إن علي كل طرف قام بعمل معادي لمصر، أو تعامل باستسهال مع أمن مصر القومي، أو أرسل أحد أزلامه ليعيث فيها فسادا، أن يدفع ثمنا لما قام به، وهذا الثمن يجب أن يكون مؤلما، مهما كانت النتائج، وحتي لو اضطرت مصر إلي خوض مواجهات مكشوفة، دون تلك الحسابات المملة، فكل تلك الأطراف تتسم برخاوة وانكشاف غير عاديين، وهي ليست أطرافا ذكية علي الإطلاق، فقد تم اختراقها حتي النخاع في الظهيرة، وأنقذتها مصر مرارا، دون أن ترغب حتي في مجرد طلب الشكر. عندما قام الشيخ حسن نصر الله بحركته التحريضية الشهيرة ضد مصر، في خطاب عاشوراء، خلال حرب غزة، قال أحد المسئولين الفلسطينيين القدامي، الذين مارسوا مثل تلك النشاطات في فترات سابقة، إن الرجل قام بحركة غبية، مضيفا أنه لايقصد بذلك قيام نصر الله بإطلاق تصريحات تحرض الشعب علي الحكومة أو تخاطب الجيش المصري، بما يحمله ذلك من احتمالات رد فعل " قومية مصرية" متوقعة دائما، فمن الممكن أن يفعل ذلك أي شخص، لكنه يقصد أن نصر الله " غبي" من الناحية الفنية. النظرية التي أشار إليها هي أن شخصا مثل نصر الله يعرف القواعد، وهي أنه لايجب أن يطلق نداء سوف يتضح في اليوم الثاني مباشرة أن أحدا لن يستجيب له، وبالتالي لن يكسب سوي عدة ساعات من الضجة الإعلامية قبل أن يواجه معضلة أنه مجرد ظاهرة صوتية. كان المقصود هو أنه إذا قرر " قائد ميداني محنك" مثله أن يحرض، فلابد أن يكون قد أعد شيئا يبدو منه أن هناك رد فعل لتحريضه، فتلك الأمور لاتترك للمصادفات أو العشوائيات. النظرية مستمرة، فلما كان من المستبعد تماما وقتها أن يكون نصر الله قد قام بإعداد أي شئ داخل مصر، فإن ماقام به، يمكن أن يقيم فقط علي أنه غبي. لكن لتلافي اتهام رجل قام بحركات ذكية من قبل بتلك التهمة، كانت هناك تفسيرات أخري، وهي أنه يبرئ زمته أمام القيادات الإيرانية، أو يحاول الحفاظ علي صورته أيا كان الثمن، أو ربما يصدق بالفعل ذلك الهراء الذي يتحدث عن شعبيته الطاغية، ويعتقد أن المنار هي " صوت العرب"، أو ربما يصدق هراء آخر بأن المصريين محتقنون، وأنهم سيتحركون بصورة ما، يمكنه أن يقول فيما بعد أنه مفجرها، كما فعل أحدهم مرة من الجزائر، بعد حادث المنصة عام 1981. الآن، توجد نظرية أخري، وهي أن الرجل لم يكن غبيا كما اعتقد صديقنا الفلسطيني، فقد كان قد أعد بالفعل شيئا داخل مصر في ذلك الحين، وكان يمكنه أن يتابع " التفجيرات" (مثلا)، بسعادة بالغة، تليق بزعيم قومي أدت كلماته إلي هز استقرار مصر العتيدة في اليوم التالي، لكنه يقول إنه لم يخطط لذلك، وإنه قصد فقط تقديم خدمة توصيل أسلحة للفلسطينيين، وإنه يعتقد أن عصابته في القاهرة كانت تتكون من عشرة أشخاص وليس 50 شخصا، وكأن ذلك يحل المشكلة، رغم أنه يتحدث عن تحريك أسلحة عبر دولة يحتاج فيها المرء إلي 30 نموذجا لكي يحمل سلاحا مرخصا به من قبل الدولة، رغم وجود أسلحة غير مرخص بها. إن المسألة كلها تتسم بمستوي غير مسبوق من الرداءة، ولايوجد مايمكن تفسير سلوك الرجل به ببساطة، فمن الصحيح أن لايحترم فكرة الدولة، وأولها دولته نفسها، التي أقام داخلها مربعا أمنيا، وجيشا صغيرا يسميه المقاومة، رغم علم كل طفل في لبنان بحقيقة الأمر في الوقت الحالي، ومن الصحيح أن يرتبط بدولة لم تقدم شيئا للمنطقة سوي محاولات زعزعة الاستقرار في كل مكان، لكن من الصعب تصور أن السيد نصر الله لم يكن يدرك أنه يتجاوز خطا أحمر غير مقبول علي الإطلاق عندما أرسل شخصا من حزبه للعمل في مصر، إلا إذا كان قد أصيب بحالة من الاختلال الحقيقي. لقد جرت العملية كلها قبل تفجر حرب غزة، وليست هناك حاجة للاعتذار عن تبني نظرية المؤامرة في تفسير سلوك دول وشخصيات متآمرة بطبيعتها، فقد ترافقت تلك المسألة مع عملية الشاحنات التي تم ضربها في السودان قبل أن تدخل حدود مصر، ومع