لم أكن متوقعاً أبداً أن تنزلق قدما الدكتور يوسف زيدان فى مستنقع مظلم، منتقلاً بنا بعيداً عن مناقشة الإبداع الروائى (فى مفهومه) ومبتعداً عن الردود الهادئة والتحليلات الصائبة، داخلاً بنا إلى منعطف جديد وغريب ينأى بنا بعيداً عن الموضوع الفعلى، صادماً قراءه بنوع من صراع محكم أعتبره إفلاساً فكرياً. فالمجال الذى أفسح لنا هو أن يثبت كل منا حقيقة وجهة نظره، أما أن يتحول الميدان إلى ساحة حرب شخصية، مستخدماً سيادته أسلحة الوقيعة وتسخين الأجواء وفن صناعة الفتنة بعد أن فرغت جعبته من الأسلحة الفكرية، فهذا سقوط عظيم لم نكن نتمنى أن يدرك د.زيدان. وقد سئمنا هذا الأسلوب، بل أقول له إن أسلوب الوقيعة لن يجد فى أذن السامعين مستقراً، فنيافة المطران معروف بوطنيته مشهور بسماحته معنون باعتداله، ومراجع د.زيدان فى هذا الموضوع لا ترقى إلى مرجع أمين ولا تستند إلى حقيقة، بل هى خيالات ومقدرة عجيبة على فن ممارسة الوهم. إن اللجوء إلى أسلوب الوقيعة لا يجىء إليه إلا المفلسون، أرجو أن ينأى بنفسه عن هذا الأسلوب، ولكننى أريد أن أطمئنه أن الخلافات المعروفة بيننا وبين باقى الطوائف تناقش فى محافل مهمة على مستوى مجلس الكنائس العالمى ومجلس كنائس الشرق الأوسط وباقى المحافل المهمة، وأفاجئك القول إن نيافة الأنبا بيشوى هو نجم معظم هذه الحوارات بعد أن اختير برؤية ثاقبة وإفراز حكيم من قداسة البابا شنودة الثالث، واضعاً الرجل المناسب فى المكان المناسب متبوئاً عدة مناصب مهمة فى كلا المجلسين، خاصة فيما يخص أمانة التعليم، والمصنف ضمن أعظم عشرين لاهوتياً على مستوى العالم. وأعود فأهدم وقيعة زيدان المؤسسة على الخداع حينما أقول إن محبة كل المشاركين فى هذه المحافل لنيافته أمر لا يمكن إنكاره، ثم إن اختزال الحرب الفكرية فى سياسة تدويخ القارئ فى نقاط بسيطة وإهدار السطور فى أن البيان كان عن الرواية أو حول الرواية مقصود به تشتيت الناس والبعد بهم عن لُبّ الصراع. فردود الأنبا بيشوى مركزة فى الدفاع عن البابا كيرلس الكبير، وعن إثبات الحق المسيحى، والتأكيد على صحة عقائدنا والدفاع المهم عن وجود الله ومقاومة الإلحاد وتأكيد سماحة المسيحية ونبذها للعنف.. هذا هو المجال، فلم التشتيت إذاً؟ وما معناه؟ وما معنى اتهام زيدان للأنبا بيشوى بأنه متخصص فى الرد على الروايات الشهيرة مثل شفرة دافنشى وعزازيل؟ وإننى بالمناسبة أحييه على إقران الروايتين ببعضهما فيما كتبه، لأن كليتهما قد اندمجتا فى عشق عجيب لمحاولة هدم المسيحية، والدليل على ذلك أن هناك عشرات ومئات الروايات التى لم يبال بها نيافته ولا تعنيه فى شىء، لأنها بعدت بنفسها عن مقاومة المسيحية. ثم قال زيدان إن الأنبا بيشوى غير دارس للنقد وهو لا يدرى أننا لسنا بصدد نقد الروايات، فهذا ليس مجالنا الآن ولسنا معنيين به حالياً ولكن نيافته يوثق للحقيقة مدافعاً ضد البدع، ولأن الشىء بالشىء يُذكر فيحضرنى هنا واقعة، وإن كانت لا تقارن بما أتاه زيدان، ولكنها تنهل نفس المنهل -فى نظر البعض- ألا وهى مصادرة مجلة إبداع بسبب