استغرب إشغال الرأى العام فى مصر بقضية حول الشذوذ الجنسى قيل إنها مفتعلة، فى حين أن الشذوذ الفكرى لم يلق ما يستحقه من اهتمام. والثانى أخطر بكثير من الأول الذى هو مرض يصيب أفرادا. أما الثانى فهو سموم قد تلوث عقول قطاعات عريضة من الناس. صحيح أننا واجهنا فى أواخر القرن الماضى مرحلة عانينا فيها من الشذوذ فى الفكر الدينى، لكننا لم ننتبه إلى الشذوذ فى الفكر السياسى الذى تسلل إلى ساحتنا الثقافية فى القرن الجديد. لقد غضب الوسط الصحفى فى مصر لأن السفير الإسرائيلى زار رئيسة تحرير مجلة الديمقراطية فى مكتبها بمبنى مؤسسة الأهرام، وكان الصحفيون الوطنيون على حق فى غضبهم ورفضهم لمبدأ اللقاء مع سفير دولة العدو، سواء تم ذلك فى داخل مؤسسة الأهرام أو خارجها. لكن ثمة أصواتا فى الوسط الصحفى تنطق بما هو أكثر فحشا من لقاء سفير دولة العدو. فهى لا تتورط فى سقطة التطبيع فحسب، ولكنها تذهب إلى أبعد حين تتحدث باحتقار وازدراء شديدين عن المقاومين الشرفاء فى الأمة العربية، فتحط من قدرهم وتحض على كراهتهم وتحرض الرأى العام ضدهم. وهى لا تتعاطف مع العدو فحسب، ولكنها تقف معه ضد المقاومة، وتنحاز إليه بأكثر من انحيازها إلى الأمة العربية. لقد استهولت ما قرأته ذات مرة لأحد المسئولين الحاليين فى الأهرام ودعا فيه إلى ضرورة توثيق العلاقات مع إسرائيل، وذهب فى ذلك إلى حد القول بأنه إذا تعارضت علاقات مصر بإسرائيل مع علاقاتها بالدول العربية الأخرى، فينبغى أن يقدم الحرص على العلاقات المصرية الإسرائيلية. ولم أصدق أذنى حين سمعت مسئولا آخر بمركز الدراسات الاستراتيجية يقول على شاشة التليفزيون بعد الإعلان عما سمى بخلية حزب الله إنه يتعين على مصر أن تجرى تنسيقا أمنيا مع إسرائيل لمواجهة أنشطة حزب الله. وحين فوجئ المذيع بذلك وأبدى دهشته إزاء ما سمعه، فإن صاحبنا قال إن هذه هى السياسة دائما، أن تختار بين السىئ والأسوأ. الأغرب مما سبق، ما نقله زميلنا الأستاذ حسنين كروم عن مقال نشرته صحيفة «نهضة مصر» فى 13 أبريل الماضى (حين أثير موضوع خلية حزب الله فى مصر) لأحد الباحثين بمركز الدراسات الاستراتيجية الذى ذكر اسمه (الدكتور محمد عبدالسلام) وهو فى الوقت ذاته عضو بأمانة السياسات بالحزب الوطنى، عنوان المقال كان كالتالى: كيف تتعامل مصر مع «أوباش» الإقليم؟ ومن الفقرات التى أوردها قول الكاتب: «على كل طرف قام بعمل معاد لمصر أو تعامل باستسهال مع أمن مصر القومى أو أرسل أحد أزلامه ليعيث فيها فسادا أن يدفع ثمنا لما قام به، وهذا الثمن يجب أن يكون مؤلما مهما كانت النتائج وحتى لو اضطرت مصر إلى خوض مواجهات مكشوفة دون تلك الحسابات المملة».. وقال عن «حماس» بالنص: «يجب التفكير فى شىء آخر. كان هناك 10 توصيات بشأنه حتى قبل حرب غزة، عندما كانت المؤشرات تتتالى، وهى الاشتباك مع تلك الأطراف. فالسلوك الأمريكى فى باكستان يجب أن يدرس جيدا، والسلوك الروسى فى آسيا الوسطى والصينيون لا يتركون حقوقهم معلقة فى الهواء».. وقال عن حزب الله: إنه: «سيوضع حاليا تحت المنظار.. وأن زعيمه عليه أن يزيد عدد مخابئه التبادلية، لكن لابد من القيام بشىء ما».. وقال عن ردود الأفعال فى مصر التى ستحدث إذا شنت مصر الحرب على «أوباش المنطقة»: «بالنسبة للفئات التى تتبنى اتجاهات الدروشة القومية أو الإسلامية أو التى ستحمل الدولة المصرية مسئولية أى شىء مهما كان، فإنه لا يجب الالتفات لأى ردود فعل من جانبها، بل على الأرجح فإن ذلك سيؤدى إلى تعقلها». صحيح أن هذه كلها «عينات» لحالة الشذوذ الفكرى. لكن ما أحزننى فيها ثلاثة أمور: الأول أنها إفراز مناخ سياسى ملوث، والثانى أن أصحاب تلك الأفكار تجاوزوا بكثير حدود المعقول والمقبول ومارسوا اجتراء مشينا وصادما على القوى الوطنية والنضالية فى العالم العربى، بدعوى عدائها لمصر وتهديد أمنها. أما الأمر الثالث فإن المناخ الملوث لم يفرز هذه النماذج الشائهة فحسب، ولكنه مكَّن لها أيضا. لأن كل واحد من هؤلاء بات يحتل الآن موقعا مهما فى خريطة الإعلام المصرى، وهو ما يدعونا إلى التساؤل: باسم من يتكلمون ولحساب من يعملون؟