يلاحظ المتابع للحوار بين الأنبا بيشوي وبين د. يوسف زيدان، أو بالأحري للمعركة الفكرية بينهما أن القضية قد انقلبت من قضية معالجة التعصب في أي مرحلة من التاريخ الإنساني، والإشارة أنه في كل الأديان يوجد هؤلاء المتعصبون الذين يقتلون الفكر الحر وهو ما أراد د. زيدان أن يبينه في كتابه "عزازيل"، إلي دفاع عن الكنيسة وعن المسيحية، فيما بدا وكأنه هجوم عليها. وإذا أردنا أن نضع هذه المعركة في دائرة أوسع، سنجد أن الدخول في متاهات الدفاع والهجوم يرجع إلي ذلك الخلط بين التعصب الديني وبين سماحة كل الأديان. فليس هناك دين متعصب، وذلك لأن الرسالة القادمة من مصدر الحق الإلهي تبغي غير الإنسان، وتسعي إلي ربط البشر بروابط المحبة وتدفعهم إلي السباق من أجل خدمة بعضهم البعض. ولا يمكن أن تكون أي دعوة إلي إشهار العداء والإدعاء بتملك الحقيقة المطلقة تعبيرا عن أي من الرسالات السماوية. ويخيل إلي أن هذا ما أراد أن يبرزه زيدان في روايته، أي التفرقة بين التعصب الديني وبين رسالة الأديان، فهو وإن كان يتحدث عن الماضي ويستخدم أحداثا تاريخية حقيقية ممزوجة بشخصية خيالية ليجعلها شاهدة علي تلك الأحداث، إلا أنه في نفس الوقت يحاول أن يشخص أسباب العنف والقهر التي يمارسها المتعصبون ضد الفكر الحر بإسم الدين. ولا يعني الدين هنا أي مسمي ديني، ذلك أن الأسلوب والحجج والبراهين واحدة، سواء كان هؤلاء المتعصبون مسيحيين أم مسلمين أم يهودا، أم حتي بوذيين. ويحضرني هنا كيف أنه من الممكن أن يختلط الأمر عندما يهاجم البعض فكرا ما يطلق عليه الجماعات الإسلامية أو فكر أسامة بن لادن، أو أي مذهب فكري إسلامي، فيؤخذ هذا الهجوم علي أنه هجوم علي الإسلام. نحن أمام تاريخ طويل ظهرت فيه التعصب والتشدد والعنف الذي تشدق بكلمات دينية، والدين منه براء. وهذا الربط التعسفي بين دين ما وبين العنف هو من صفات الجهلاء، فما يحدث اليوم في الغرب من تعصب ضد الإسلام، وهو ما بات يسمي بإسلاموفوبيا الذي نتج بعد حادث 11 سبتمبر الأشهر، تعبيرا عن الجهل بالإسلام. وأما الدارسون والمثقفون فهم لا ينخدعون بالفكر المتعسف لبعض من المسلمين. وعلي سبيل المثال نجد كارين أرمسترونج الراهبة التي هجرت الدير، ودخلت في مرحلة من مراحل الشك، قد كتبت عن رسول الإسلام سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) سيرة من أروع ما كتب عن الرسول، وكثيرا ما هاجمت هؤلاء المتعصبين الجاهلين، وبينت في أكثر من حديث عدم التناقض بين الفكر الإسلامي وبين الفكر التقدمي الحر. وهناك أيضا د. جون اسبيستو الذي يقود حوارا بين المسيحية والإسلام، والذي كتب الكثير من الكتب عن الفكر الإسلامي، أوضح تعدد الرؤي الإسلامية، متخذا أيضا من حياة الرسول مرجعية لبيان الجوانب الإيجابية في هذا الدين الحنيف. وأذكر هذين المثلين _ والأمثلة كثيرة _ لأن أصحابها لم يتحولوا إلي اعتناق الإسلام، ومع ذلك كانوا حياديين في الحكم والرؤية، بينما نجد أن كثيرين ممن قرأوا عن الإسلام، قد اكتشفوا أنه الدين الذي نزل به عيسي، فلم يجدوا غضاضة في الدخول فيه، سعداء بأنهم وجدوا ضالتهم، ومنهم روجيه جارودي الفرنسي، وريتشارد أيتن الإنجليزي، ومراد هوفمان الألماني، وغيرهم كثيرون. ما أريد أن أؤكد عليه هو أن الحيادية نحو الإسلام لا تتطلب بالضرورة اعتناقه، كما أن تقدير والإعلاء من رسالة السيد المسيح عليه السلام، لا تعني أعتناق المسيحية. ومن داخل كل من الدائرتين، لا يعني أن هناك اتفاقا تاما بين فرق المسلمين، أو كنائس المسيحيين، وهذا لا يضير الإسلام أو المسيحية. أقول قولي هذا، ليس فقط توضيحا لرسالة الإسلام السمحاء، ولكن أيضا دفاعا عن رسالة المسيح عليه السلام، وعمن يعتنقوها، فإذا كان هناك تعصب عند البعض، وكأنه لا تصح المسيحية إلا بالهجوم علي الإسلام، فهناك الكثيرون الذين يدعون إلي جوهر المسيحية الأخلاقي، وما تحمله تعاليم السيد المسيح عليه السلام من محبة للعالم أجمع، ومن نشر لكل المباديء