نشر قصيدة «شرفة ليلى مراد» التى عابت فى الذات الإلهية. كما لا يفوتنى هنا التلميح إلى الصراع الفكرى الخطير الذى يمارس الآن حول كتابات سيد القمنى تحت عنوان مقاومة الإلحاد، وحتى لا نفهم خطأ فنحن نتحدث عن مبادئ وليس أشخاص وطرق تفكير، وإننى أدعو المخلصين من مثقفى مصر لإعادة قراءة رواية «عزازيل» وسوف لا يكلفون جهداً كبيراً فى اكتشاف الحقيقة كاملة، ويبدو أن موجات الإلحاد لا تجد مدخلاً أميناً لها حالياً إلا فيما يسمى الإبداع الفكرى، ونحن لها بالمرصاد، وإن ادعاء زيدان أن روايته ليست شأناً داخلياً، طالباً منا البعد عنها وعدم مناقشتها، مقراً أنه تاريخ لمصر لخمسة قرون كاملة. فلماذا لم يلجأ لمراجعة التاريخ من مصادره الأمينة، ثم لماذا لجأ لتوثيق تاريخ مصر فى أرض سورية، وهو يعلم أنه لا يمكن أن يجد هذا التاريخ حتى فى الجامعات المصرية، ولا يمكن أن يجده إلا محفوظاً فى كتابات آباء مصر فى كنائس مصرية، فهل يعقل إذا أراد أحد الباحثين أن يوثق لأحد فراعنة مصر أن يذهب إلى بلاد فارس والعكس بالعكس؟ إن الأفضل فى البحث عن الحقيقة أن نرجع إلى أصولنا فى التاريخ، وأماكنها معروفة بدلاً من أن نبحث فى مخفيات حلب عن تاريخ كنيسة الإسكندرية، فلماذا لم يرجع إلى مؤرخى تلك الفترات، معتمداً على اجتهادات شخصية منبثقة من نوازع انتقامية؟ وهل د.زيدان يصنف كباحث مدقق وعالم موثق لإصداراته أم هو كاتب سيناريو لأفلام الخداع الباطلة، فليحدد موقفه لأن التاريخ لن يرحم أحداً.. إن د.زيدان يعيش هو نفسه فى وهم كبير لا يعرف من هو ولا ما هو، ولا يعرف غالبية الناس فكره الحقيقى، فكما أن روايته هى خدعة كبرى هكذا أيضاً كانت معاملته التى خبرناها. فاعتراض الأنبا بيشوى على الجائزة الممنوحة للرواية جاء فى الوقت الذى حارب فيه د.زيدان جميع الأديان انطلاقاً مما كتبه، وهذا نصه (غلبنى الغياب فتركت عزازيل يقول ما يُريد وانصرفت عنه.. بعد حين عُدتُ إليه فكان يتكلم منفرداً. أنصت فوجدت يقول بلغة غريبة ما معناه أن الله محتجب فى ذواتنا والإنسان عاجز عن الغوص لإدراكه ولما ظن البعض فى الزمن القديم أنهم رسموا صورة للإله الكامل، ثم أدركوا أن الشر أصيل فى العالم وموجود دوماً أوجدونى لتبريره.. «هكذا قال.. ص 248 رواية عزازيل». ويُعلق نيافة الأنبا بيشوى على هذا النص قائلاً: إذا كان «هيبا» قد غاب كما صور د.زيدان هذا الموقف، وإذا كان عزازيل زيدان يُنكر وجود نفسه وهو يكلم نفسه بقوله إن البشر قد أوجدوه لتبرير وجود الشر.. ففلسفياً من يكون المتكلم هنا؟ خاصة أن «هيبا» قد استمع ل«عزازيل» وهو يتكلم منفرداً بلغة غريبة. وطالما أن عزازيل لا وجود له فمن يكون المتكلم فى هذه الفقرة باللغة الغريبة إلا الدكتور زيدان الذى اخترع المخطوط السريانى الذى لا وجود له وادعى أنه قام بترجمته وأن الراهب الوهمى «هيبا» قد كتبه. وهكذا نرى أن رواية عزازيل من بنات أفكار الدكتور زيدان توحى بأن الله نفسه هو من صُنع البشر وكذلك أيضاً الشيطان، أليست هذه الرواية دعوة إلى الإلحاد والوجودية وهدم جميع الأديان مستترة وراء الهجوم على الديانة المسيحية فى الإسكندرية»؟ وهل يليق أن يصور الكون الذى هو إبداع الله فى خلقه بأنه حلم عندما يقول: ترى هل يحلم الرب؟ من يدرى فقد يكون هذا الكون بكل ما فيه حُلماً من أحلامه (ص 230 عزازيل)، فإذا كان الكون المخلوق هو مجرد حُلم فى نظره فبالتالى يكون الخالق حُلماً فى مخيلة زيدان. وكان ينبغى للذين قرأوا الرواية مراجعة ضمائرهم فيما يخص دينهم، وعلى العموم فنحن نحيى الكاتب الصحفى والناشر الأستاذ رياض نجيب الريس، الذى استقال من عضوية لجنة أمناء الجائزة اعتراضاً على منحها للرواية. إن الذين مدحوا الرواية - وهم أغلبية مسلمة- والذين أعطوه الجائزة هم أيضاً مسلمون، هم بالطبع يعترفون بوجود الله ويعترفون بوجود الشيطان، وكان ينبغى أن يتم تحذير علماء المسلمين من الخدعة الكبرى المستخدمة فى أنه هاجم المسيحية والمضمون الفعلى فى رغبته لإلغاء جميع الأديان، ومازال أيضاً تحذير الأنبا بيشوى واضحاً وجلياً من نشر فكرة عدم وجود الله داعياً إلى مساحات مشتركة فى الحوار بين الأديان، فلا يوجد مثلاً ما يمنع علماء الدين أن يتعاونوا فيها لمواجهة موجات الإلحاد. أعود إلى د.زيدان فى محاولة الوقيعة بيننا وبين الكاثوليك، فتوجد بيننا وبينهم خلافات عقائدية، ولكننا لا نختلف فى كل ما أورده فى روايته فى العقائد المسيحية، فدفاعنا واحد فى رفض الأريوسية النسطورية، واعترافنا واحد بصلب المسيح وقيامته لأنه هو الكلمة المتجسد الذى تجسد من العذراء مريم ليخلص العالم من الخطية، فهل أسلوب الوقيعة هو أسلوب العلماء فى مناقشة قضايا لا تخص الرواية ولا الرد عليها؟ فإذا كان الأنبا بيشوى قد تعرض لمكانة د.زيدان، كرئيس قسم المخطوطات، لادعاء الأخير أنه أعتمد على مخطوطة وهمية وصور من حفائر سورية، فهل يليق بشخص مسؤول عن المخطوطات أن يخدع القارئ ويدّعى أن هناك مخطوطة يستند عليها يعتبرها حقائق تاريخية وهل يليق مثلاً بالأنبا بيشوى - وهو أحد مطارنة الكنيسة - أن يُوهم الناس أنه وجد إنجيلاً فى مخطوطة وأن هذا الإنجيل فيه الحقائق التى يؤمن الناس بها، ثم يتضح أنه لا وجود لهذا الإنجيل على الإطلاق، فإذا قام بعمل مثل هذا صحفى مثلاً ربما يلتمس له الناس عذراً، لكن لا عذر لأسقف مسؤول يوهم الناس بمخطوط لا وجود له، هكذا أيضاً د.زيدان منصبه لا يتفق مع روايته وما فيها من خداع، فإذا حاول أن يقول إنه واثق من منصبه، فإن المنصب لا يُعطى قيمة للإنسان ولكن الإنسان يكرم المنصب الذى يشغله. إن النزال الشخصى الذى اختاره زيدان يؤكد أن الحرب ليست شريفة، ولكن لأن هناك قضية، ولئلا نفقد جو الحوار الفكرى الذى يؤكد أن فى ردودنا كل الحق فسوف يكون نزالاً من طرف واحد، أما الطرف الآخر فليس بصدد حرب شخصية، فكما قال قداسة البابا: نحن لا نُحارب شخصاً ولكننا نُحارب فكراً، فنزالنا محترم، الفكر بالفكر والحُجة بالحُجة، فلن نتحدث بلا مستند ولم نناقش بلا حُجة حقيقية معتمدة بعيدة عن الرقوق المزيفة، فإهدار الوقت فى السباب والشتائم والوقيعة وتغير الحقائق هو أمر لن نجر إليه ولن نقع فى براثنه، وإننى أتعجب.. لقد أكد د.