في أحد أيام التسعينيات فوجئ زوجي الكاتب علي الشوباشي برؤيتي والدموع تبلل وجهي في صمت حزين سألني بهلع عما بي، فأجبته بأنني أتمني ان "يبعث" جمال عبدالناصر للحظات لأقبل يده وأطلب منه ان يسامحنا لأننا لم نكن نعرفه! أما ما لم نكن نعرفه فهو ماجاء بإحدي المجلات نقلا عن وثيقة من الخارجية الأمريكية تم "الافراج" عنها تقول "ان وزير خارجية إسرائيل طلب من نظيره الأمريكي ان يبلغ بعض دول المنطقة (العربية) شكر تل ابيب علي مساعدة تلك الدول لها علي تحطيم عبدالناصر!! وفي حلقاته الأخيرة من تجربة حياته تحدث الأستاذ محمد حسنين هيكل عن دور بعض القيادات العربية في حرب عام 1967 وإلحاق الهزيمة بمصر ناهيك طبعا عن دور الولاياتالمتحدةالأمريكية والعديد من الدول الغربية في تمكين إسرائيل من تحقيق النصر؟!" وقد اشرت في إحدي رسائلي لمجلة المصور المصرية التي كنت اراسلها من باريس إلي ما كشفت عنه الصحف الفرنسية بصدد تقليد أوسمة لنحو 24 طياراً فرنسياً لمشاركتهم في قصف مصر عام 67.. وربما كان ذلك ورغم ان معظمه كان خافيا هو ما أدركه الوعي الشعبي المصري والعربي فكانت وقفته في مساء التاسع من يونيو وأكد ثقته في عبدالناصر ورفض قراره بالتنحي، واثقا انه سيقود الشعب إلي النصر، ويسكنني يقين بأن وقفة 9 يونيو كانت بداية قرار العبور! واعود إلي هذا اليوم بسبب المقارنة المجحفة التي أجراها الكاتب الذي لا أفوت له كلمة وأعني الكاتب محمد الشبه.. ففي زاويته "شوية حرية" في عدد 9 مارس، تطرق الشبه إلي قضية الرئيس السوداني عمر البشير وقرار المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته بصدد دوره في اقليم دارفور، ودون الدخول في تفاصيل سياسة البشير التي أوصلت السودان إلي ما آل إليه الآن من جهة ومن جهة أخري دواعي المحكمة التي يبدو وكأنها تخصصت في اتهام ومحاكمة "العرب" وحدهم، فإن ما استوقفني في مقال الشبه هو مقارنة "الحشود؟!" التي تهتف للبشير وتلك التي خرجت في يونيو تأييداً لعبدالناصر فهل يعقل المقارنة بين عبدالناصر والبشير؟ ويضيف الشبه سطوراً اطبقت علي عنقي فكادت تخنقني وهو يقول: "والذي ربما لا يعرفه الرئيس البشير أن هذه الحيل السلطوية عفا عليها الزمن وانها انتهت بهزيمة 67 عندما قال الشعب لعبدالناصر لا تتنحي.. ثم اكتشف بعد عدة أسابيع انه كان يجب ان ينحيه ويحاكمه بنفسه" والحقيقة ان الشعب المصري بعد عدة أسابيع، ترسخ يقينه بصوابية موقفه مع معركة رأس العش والتي كانت بداية لحرب الاستنزاف المجيدة التي رفعت فيها قواتنا المسلحة الباسلة رؤوس الأمة العربية عالية كما ان حرب الاستنزاف هي التي بنت جيش العبور العظيم.. وهل فعل بنا عبدالناصر ما فعله البشير في أبناء السودان؟ وهل كان يجب ان "نحاكم" عبدالناصر علي تأميم قناة السويس وبناء السد العالي ورفع مستوي معيشة الإنسان المصري الأكثر فقرا؟ هل كان يجب محاكمة عبدالناصر لأنه مات فقيرا لم تعثر المخابرات الأمريكية والإسرائيلية علي "مليم" واحد في حساب له بالخارج وطبعا فشل اعداؤه في الداخل في العثور علي أكثر من نحو أربعمائة جنيه في حسابه بأحد البنوك المصرية؟ ومن أين جاء العزيز محمد الشبه بأن الشعب المصري اكتشف بعد عدة أسابيع انه كان يجب ان ينحيه ويحاكمه بنفسه.. بينما هذا الشعب ودع عبدالناصر في جنازة مهيبة هي الأكبر في التاريخ وذرف بدل الدموع دما وهو يبكي قطعة من القلب اختطفها الموت قبل اكتمال حلم التحرير الذي كان شغل الشاغل منذ الهزيمة والعدوان المتعدد الجنسيات الغاشم الذي كانت إسرائيل مجرد ستار له وهو ما يؤكده موقف جميع الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي أيضا قتلتنا بترسانة "الفيتو" الذي أهدر كل حقوقنا وعطل، بصفاقة وغطرسة وتجبر، قرارات الشرعية الدولية واسبغ حماية بغيضة علي دوام الاحتلال مع العلم ان القانون الدولي لا يبيح الاستيلاء علي أراضي الغير بالقوة المسلحة.. ومما يؤكد ان المقارنة بين البشير وعبدالناصر ينطبق عليها المثل القائل "ايش جاب لجاب" ان صور عبدالناصر مازالت بعد ما يقرب من أربعين عاما علي رحيله، يرفعها المتطلعون إلي الحرية والمقاومون للظلم في كل مكان بالوطن العربي بل وحتي في انحاء متفرقة من العالم.. مازلت أذكر بعد صدور أحكام الطيران عام 68 وغضبة الطلبة والعمال كيف اخترق عبدالناصر عبدالناصر الشادر الذي أقامه عمال حلوان والتصفيق المدوي تحية له وهو ما حدث ايضا في جامعة القاهرة عندما أصر علي اللقاء بالطلبة الغاضبين.. وإذا كان خروج الشعب المصري بالملايين في القاهرة أمرا طبيعياً لأن الزعيم مصري، فكيف نفسر خروج الملايين في جميع العواصم والمدن العربية في 9 يونيو 67 وفي 28 سبتمبر 1970.. هل خرجت مثلا مظاهرة واحدة "تهتف بحياة البشير" وتطلب منه البقاء؟ علما بأنني أعارض مثلك بكل كياني تدخل الغرب في وطننا العربي لأن عبارة وزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كيسنجر كابوس يلازمني: ان اكبر ضمان لبقاء إسرائيل في المنطقة العربية هو تفتيت المنطقة إلي دويلات عرقية وطائفية! لكن لا مقارنة في رأيي.. بين عبدالناصر.. والبشير! فمازالت ترن في اذني عبارة: مكتوب علي سلاحنا عبدالناصر كفاحنا!