الخلقية الرفيعة. وأذكر في هذا الصدد الكلمة الحكيمة التي ألقاها الدكتور يوحنا قلتا في مكتبة الإسكندرية في مارس 2009 عن تجديد الخطاب الديني، مستشهدا فيها بالتراث الصوفي الإسلامي، مؤكدا علي التفرقة بين الخطاب الذي يدعو إلي العداء مستخدما أقوالا مغلوطة من التراث الديني، وبين الرسالات التي جاءت لتنشر المحبة والسلام بين البشر. وكذلك من يقرأ مقالات البابا شنودة في الأهرام، سيجد أنها مليئة بالحكمة والرؤية الأخلاقية السامية التي لا يختلف عليها إثنان. ولكن هذا لا ينفي أن تاريخ المسلمين مليئ بالدماء، بدءا من مقتل عثمان، ثم علي بن أبي طالب، والحسين وفظائع الدولة الأموية والعباسية، ومذابح الدولة العثمانية. ولكن هذا لا ينفي أيضا أن الإسلام قد أحدث ثورة حضارية وأخلاقية علي مستوي العالم أجمع إنعكست في لحظات مضيئة في التاريخ الإسلامي، بدليل التطور الحضاري الذي شهده العالم بعد انتشار الإٍسلام في أرجاء المعمورة. وقد غيرت هذا الحضارة من وجه التاريخ، وأضافت الكثير إلي التراكم العلمي العالمي، فكانت بشيرا بالنهضة الأوربية التي بدأت في القرن الخامس عشر، وهو بداية انحدار الخلافة الإسلامية التي انعزلت عن المباديء الأساسية للإسلام، وغرقت في الحرفية الدينية، وابتعدت عن التقدم العلمي الذي كان قد أحرزه المسلمون في عهود إزدهارهم. ويمتليء تاريخ المسيحيين كذلك بالدماء، فمن يمكنه أن ينسي الحروب الصليبية والأعمال الوحشية المرتبطة بها. ومن يتعرض للحظات الظلام في التاريخ، سيجد أن خطاب العنصرية والتعصب والدعوة إلي العنف والاستعلاء هي مظاهر مشتركة بصرف النظر عما إذا كان هؤلاء ممن يدعون إلي موقفهم بإسم الدين أو يتسمون بأسماء أخري: علمانيين، شيوعيين، تقدميين، ليبراليين أو ما شئت من الأسماء. فهل يعني اندفاع جورج دبليو بوش في حرب العراق وتدمير بلده تدميرا كاملا تحت إدعاءات زائفة أن المباديء التي قامت عليها الولاياتالمتحدة غير حقيقية؟ لقد جاء أوباما مؤكدا أنه يسير علي نهج الأباء المؤسسين، ولكن لا شك أن أسلوبه وفلسفته قد اختلفتا تماما عن سابقه. ولا تعني مهاجمة بوش الابن هجوما علي مباديء الليبرالبية لمن ينهجون هذا النهج. لماذا إذن تقف الكنيسة القبطية مهاجمة لعمل أدبي أراد أن يستخدم أحداثا تاريخية، معبرا بها عن "الكيفية التي يقتل بها التعصب الفكر الحر"، ولماذا يبدو زيدان وكأنه عدو للأقباط. ولا شك أن يوسف زيدان الذي ينتمي إلي الإسلام متأثرا بمبادئه، وهذا أمر لا يعتبر في ذاته تهديدا للمسيحية، فمن المعروف أن هناك أمورا عقائدية أساسية بها اختلافات بين المسيحيين بوجه عام والأقباط بوجه خاص ومع المسلمين. وليس هناك ما يمنع أن يعبر هذا الكاتب عن قناعته ورؤيته، بل ونقده للعقيدة المسيحية انطلاقا من موقفه الإسلامي، ولا يعتبر هذا تقليلا أو إهانة للمسيحيين. ومن ناحية أخري، فلينظر المعترضون علي زيدان إلي الموقف غير المعلن من الأقباط، ذلك أن مجرد إصرار الكنيسة علي أن المسيح قد صلب هو في الواقع موقف ناقد للرؤية الإسلامية، واعتراف ضمني بعدم الإيمان بما جاء في القرآن بإعتباره الكتاب المنزل من عند الله. ومع هذا فإن إنكار ما يعتقده المسلمون، لا يعني أنه إهانة للإسلام، فهذا شأنهم، واختيارهم وحريتهم، بل إن هذا الموقف تعبير عن أخلاقيات الإسلام من ضرورة توفير حرية العقيدة "لكم دينكم ولي دين". ولذا فإن عرض زيدان لبعض أفكاره علي لسان أبطال روايته، لا يجعله عدوا للمسيحية، ولكنه معبر عما يجيش في قلبه وعقله بإعتباره مسلما ينتمي إلي ثقافة الإسلام. إذا أردنا عصرا يتسم بالحرية الحقة فلا بد أن ندافع عن حق الاختلاف، وألا نخلق عداوات أو معارك لا مبرر لها، ذلك أن الحوار يعتمد في المقام الأول علي أن يضع كل في اعتباره موقع الآخر الفكري والأيديولوجي، فلا يعتبره عدوا، لأنه لا يتقق معه. وعلي قدر ما تبدو هذه القضية علي قدر من البساطة، ولكنها تغيب عندما يبدأ السجال يأخذ مكانه بدلا من الحوار.