أعمال أخري لابد من أنها كانت ترتبط بكل ذلك، قامت بها أطراف في قطر وسوريا في تلك الفترة، ويمكن علي أساسها فهم لماذا كان الجميع يبدون وكأنهم يطلقون كل سهم في جعبتهم بإصرار وحقد وتوتر، مع إحراق كل المراكب، في ظل تصور أن هناك فرصة مؤكدة لاصطياد مصر، علي غرار ماحدث في أثناء حرب غزة. لقد أصدر وزير الخارجية المصري السيد أحمد أبو الغيط تصريحا شهيرا في تلك الفترة، قال فيه إن هناك حربا تشن علي مصر من قبل أطراف في الإقليم، ووقتها ظهر تصور بأنه ربما كان في الأمر مبالغة، لكن مايتضح تباعا، وماقد يتضح في الفترة القادمة، سوف يظهر أن الوزير المصري لم يكن يبالغ علي الإطلاق، وأنه كانت لديه كل المعلومات التي أصبحت معروفة الآن، بعد ثلاثة شهور من نهاية تلك الحرب، إضافة إلي ماسيظهر بعد ذلك، فمصر حريصة تماما قبل أن تمس سوريا أو السودان، ولو بمجرد ذكر بعض الحقائق. إن مصر قد تمكنت من الدفاع عن نفسها ضد مجموعة من " الأوباش" الإقليميين الذين لايجيدون سوي القيام بأعمال تآمرية من النوعية القديمة، التي تتعلق بأعمال سرية وخطط دعائية وعلاقات ظلام، وغيرهم من الأطراف الدولية التي حاولت انتهاز الفرصة لفرض موقف كانوا يعتقدون أنه سوف يمر، ورغم أن مصر وقتها كانت تبدو وكأنها تتصرف برأس ساخنا، إلا أن عقلها كان باردا، بدرجة كانت تمكنها من إدراك الكيفية التي تدار بها الأمور حولها، والتعامل معها بما تستحقه. لكن بصراحة شديدة فإن الدفاع ليس سياسة مريحة علي الإطلاق، ويجب التفكير مائة مرة قبل أن يتم اتخاذ قرار بالاستمرار في إدارة الشئون الإقليمية بتلك الصورة، فمن الصحيح أن مصر قد أظهرت بعض الأنياب الجانبية لبعض الأطراف التي غرقت حتي أذنيها في تلك العملية، ومن الصحيح أن احتفظت بأعصابها تجاه حركة حماس التي كانت شريكا كاملا في الهجوم علي مصر، بدلا من أن ترد عدوان إسرائيل، إلا أنه يجب التفكير في شئ آخر، كانت هناك 10 توصيات بشأنه، حتي قبل حرب غزة، عندما كانت المؤشرات تتتالي، وهي "الاشتباك" مع تلك الأطراف، بشكل مختلف. إن النظريات البالية التي استقرت في الفترة الماضية حول السلوك المسئول يجب أن تشهد تحولا من نوع ما، فلاتوجد دولة يمكن أن تفعل ذلك طوال الوقت، فالسلوك الأمريكي في باكستان يجب أن يدرس جيدا، والسلوك الروسي في أسيا الوسطي، والصينيون لايتركون حقوقهم معلقة في الهواء رغم العقلانية الشديدة لكل هؤلاء، فلقد تغيرت المنطقة بشدة، ويجب أن نتغير، ومن الصحيح أن إيران قد خسرت الموقعة، ومعها كل حلفائها وآخرهم حزب الله الذي يدرك أن ماقام به قد فشل، وأنه سيوضع حاليا تحت المنظار، وأن زعيمه عليه أن يزيد عدد مخابئه التبادلية، لكن لابد من القيام بشئ ما. إن التذكير بالماضي ليس عادة جيدة في كل الأحوال، لكن كل ماتقوم به هذه الأطراف قد قامت به مصر مرارا وتكرارا من قبل، ولديها خبرة هائلة بكل شئ، ومن الصحيح أن العودة للمسارات القديمة قد تمثل مشكلة، لكن يبدو أنه لاتوجد لدينا خيارات كثيرة سوي تنشيط الذاكرة، وتنشيط الأدوات، وبدء مرحلة من الضغط علي مصادر التهديد التي لم تصل فقط إلي الحدود، لكنها تجاوزتها إلي الداخل، ولدينا كل المبررات، حتي لاتتكرر تلك الكلمات السيئة التي سمعناها من حسن نصر الله، فقد كانت أسوأ مما قام به علي الأرض. الأهم، أن الشعب المصري لن يكون متوجسا إذا بدأت دولته بالتحرك بشكل مختلف، فهو يدرك مايدور حوله، وقليل من الحقائق لن يضر، أما بالنسبة للفئات الداخلية التي تتبني اتجاهات الدروشة القومية أو الإسلامية، أو التي ستكون سعيدة بالفوضي، أو التي ستحمل الدولة المصرية مسئولية أي شئ مهما كان، فإنه لايجب الالتفات لأي ردود فعل من جانبها، بل علي الأرجح، فإن ذلك سيؤدي إلي تعقلها، ولنتذكر جمال حمدان، فمثل تلك الأوضاع غير ملائمة لمصر.