زيدان منذ أيام قليلة فى مقاله السابق أن الأنبا بيشوى لم يتعرض لشخصه، وامتدح روح الحوار التى جعلت من الدقائق العشرة ثلاث ساعات، ثم يعود فيتحول الأمر الآن لاتهام الرجل بالإرهاب والعنف، مخرجاً رقاً جديداً من نسج الخيال مضمونه أن نيافة المطران قام بتهديد الأستاذ بهاء جاهين ليتراجع عن رأيه، مقدماً اعتذاراً جاء فى تعقيب على مقال الأنبا بيشوى، ولن نرد فى هذا الميدان لأنه ميدان الأستاذ بهاء جاهين، وهل الأستاذ بهاء جاهين شخصية يمكن إرهابها؟ وهل استخدامنا لحق الرد فى جريدة الأهرام هو إرهاب؟ إننا لم نضغط على أحد لكتابة تعليق أو تسجيل تعقيب. ألم يسأل د. زيدان نفسه عن احتمال وجود سيناريو آخر دفع بهاء جاهين لهذا الموقف، لأن يكون مثلاً اكتشاف زيدان على حقيقته ومشاهدته فى ثوبه الحقيقى، والذى يكشف فى سطور الخبث الروائى المرتدية عباءة الإبداع الموجه الذى يتقنه زيدان بجدارة الهدف الحقيقى من وراء الكتاب؟ إن السياسة التى انتهجها د. زيدان فى مقاله السابق وتصوير الظالم كأنه مظلوم، وإعلانه غير المنصف أن الرواية ليس فيها عداء للمسيحية فنسأله الآن: من قام باختراق المقدسات مسقطاً عليها ما ليس فيها، واضعاً الهرطقة كحقيقة ومهمشاً الحق على حساب البدع إلى جانب احتقاره الرهبنة والتشكيك فى الثوابت العقيدية من الصلب والفداء والقيامة، إلى التشكيك فى التاريخ وإنكار رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وللأسف ذلك كله أمثله، فالرواية خزانة تشكيك وقبر مغلق ملىء برائحة الموت المنبعثة من أفكار التزييف؟ لقد سرد د. زيدان فى مقاله الأخير ردود أفعالنا المحترمة الموضوعية الهادئة الممثلة مبدئياً فى بيان الأنبا بيشوى على أنها هجوم وفى ذلك عجب وقمع لحق الرد واستحواذ على الحقيقة وكبرياء أدبى أو إن شئت فهو غير أدبى فرده هو سفسطة لا تمس الموضوع ولكنها تحتضن الظلم. فإن ظن أننا بعيدون عن إدراك مبتغاه فهو واهم، وإن ظن أن مبتغاه سوف يصمد فهو حالم، وإن شئت أن أبحث عن حقيقة ما فيما كتب هى فى إدراكه أن الأنبا بيشوى ليس بمفرده وأنه بالحق - كما قال - معه جيش ولكنه من المدافعين ليس من المهاجمين، على رأس الكل قداسة البابا ومعه أحفاد القديس كيرلس. الرواية إذا هى إشباع لغرائز انتقامية من صديق حميم يعرف معنى الوفاء لصديقه نسطور. إن السقطة الكبرى ل«د. زيدان» فى إعلانه بلا استحياء أن النسطورية قدمت للبشرية خدمات جليلة فى العلوم والترجمات، وأخفى بإتقان أن أهم ما قدمته النسطورية للبشرية هو شرك مبين قاومته كنيسة الإسكندرية وقاومه القديس كيرلس فهاجمه زيدان، هذا الشرك أعلنه «نسطور» منهجاً لبدعته حينما قال «من أجل كرامة الإله الحال فى الإنسان يعبد الإنسان مع الله»، وأظن أن هذا الفكر هو الذى خطف لُبَّ زيدان، وربما استهوته فكرة تأليه الإنسان التى أقرها نسطور وحاربها البابا كيرلس. إنها إذاً ليست «زلة لسان» ولكنها سقطة كبرى تستوجب توبة لا يصنعها إلا الأقوياء، أتمنى ألا يكون ضعيفاً.