العالم بأسره، والبشرية كلها مشغولان بكيفية مواجهة هذا الزلزال المالي الاقتصادي الكوني، والذي ستكون له بكل تأكيد تداعيات وتوابع جيوسياسية وجيواستراتي جية علي النظام العالمي، بينما نخبتنا مشغولة حتي أذنيها في المحاكمة الفقهية لقضية أكل عليها الدهر وشرب العالم كله مشغول بالأزمة المالية الخطيرة التي تهدد اقتصاديات معظم الدول في شتي القارات. وبالتأكيد فإن هذا الانشغال له ألف سبب وسبب لأن هذه الأزمة البنيوية الخطيرة تضع العالم في مفترق طرق، كما أنها لا تصيب الدول الغنية فقط وإنما ستمتد تداعياتها وتوابعها إلي الدول الفقيرة بل إن فقراء العالم سيتحملون النصيب الأكبر من المعاناة الناجمة عنها. وبينما الناس من مختلف الجنسيات والأديان والقارات يفكرون في كيفية النجاة من أحوال هذا "التسونامي" الاقتصادي والمالي العالمي بعد أن فجرته السياسات المغامرة والمتطرفة والأنانية وضيقة الأفق، ل "المحافظين الجدد" في الولاياتالمتحدةالأمريكية، نجد أن النخبة المصرية مشغولة بالجدل حول تصريحات وزير الثقافة، فاروق حسني التي دعا فيها إلي التسامح مع الديانات الأخري سماوية كانت أم أرضية. الدعوة ليس فيها "اختراع" أو "ابتكار" من الوزير الفنان فاروق حسني بحيث تفجر هذا الجدل الهائل، بل إنها مجرد إعادة إنتاج لفكرة قديمة جدا توافقت عليها البشرية منذ قرون، حتي أصبحت في عداد "المسلمات". لكن الأمر بالنسبة لنا مختلف فما تعتبره البشرية كلها من قبيل المسلمات مايزال موضع جدل في نظر قسم من النخبة المصرية وسبب هذا الجدل الساخن هو صفة الأرضية التي أطلقها الوزير فاروق حسني علي بعض الديانات تمييزا لها عن الديانات السماوية أي اليهودية والمسيحية والإسلام بحسب الترتيب التاريخي. فكيف يجرؤ الوزير علي الحديث عن ديانات أرضية؟! وعندما تساءل هؤلاء الذين أثارهم تصريح فاروق حسني: ما الخطأ في الدعوة إلي التسامح مع ديانات أرضية مثل البوذية والهندوسية وغيرهما من المعتقدات علما بأن عدد أتباع هذه الديانات الأرضية يصل إلي مليارات؟! تأتيك الإجابة الغاضبة: هذه ليست ديانات لأن الديانات لابد أن تكون سماوية وبالتالي فإن الحديث عن أديان أرضية كفر وتخريف والعياذ بالله! وهذا يطرح تساؤلات حول تلك المؤسسات التي تستقطب قطاعا لا يستهان به من النخبة المصرية والتي أقامت الدنيا ولم تقعدها بسبب هذا التصريح العابر والعادي جدا لوزير الثقافة. التساؤل الأول يتعلق بأولويات هذه النخبة والواضح من خطابها الثقافي والفكري أنها تضع نفسها خارج التاريخ، بل وفي مواجهة البشرية في بعض الأحيان. فها هو العالم بأسره، والبشرية كلها مشغولان بكيفية مواجهة هذا الزلزال المالي الاقتصادي الكوني، والذي ستكون له بكل تأكيد تداعيات وتوابع جيوسياسية وجيواستراتيجية علي النظام العالمي، بينما نخبتنا مشغولة حتي أذنيها في المحاكمة الفقهية لقضية أكل عليها الدهر وشرب وتصر علي أن تغرق المجتمع كله في الجدل السفسطائي حول هذه القضية التي لم تعد قضية أصلا للغالبية الساحقة من البشر بينما تواجه المجتمع المصري والمجتمعات العربية والإسلامية تحديات حقيقية وقضايا جدية تتعلق بالسياسة والاقتصاد وشئون المجتمع ومستقبل الأجيال القادمة، بل وبقاء هذه المجتمعات أصلا. فهل المطلوب منا طبقا لأجندة هذه المؤسسات أن نترك إشكاليات الديمقراطية وسائر تفاصيل عملية الإصلاح السياسي، وإشكاليات التنمية وتخليص بنية اقتصادنا من التشوهات وعلاج الخلل في هياكل التوزيع وغير ذلك من تحديات إقليمية ودولية ومناخية وأن نقوم بتقطيع هدوم بعضنا البعض في جدل عقيم لا جدوي منه عما إذا كانت هناك ديانات أرضية أم لا؟ ثانيا: لماذا تصر هذه المؤسسات علي أن تصنيفها هي للعقائد والديانات الأخري هو التصنيف الوحيد الذي ينبغي علي الجميع الالتزام به وعدم قبول أي تصنيف آخر؟! ثالثا: ماذا يضيرنا في أن يطلق أتباع تلك العقائد غير السماوية صفة الأديان علي هذه المعتقدات؟! ماذا يضيرنا مثلا أن يعتبر البوذيون عقيدتهم "ديانة"؟ وهل رأيهم هذا يجبرنا علي أن نقدس البوذية؟ رابعا: أليس ديننا الإسلامي الحنيف هو الذي يقول بوضوح لا لبس فيه "لكم دينكم ولي دين"؟ فلماذا هذا التزمت الذي يتشبث به بعض المسلمين، بينما الإسلام بريء منه لأنه يدعو بالعكس إلي التسامح وبعض الحرية للإنسان "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". خامسا: هذا الجدل ليس سوي صفحة من مجلد كبير عنوانه "الافتئات علي حرية العقيدة" فنحن لدينا مشكلة بهذا الصدد وهذه المشكلة ظهرت وتعقدت مع استشراء هذا التيار المتزمت والمتطرف الذي يستسهل تكفير الآخر وحرمانه من حقه المشروع في "الاختلاف". سادسا: ليست المشكلة مع هذه المؤسسات فيما تعتقد أنه الصواب، فهذا حقها وهي حرة في أن تتبني ما تشاء من آراء لكن الذي ليس من حقها أن تحاول فرض ما تراه علي الجميع أو بسط وصايتها علي خلق الله بحيث لا يكون من حق أحد سوي أن يقول "آمين" لكل ما تقول وتري. سابعا: يبدو أن هناك ترصدا وتربصا بوزير الثقافة علي نحو خاص، حيث أصبح كل تصريح يصدر عنه يتحول إلي مادة مثيرة للجدل وربما لا يكون شخص الوزير فاروق حسني هو المقصود بل إن المقصود فعلا هو الجهة المسئولة عن إنتاج ثقافة أخري مغايرة لثقافة تلك المؤسسات ومحاولة إرباكها أو شل حركتها تحت وطأة هذا الإرهاب الفكري المتكرر والمتصل. وربما تساهم الدولة ذاتها في تحقيق بعض أهداف هذه المؤسسات وإن يكن بصورة غير مباشرة وذلك عن طريق افتقارها إلي الاتساق والحزم في التقدم الواثق والحاسم صوب إقامة دولة مدنية حديثة تقوم علي القانون ونبذ تديين السياسة أو تسييس الدين. وقد آن الأوان لأن تحسم الدولة ترددها قبل أن يتسع الخرق علي الراقع.