيونية، وتستعرض في هذه الدراسة الموثقة جذور وأبعاد المشكلة التي بدأت مع ظهور المشروع الصهيوني نفسه، وبحثه عن حل لمشكلة المياه، ومروراً بإعلان قيام "إسرائيل"، والدور الذي تلعبه في القارة السمراء وصولاً إلي حالة الأزمة التي تعيشها المنطقة فيما يخص قضية المياه. وينقسم الكتاب إلي ثلاثة أبواب,الأول بعنوان:"إسرائيل وأفريقيا" وفيه تناقش المؤلفة تراجع الدور المصري في أفريقيا بعد عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان لفترة حكمه تأثير واضح في دعم ومساندة حركات التحرر في مناطق عديدة من دول القارة، وهو ما أدي إلي قيام معظم دول أفريقيا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، في أعقاب حرب السادس من أكتوبر عام 1973م. ورغم ذلك فإن الحكومة المصرية لم تحاول الاستفادة من هذا الموقف في توثيق التعاون بينها وبين الدول الأفريقية عموما ودول حوض النيل خصوصا، وهو ما أدي إلي نجاح إسرائيل في استعادة علاقاتها تدريجياً مع دول القارة، خصوصاً بعد توقيع اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية، في كامب ديفيد بالولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1979م. وينتقد الكتاب قلة الاهتمام والتهوين الرسمي المصري من خطورة الدور الإسرائيلي في أفريقيا، فيما يخص أزمة حصة مصر من مياه النيل، حتي إن بعض الرسميين، وصحفيين وكتاب محسوبين علي السلطة، يربطون الحديث في هذا الجانب بنظرية "المؤامرة" التي تتخيل خطراً وهمياً قادماً بلا دليل، مستندين إلي أن حجم استثمارات إسرائيل في إثيوبيا مثلاً لا يزيد عن مائة مليون دولار وهو رقم ضعيف بالمقارنة بالاستثمارات المصرية. ويشير الكتاب إلي جملة من الوقائع والشواهد التي تؤكد قيام إسرائيل بتغذية الشعور لدي المسئولين الأفارقة في دول حوض النيل، بأن مصر تسلبهم حقوقهم ومواردهم الطبيعية بلا ثمن،بالإضافة إلي الدعم العسكري الإسرائيلي لبعض الدول وحركات التمرد في القارة، سواء من خلال التسليح أو تدريب المقاتلين، وهو ما يجعل دورها وتأثيرها علي صناعة القرار أكبر من مجرد النظر إلي حجم الاستثمارات المالية. ويتناول الباب الثاني أطماع إسرائيل في شبه جزيرة سيناء، وإمكانية توصيل مياه نهر النيل إليها عبرها، ويشير إلي فقرات متعددة من كتاب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، تؤكد علي اهتمام المسئولين هناك بمشروع توصيل مياه النيل إلي إسرائيل، عن طريق القنوات المائية في مصر، وهو المشروع الذي تسعي إليه الصهيونية العالمية منذ أيام هيرتزل. ويذكر الكتاب أن الحكومة الإسرائيلية حاولت الضغط علي الرئيس أنور السادات في أعقاب اتفاقيات السلام 1979 من أجل توصيل مياه النيل إليها عبر سيناء، واستخدمت في ذلك إثيوبيا، سواء من خلال دعمها لبناء بعض السدود، التي تقلل من تدفق المياه إلي مصر، أو في دعم الرئيس الإثيوبي منجستو هيلا ماريام لإحداث قلاقل في السودان، من خلال دعم المتمردين في الجنوب، وهو ما أدي إلي إغضاب السادات، فألغي فكرة مد المياه إلي سيناء تمهيداً لنقلها إلي إسرائيل. ويشرح الباب الثالث الأبعاد التفصيلية لعلاقات إسرائيل بدول حوض نهر النيل، والدول الغربية التي تساندها في ذلك، فالولاياتالمتحدة تتبع سياسة الترهيب والترغيب مع الدول الأفريقية، التي تقف موقفاً معادياً لإسرائيل في المحافل الدولية، ومن الحقائق التي تم الكشف عنها انضمام هولندا وألمانيا إلي الولاياتالمتحدة في دعم وتمويل النشاطات الإسرائيلية في أفريقيا، وأيضاً فإن لفرنسا دوراً لا يستهان به في تسهيل عودة إسرائيل إلي القارة السمراء, بحكم شبكة علاقاتها الواسعة بقادة الدول الناطقة بالفرنسية، بالإضافة إلي دور بريطانيا في شرق أفريقيا وفي نيجيريا. وتستعرض المؤلفة واقع دول حوض النيل وعلاقاتها بإسرائيل، مؤكدة أن إسرائيل تلعب دوراً مهماً في محاولة تقسيم السودان وتفتيته إلي عدة كيانات، يرتبط بعضها بمصالح مشتركة معها، وتشير إلي كتاب عميل الموساد السابق "موشيه فرجي" بعنوان "إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان"، الذي يؤكد فيه أن إستراتيجية إسرائيل تقوم علي أساس تقوية الحركات الإثنية المعارضة للسلطة في الشمال بعد فشلها في إجراء اتصالات مع الزعامات السودانية، وتحول السودان إلي الخندق المعادي، فلزم اتباع سياسة شد الأطراف ثم بترها. ويذكر عميل الموساد أيضاً أن جون جرنج كان علي علاقة قوية بإسرائيل, وأن أفراداً من الموساد شاركوا في سقوط عدد من مدن الجنوب في أيدي المتمردين في عام 1990، وتشير بعض التقارير إلي أن حادث تحطم طائرة جرنج كانت تقف وراءه إسرائيل, بعدما بدأ يميل إلي وحدة السودان، ويبدو الدور الإسرائيلي في أزمة دارفور واضحاً جلياً, حيث لم تخف بعض قيادات فصائل التمرد صلتها بإسرائيل، ويعتبر أنصار اللوبي الإسرائيلي الأمريكي أن نشاطهم، لما يوصف بحملة إنقاذ دارفور، كان وراء تشكيل رأي عام عالمي، لدفع المجتمع الدولي نحو اتخاذ قرار من الأممالمتحدة، بإرسال قوات دولية إلي دارفور، كما تم اكتشاف شبكات لتهريب الأسلحة الإسرائيلية إلي المتمردين في دارفور. وفي الختام تتساءل الدكتورة زبيدة عطا: هل يمكن بعد كل هذه المعلومات والوقائع علي الأرض، أن ينهار ذلك تحت شعار نظرية المؤامرة الوهمية؟ الكتاب إذن صيحة تحذير لكل من يهتم بأزمة المياه في دول حوض نهر النيل وبخاصة لكل المسئولين في مصر والسودان.